Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 112-112)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في " إذ " وجهان : أحدهما : أوحيتُ إلى الحواريِّين ، إذ قال الحَوَارِيُّونَ . الثاني : اذكر إذْ قال الحوارِيُّون . قرأ الجمهورُ " يَسْتَطِيعُ " بياء الغيبة " رَبُّكَ " مرفوعاً بالفاعلية ، والكسائيُّ : " تَسْتَطِيعُ " بتاء الخطاب لعيسى ، و " رَبَّكَ " بالنصب على التعظيم ، وقاعدتُه أنه يُدْغِمُ لام " هلْ " [ في أحرف منها هذا المكان ، وبقراءة الكسائيِّ قرأتْ عائشةُ ، وكانت تقول : " الحواريُّونَ أعْرَفُ بالله ] مِنْ أن يقولوا : هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ " وإنما قالوا : هَلْ تستطيعُ أن تَسْأل رَبَّكَ ؛ كأنها - رضي الله عنها - نَزهَتْهُمْ عن هذه المقالةِ الشنيعة أنْ تُنْسَبَ إليهم ، وبها قرأ معاذٌ أيضاً وعليٌّ وابن عبَّاس وسعيدُ بنُ جُبَيْر قال معاذ رضي الله تعالى عنه : أقرأنِي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " هل تَسْتَطِيعُ رَبكَ " بالتَّاء . وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة : هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أم لا ؟ فجمهور المُعْربين يقدِّرونَ : هل تستطيع سُؤال رَبِّكَ ، وقال الفارسيُّ : " وقد يُمْكِنُ أنْ يُسْتغنَى عن تقدير " سُؤالَ " على أن يكون المعنى : هَلْ تستطيعُ أنْ يُنَزِّلَ رَبُّكَ بدُعَائِكَ ، فيردُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدلُّ عليه ما ذُكِر من اللفظ " ، قال أبو حيان : " وما قاله غيرُ ظاهرٍ ؛ لأنَّ فعله تعالى ، وإنْ كان مسبَّباً عن الدعاءِ ، فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى " . واختار أبو عُبَيْد هذه القراءةَ ، قال : " لأنَّ القراءة الأخرى تُشْبِهُ أن يكونَ الحواريُّون شَاكِّينَ ، وهذه لا تُوهِمُ ذلك " ، قال شهاب الدين : وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمِنينَ ، وهذا هو الحَقُّ . قال ابن الأنباري : " لا يجوزُ لأحد أن يتوَهَّم على الحواريِّين ؛ أنهم شَكُّوا في قُدْرة الله تعالى " ، وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشريِّ أنهم ليسوا مؤمنينَ ليس بجيِّدٍ ، وكأنه خارقٌ للإجْماعِ ، قال ابن عطية : " ولا خلاف أحفظُه أنَّهم كانوا مُؤمِنِينَ " ، فأمَّا القراءةُ الأولى ، فلا تَدُلُّ له ؛ لأن الناس أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ ، منها : أنَّ معناه : هل يَسْهُلُ عليكَ أن تَسْألَ رَبَّكَ ؛ كقولك لآخر : هَلْ تستطيعُ أن تَقُومَ ؟ وأنت تعلمُ استطاعته لذلك ، ومنها : أنهم سألُوهُ سؤال مستَخْبِرٍ : هل يُنَزِّلُ أم لا ، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا ، ومنها : أنَّ المعنى هل يفعلُ ذلك ، وهل يقع منه إجابةٌ لذلك ؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زَيْدٍ ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيني كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَوضَّأُ ؟ أي : هل تُحِبُّ ذلك ؟ وقيل المعنى : هل يَطْلُب ربُّكَ الطاعةَ من نُزُولِ المائدةِ ؟ قال أبو شَامَة : مثلُ ذلك في الإشْكال ما رواه الهَيْثَمُ - وإن كان ضعيفاً - عن ثابتٍ عن أنس - رضي الله عنهما - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ أبا طالبٍ في مرض ، فقال : يَا ابْنَ أخِي ، ادعُ رَبَّكَ الذي تَعْبُدُهُ فَيُعَافيني ، فقال : اللهُمَّ اشْفِ عَمِّي ، فقام أبو طالبٍ ، كأنما نَشِطَ من عقالٍ ، فقال : يا ابْنَ أخِي ، إنَّ ربَّكَ الذي تَعْبُدُ ليُطِيعُكَ ، قال : وأنْتَ يا عَمَّاه ، لو أطَعْتَهُ ، أو : لَئِنْ أطَعْتَ اللَّهَ ، لَيُطِيعَنَّكَ " ، أي : لَيجيبَنَّكَ إلى مقْصُودك ، قال شهاب الدين : والذي حَسَّنَ ذلك المقابلةُ منه صلى الله عليه وسلم للفْظِ عَمِّهِ ، كقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] وقيل : التقدير : هَلْ يُطِيعُ ؟ فالسينُ زائدة ؛ كقولهم : اسْتَجَابَ وأجَابَ ، قال : [ الطويل ] @ 2086 - وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ @@ وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ من قال : " إنَّ " يَسْتَطِيع " زائدةٌ " ، والمعنى : هل يُنَزِّلُ رَبُّكَ ؛ لأنَّه لا يُزادُ من الأفعال إلاَّ [ " كَانَ " بشرطَيْنِ ، وشَذَّ زيادةُ غيرها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب ، على أنَّ الكوفيِّين يُجيزُون زيادةَ بعض الأفعال ] مطلقاً ، حَكَوْا : " قَعَدَ فلانٌ يَتَهَكَّمُ بِي " ؛ وأنشدوا : [ الوافر ] @ 2087 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ @@ وحكى البصريُّون على وجْه الشُّذُوذِ : " مَا أصْبَحَ أبْرَدَهَا ، ومَا أمْسَى أدْفَأهَا " يعنون الدُّنْيَا . قال ابنُ الخطيبِ : وأمَّا القراءَةُ الثَّانِيَةُ ففيها إشْكَالٌ ، وهو أنَّهُ تعالى حَكَى عنهُم أنَّهم قالُوا : " آمنَّا واشهدْ بأنَّا مُسْلمُون " ، وبعد الإيمانِ كَيْفَ يَجُوزُ أن يقال : إنهم بقوا شاكِّين في اقتدار اللَّهِ على ذلك ؟ . والجوابُ عنه من وُجُوهٍ : الأول : أنَّهُ - تبارك وتعالى - ما وَصَفَهُم بالإيمان والإسلام بل حَكَى عنهم ادِّعَاءَهم لَهُمَا ، ثمَّ تَبعَ ذلك بقوله - حِكَايةً عَنْهُم - { هَلْ يسْتَطيعُ ربُّكَ أَن يُنَزِّلَ علَيْنَا مَائِدَةً من السَّماءِ } ؟ فدلَّ ذلك على أنَّهُم كَانُوا شاكِّين مُتَوقِّفِين ، فإنَّ هذا اللَّفْظَ لا يَصْدُر مِمَّنْ كان كَامِلاً في الإيمان . وقالوا : { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } ، وهذا يَدُلُّ على مَرَضٍ في القَلْب ، وكذا قَوْلُ عيسى - عليه الصلاة والسلام - لهم : { اتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤمنين } ، يَدُلُّ على أنَّهُم ما كانوا كامِلِين في الإيمان . الثاني : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين إلاَّ أنَّهُم طَلَبُوا هذه الآية لِيحْصُلَ لهم مَزِيد الطمأنينة ، فلهذا السَّبِب قالوا : " وتَطْمئنَّ قُلُوبنا " . الثالث : أنَّ مُرادَهُمُ استفهام أن ذلك هل هو كافٍ في الحِكْمةِ أم لا ؟ وذلك لأنَّ أفْعَال اللَّهِ تعالى لمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً على رِعايَةِ وجُوهِ الحكمة ، فَفِي الموْضِع الَّذِي لا يَحْصُل فيه شَيْءٌ من وُجُوهِ الحِكْمَةِ يكونُ الفِعْلُ مُمْتَنِعاً ، فإنَّ المُنَافيَ من جِهَةِ الحكمة كالمنافي جِهَة القُدْرَةِ ، وهذا الجوابُ يَتَمَشَّى على قَوْلِ المُعْتَزِلَة . وأمَّا على قَوْلِنا فهو مَحْمُولٌ على أنَّه تَبارك وتعالى هل قَضَى بذلك ؟ وهل عَلِمَ وُقُوعه ؟ فإن لَمْ يَقْضِ به ، ولَمْ يعلم وُقُوعه كان ذلك محالاً غيْرَ مَقْدُورٍ ؛ لأن خلافَ المَعْلُوم غَيْرُ مَقْدُورٍ . الرابع : قال السديُّ : إن السِّين زَائِدةٌ ، على أنَّ اسْتَطَاع بمعنى أطاعَ كما تقدَّم . الخامس : لعل المُرادَ بالرَّبِّ جِبْرِيل ؛ لأنَّهُ كان يُرَبِّيهِ ويَخُصُّهُ بأنْوَاع الإعَانَةِ ، لقوله - تبارك وتعالى - في أوَّلِ الآية { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [ المائدة : 110 ] ، والمعنى : أنَّك تَدَّعِي أنه يُرَبِّيك ، ويَخُصُّكَ بأنْوَاع الكَرَامَةِ ، فهل يقدر على إنْزَالِ مَائِدَةٍ من السَّمَاءِ عَلَيْك ؟ . السادس : ليْسَ المَقْصُود من هذا السُّؤال كونَهُم شاكِّين فيه ، بل المَقْصُود تَقْرِير أن ذلك في غاية الظُّهُور ، كمن يَأخُذُ بِيَدِ ضعيفٍ ، ويقول : هل يَقْدِر السُّلْطَان على إشْبَاع هذا ، وبكون غَرَضُه أنَّ ذلكَ أمْرٌ واضِحٌ لا يجُوزُ للعَاقِل أن يَشُكَّ فيه . قوله " أن يُنَزِّلَ " في قراءةِ الجماعة في محلِّ نصب مفعولاً به ، أي : الإنْزالَ ، وقال أبو البقاء - رحمه الله تعالى - : والتقدير : على أن يُنَزِّلَ ، أو في أن يُنَزِّلَ ، ويجوزُ ألاَّ يحتاج إلى حرف جرٍّ على أن يكون " يَسْتَطِيع " بمعنى " يُطِيقُ " [ قلت : إنما احتاج إلى تقدير حَرْفي الجَرِّ في الأول ؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة ، وأمَّا قوله أخيراً : إنَّ " يَسْتَطيعُ " بمعنى " يُطِيقُ " ] فإنما يَظْهرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشريِّ من كونهم ليسوا بمؤمنين ، وأمَّا على قراءةِ الكسائيِّ ، فقالوا : هي في محلِّ نصْبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر ، أي : هلْ تستطيعُ أنت أن تسألَ ربَّكَ الإنْزالَ ، فيكون المصدرُ المقدَّرُ مضافاً لمفعوله الأوَّل ، وهو " رَبُّكَ " ، فلمَّا حُذِفَ المصدرُ ، انتصب ، وفيه نظرٌ ؛ من أنهم أعمَلُوا المصدر مضمراً ، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين ، يُؤوِّلُونَ ما وردَ ظاهرُه ذلك ، ويجوز أن يكون " أنْ يُنَزِّلَ " بدلاً من " رَبُّكَ " بدل اشتمالٍ ، والتقديرُ : هل تستطيعُ ، أي : هل تُطِيقُ إنزال الله تعالى مائدةً بسببِ دعائِكَ ؟ وهو وجهٌ حسن . و " مَائِدَةً " مفعول " يُنَزِّلُ " ، والمائدة : الخِوانُ عليه طعامٌ ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ ، هذا هو المشهور ، إلا أن الراغب قال : " والمائدةُ : الطبقُ الذي عليه طعامٌ ، ويقال لكلِّ واحدٍ منها مائدةٌ " ، وهو مخالفٌ لما عليه المعظمُ ، وهذه المسألة لها نظائرُ في اللغة ، لا يقال للخوانِ مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ ، وإلا فهو خوانٌ ، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ ، وإلا فهي قدحٌ ، ولا يقال ذنُوبٌ وسَجْلٌ إلا وفيه ماء ، وإلا فهو دَلْو ، ولا يقال جرابٌ إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهابٌ ، ولا قَلَمٌ إلاَّ وهو مَبْريٌّ وإلا فهو أنْبُوبٌ ، واختلف اللغويون في اشتقاقها ، فقال الزجَّاج - رحمه الله تعالى - : " هي من مَادَ يَمِيدُ إذا تحرَّك ، ومنه قوله : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [ الأنبياء : 31 ] ومنه : مَيْدُ البَحْرِ " ، وهو ما يُصِيبُ راكبَه ، فكأنها تميدُ بما عليها من الطعام . وقال أهلُ الكوفة : لأنها تميدُ بالآكِلِينَ ، قال الزجَّاج - رحمه الله تعالى - : " وهي فاعِلةٌ على الأصلِ " ، وقال أبو عُبَيْدٍ : " هي فَاعِلَةٌ بمعنى مفعُولَة مشتقَّةٌ من مادهُ بمعنى أعْطَاهُ ، وامتادَهُ بمعنى اسْتَعْطَاهُ ، فهي بمعنى مَفْعُولَة " ، قال : " كَعِيشَةٍ راضيةٍ " وأصلُها أنها ميدَ بها صاحبُها ، أي : أعْطِيَهَا ، والعربُ تقول : مَادَنِي فلانٌ يَمِيدُنِي ، إذا أدَّى إليَّ وأعْطَانِي وقال أبو بَكْرِ بنُ الأنباريِّ : " سُمِّيتْ مائدةً ؛ لأنها غياثٌ وعطاءٌ ، من قول العرب : مَادَ فلانٌ فُلاناً إذا أحْسَنَ إلَيْه " وأنشد : [ السريع ] @ 2088 - إلى أميرِ المُؤمِنِينَ المُمْتَادْ @@ أي : المُحْسنِ لرعيَّته ، وهي فاعلةٌ من المَيْدِ بمعنى مُعْطِيَةٍ ، فهو قريبٌ من قولِ أبِي عُبَيْدٍ في الاشتقاقِ ، إلا أنَّها عنده بمعنى فاعلةٍ على بابها ، وابنُ قتيبة وافق أبا عُبَيْدٍ في كونها بمعنى مَفْعُولَة ، قال : " لأنَّها يُمَادُ بها الآكلُونَ أي يُعْطَوْنَهَا " ، وقيل : هي من المَيْدِ ، وهو الميلُ ، وهذا هو معنى قول الزجَّاج . قوله تعالى : " مِنَ السَّماءِ " يجوز أنْ يتعلَّق بالفعلِ قبله ، وأنْ يتعلَّق بمحذوف ؛ على أنه صفةٌ لـ " مَائِدَة " ، أي : مائدةً كَائِنَةً من السَّماءِ ، أي : نازلةً منها . قوله تعالى : { قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } : فلا تَشكُّوا في قُدْرَة الله - تعالى - . وقيل : اتَّقُوا الله أن تَسْألُوه شَيْئاً لَمْ تسْأله الأمَمُ السَّابِقَة من قَبْلِكُم ، فَنَهَاهم عن اقْتِراحِ الآيَات بَعْدَ الإيمان . وقيل : أمَرَهُمْ بالتَّقْوى سَبَباً لِحُصُول هذا المَطْلُوب ، كقوله - تبارك وتعالى - : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35 ] .