Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 116-117)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اختلَفُوا في هذا القَوْلِ ، هَلْ وقع وانْقَضَى ، أو سيقع يوم القيامة ؟ على قولين : الأول : قال بعضُهم : لمَّا رفعهُ إليه ، قال له ذلك ، وعلى هذا فـ " إذْ " و " قَالَ " على موضوعهما منَ المُضِيِّ ، وهو الظاهر ، وقال بعضُهم : سيقولُه له يَوْمَ القيامة ؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [ المائدة : 109 ] [ الآية ] ، وقوله بعد هذا : { يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] وعلى هذا فـ " إذْ " ، و " قَالَ " بمعنى " يَقُولُ " ، وكونُها بمعنى " إذَا " أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ : إنها زائدةٌ ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليْسَتْ بالسهلة . قوله : " أأنْتَ قُلْتَ " دخلت الهمزةُ على المبتدأ ؛ لفائدةٍ ذكرها أهل البيان ، وهو : أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ ، وشُكَّ في نسبته إلى شخص ، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة ، فيقال : " أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً " ، فَضَرْبُ زَيْدٍ قد صدر في الوجود ، وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطَبِ ، وإنْ شُكَّ في أصل وقوعِ الفعلِ ، أولِيَ الفعلُ للهمزة ، فيقال : " أضَرَبْتَ زَيْداً " ، لم تَقْطع بوقوعِ الضرب ، بل شَكَكْتَ فيه ، والحاصلُ : أنَّ الهمزةَ يليها المشكوكُ فيه ، فالاستفهامُ في الآية الكريمة يُراد به التقريعُ والتوبيخ لغير عيسى - عليه السلام - وهم المتَّخِذُون له ولأمِّه إلهَيْنِ ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن الاتخاذَ قد وقع ولا بُدَّ ، واللام في " للنَّاس " للتبليغِ فقط ، و " اتَّخِذُوني " يجوز أن تكون بمعنى " صَيَّرَ " ، فتتعدَّى لاثنين ، ثانيهما " إلَهَيْنِ " ، وأن تكونَ المتعدية لواحدٍ فـ " إلَهَيْنِ " حالٌ ، و { مِن دُون الله } فيه وجهان : أظهرهما : أنه متعلقٌ بالاتخاذ ، وأجاز أبو البقاء - رحمه الله تعالى - وبه بدأ - أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ ؛ على أنه صفةٌ لـ " إلَهَيْنِ " . فإن قيل : كَيْفَ يَلِيقُ الاسْتِفْهَامُ بعلاَّمِ الغُيُوب ؛ وأيضاً النَّصَارَى لا يَقُولُون بإلهِيَّة عيسى [ - عليه الصلاة والسلام - ومريم ] . فالجوابُ عن الأول : أنَّه على سبيلِ الإنْكَارِ ، وقَصْدُ هذا السُّؤال تَعْرِيفُهُ أنَّ قَوْمَهُ غيرُوا بعده ، وادَّعَوْا عليه مَا لَمْ يَقُلْهُ . والجوابُ عن الثَّانِي : أنَّ النَّصَارى يَعْتَقِدُون أنَّ المُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ على يَدِ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَرْيَم - عليها السَّلام - لم يَخْلُقْهَا الله تعالى ، بل عيسى ابن مريم - عليهما الصَّلاة والسَّلام - فاللَّهُ ليس خَالِقُهمَا ، فصحَّ أنهُم أثْبَتُوا في حَقِّ بَعْضِ الأشْيَاء كون عيسى - عليه السلام - ومريم إلهيْنِ من دُون الله ، [ مع أنَّ اللَّه لَيْس إلهاً لَهُ ] ، فصحَّ بهذا التَّأويلِ هذه الحِكايَةُ . وقال القُرْطُبِي - رحمه الله - : فإن قيل : النَّصَارَى لم يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إلهاً ، فكَيْفَ قال ذَلِكَ فيهم ؟ . فقيل : لمَّا كان من قَولِهِمْ أنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَراً ، وإنَّما وَلَدَتْ إلهاً ، لَزِمَهُم أنْ يقُولُوا : إنَّها لأجْل البَعْضِيَّة بمثابة من ولدَتْه ، فصارُوا حين لزمهُم ذلك بمثابَةِ القائِلين لهُ . فإن قيل : إنَّهُ - تبارك وتعالى - إن كان عَالِماً بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - لم يَقُلْ ذلك ، فلم خاطَبَهُ به ؟ فإن قُلْتُم : الغَرَضُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارى وتَقْرِيعُهُم ، فنقُولُ : إنَّ أحَداً من النَّصَارى لَمْ يَذْهَبْ إلى القَوْلِ بإلهيَّةِ عيسى ومريم مع القول بنَفْي إلهيَّةِ الله تعالى ، فكيْفَ يجُوزُ أن يُنْسَبَ هذا القوْلُ إليْهِمْ ، مع أنَّ أحَداً منهم لَمْ يَقُلْ به ؟ . فالجوابُ : أنَّ الله تعالى أرَادَ أنَّ عيسى يُقِرُّ على نَفْسِهِ بالعُبُودِيَّةِ فَيَسْمع قَوْمُهُ ، ويَظْهَرُ كذبُهُمْ عليه أنَّه أمَرَهُم بذلك . قوله : " سُبْحَانَك " أي : تنزيهاً لك ، وتقدَّم الكلام عليه في البقرة [ الآية : 32 ] ، ومتعلَّقُه محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشريُّ : " سُبْحانَكَ مِنْ أن يكُونَ لك شَرِيكٌ " ، وقدَّره ابن عطية : " عَنْ أنْ يُقالَ هذا ، ويُنْطَقَ به " ورجَّحَهُ أبو حيان - رضي الله عنه - لقوله بَعْدُ : { ما يكونُ لي أن أقُولَ } . قوله : " أنْ أقُولَ " في محلِّ رفع ؛ لأنه اسمُ " يكُونُ " ، والخبرُ في الجارِّ قبله ، أي : ما يَنْبَغِي لي قولُ كذا ، و " مَا " يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ ؛ فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ ، فمحلُّها النصبُ ، فإنَّ " مَا " منصوبةٌ بـ " أقُولَ " نصب المفعول به ؛ لأنها متضمِّنةٌ لجملة ، فهو نظيرُ " قُلْتُ كلاماً " ، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوَّل " أقُولَ " بمعنى " أدَّعِي " أو " أذْكُرَ " ، كما فعله أبو البقاء رحمه الله وفي " لَيْسَ " ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمها ، وفي خبرها وجهان : أحدهما : أنه " لِي " ، أي : ما لَيْسَ مستقرّاً لي وثابتاً ، وأمَّا " بِحَقٍّ " على هذا ، ففيه ثلاثةُ أوجه ، ذكر أبو البقاء منها وجهين : أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في " لي " . قال : والثاني : أن يكون مفعولاً به ، تقديره : ما ليس يَثْبُتُ لي بسببِ حقٍّ ، والباءُ متعلِّقةٌ بالفعلِ المحذُوف ، لا بنفسِ الجارِّ ؛ لأنَّ المعانِيَ لا تعملُ في المفعول به . قال شهاب الدين : وهذا ليْسَ بجيِّدٍ ؛ لأنه قدَّر متعلَّقَ [ الخبر كوناً مقيَّداً ، ثم حذفه ، وأبقى معموله . الوجه الثالث : أنَّ قوله " بحَقٍّ " متعلقٌ ] بقوله : " عَلِمْتَهُ " ، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله " لِي " ، والمعنى : فققد عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ ، [ وقد رُدَّ ] هذا بأنَّ الأصْل عدم التقديم والتأخير ، وهذا لا ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا ، بل الذي منه من ذلك : أنَّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدَّم على أداة الشرط ، لا سيَّما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ على " بِحَقٍّ " ، ويَبْتَدئُونَ بـ { إِن كُنْتُ قُلْتُهُ } ، وهذا مَرْوِيٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجَبَ اتِّباعه . والوجه الثاني في خبر " لَيْسَ " : أنه " بِحَقٍّ " ، وعلى هذا ، ففي " لِي " ثلاثةُ أوجه : أحدها : أنه " يَتَبَيَّنُ " ؛ كما في قولهم : " سُقْياً لَهُ " ، أي : فيتعلَّقُ بمحذوف . والثاني : أنه حالٌ من " بِحَقٍّ " ؛ لأنه لو تأخَّر ، لكان صفةً له ، قال أبو البقاء : " وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ عليه " [ قلتُ : قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه ] ، وما أوردوه من الشواهد ، وفيه أيضاً تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ ، فإنَّ " بِحَقٍّ " هو العاملُ ؛ إذ " لَيْسَ " لا يجوز أن تعمل في شيء ، وإن قلنا : إنَّ " كان " أختها قد تعمل لأن " لَيْسَ " لا حدثَ لها بالإجماع . والثالث : أنه متعلِّقٌ بنفسِ " حَقّ " ؛ لأنَّ الباءَ زائدةٌ ، و " حَقّ " بمعنى " مُسْتَحقّ " ، أي : ما لَيْسَ مستحِقًّا لي . فصل اعلم : أنَّه - تبارك وتعالى - لما سَألَ عيسى - عليه السلام - أنَّكَ هَلْ قُلتَ للنَّاسِ ذلك ؟ لم يَقُلْ عيسى بأنِّي قُلْتُ ، أو : ما قُلْتُ ، بل قال : ما يكونُ لي أنْ أقُولَ هذا الكلام ، وبدأ بالتَّسْبِيح قبل الجواب لأمرين : أحدهما : تَنْزِيهاً لَهُ على أنْ يُضيفَ إليه . والثاني : خُضُوعاً لِعِزَّتِه ، وخَوْفاً من سَطْوتِهِ . ثُمَّ قال : { ما يكون لي أنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي : أن أدَّعِي لِنَفْسِي بما ليس من حقِّها يعني : أنِّي مَرْبُوبٌ ولسْتُ بِرَبٍّ ، وعَابِدٌ ، ولسْتُ بِمَعْبُودٍ ، ولمَّا بيَّن أنَّه ليس له أنْ يقول هذا الكلام ، شَرَعَ في بيانِ أنَّهُ هَلْ وقع منه هذا القولُ أمْ لا ؟ ولمْ يَقُلْ بأنِّي ما قُلْتُه ، بل فوَّضَه إلى علمه تعالى المحيط بالكُلِّ ، فقال : " إن كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ عَلِمْتَه بعلْمِكَ " ، وهذا مُبالغَةٌ في الأدبِ ، وفِي إظهَارِ الذِّلَةِ والمَسْكَنَةِ في حَضْرَةِ الخلاَّقِ ، وتَفْوِيض الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ إلى الحقِّ - سُبحانَهُ وتعالى - . قوله : { إن كنت قلته } : " كنت " وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى ، والتقدير : إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر ، وقدَّره الفارسي بقوله : " إن أكن الآن قلتُه فيما مضى " لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل . وقوله : " فقد عَلِمْتَه " أي : فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله : { فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و { فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] و { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ } [ النمل : 90 ] . قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } . قوله : { تعلمُ ما في نفسي } هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً ، لأنَّ العرفان كما تقدم يستدعي سَبْقَ جهل ، أو يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس ، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ ، أي : تعلمُ ما في نفسي كائناً موجوداً على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ ، وأمَّا : " ولا أعلم " فهي وإن كان يجوزُ أن تكون عرفانيةً ، إلا أنها لمَّا صارت مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها ، والمرادُ بالنفس هنا ما قاله الزجاج أنها تُطْلقُ ويُراد بها حقيقةُ الشيء ، والمعنى في قوله { تعلم ما في نفسي } إلى آخره واضحٌ . وقال : المعنى : تعلمُ ما أخفيه من سِرِّي وغيبي ، أي : ما غابَ ولم أظْهِرْه ، ولا أعلمُ ما تُخْفيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه ، فذكر النفس مقابلةً وازدواجاً ، وهذا منتزع من قول ابن عباس ، وعليه حام الزمخشري رحمه الله فإنه قال : " تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومك " ، وأتى بقوله : { ما في نفسك } على جهةَ المقابلةِ والتشاكلِ [ لقوله : " ما في نفسي " فهو ] كقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] ، وكقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [ البقرة : 14 ، 15 ] . وقيل : المعنى : تعلمُ ما عندِي ولا أعلمُ ما عندكَ . وقيل : تعلمُ ما في الدُّنْيَا ، ولا أعلمُ ما يكونُ مِنْكَ في الآخِرَة . وقيل : تعلمُ بما أقُولُ وأفْعلُ ، ولا أعْلَمُ بما تقول وتفعل { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } وهذا تأكيدٌ للجملتَيْنِ المُتقدِّمتَيْنِ . وتمسَّكتِ المُجسِّمَةُ بقوله " بِمَا في نفْسِكَ " ، وقالوا : النَّفْسُ إنَّما تكون في الشَّخْصِ . وأجيبُوا : بأنَّ النَّفْسَ عبارة عن الذاتِ ، يقال : نَفْسُ الشَّيء وذاته بمعنى واحد ، وأيضاً المراد : تعلم معْلُومِي ولا أعلم معلُومَك ، ولكنَّه ذكر هذا الكلامَ على طريقِ المُقابلةِ والمُشاكلةِ . قال الزَّجاج : النَّفْسُ عبارةٌ عن جُمْلَةِ الشَّيء وحقيقتِهِ . قوله تعالى : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ " ما " منصوبةٌ بالقول ؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول . وقدَّر أبو البقاء القول بمعنى الذكر والتأدية . و " ما " يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً . قوله تعالى : " أن اعبُدوا " في " أنْ " سبعةُ أوجهٍ : أحدها : أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في " به " والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا ، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار " أعني " ، أي : إنه فسَّر ذلك المأمور به . الثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ " به " في { ما أمرتني به } لأن محلَّ المجرور نصب . الرابع : أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ . الخامس : أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به . السادس : أنها بدلٌ من " ما " نفسها أي : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا . السابع : أنَّ " أنْ " تفسيرية ، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي . وممن ذهب إلى جواز أنَّ " أنْ " بدلٌ مِنْ " ما " فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج ، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها . وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري ، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية ، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي ، وبدلاً من " ما " أو من الهاء في " به " . قال - رحمه الله - : " أنْ " في قوله : { أن اعبدوا الله } إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر ، والمفسِّر : إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له ؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير ، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى ، فلو فسَّرْتَه بـ { اعبدوا الله ربي وربكم } لم يستقم لأن الله لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن تجعلها بدلاً من " ما " في { ما أمرتني به } ، أو من الهاء في " به " ، وكلاهما غيرُ مستقيم ؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه ، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله ، أي : ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال ، وكذلك لو جعلتها بدلاً من الهاء ، لأنك لو أقَمْتَ " أن اعبدوا " مقام الهاء [ فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله ] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته ، فإن قلت : كيف تصنع ؟ قلت : يُحْمل فعلُ القول على معناه ، لأنَّ معنى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيم تفسيره بـ { أن اعبدوا الله ربي وربكم } ، ويجوزُ أن تكون " أنْ " موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً . وتعقَّب عليه أبو حيان كلامه فقال : " أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع [ وقوله : " لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم " فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله : " اعبدوا الله " ويكون " ربي وربكم " من كلام عيسى على إضمار " أعني " أي : " أعني ربي وربكم " ، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده ، وأمّا ] قوله : " لأن العبادة لا تُقال " فصحيحٌ ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي : القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى ، وأمَّا قوله " لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته " فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه ، ألا ترى إلى تجويز النحويين : " زيد مررت به أبي عبد الله " ولو قلت : " زيدٌ مررت بأبي عبد الله " لم يجز إلا على رأي الأخفش . وأما قوله : " عطفاً على بيان الهاء " ففيه بُعْد ، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ . وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ ، لأنها جاءت بعد " إلا " ، وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب ، و " أن " التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب " . انتهى . قال شهاب الدين : أمَّا قوله : " إن ربي وربكم من كلام عيسى " ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام ، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ " ربي " تابعٌ للجلالة ؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك ، وهذا أشدُّ من قولهم " يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه " فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ " اعبدوا الله " من كلام الله تعالى و " ربي وربكم " من كلام عيسى ، وكلاهما مفسِّرٌ لـ " أمرتَ " المسند للباري تعالى . وأمَّا قوله " يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف " ففيه بعض جودة ، وأما قوله : " إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم " واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم ، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم ، على أنه لا يجوز " جاء الذي مررت به أبي عبد الله " بجرِّ " عبد الله " بدلاً من الهاء ، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه ، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل : " لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه " فيجعلون ذلك علةً مانعةً ، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم ، قال شهاب الدين رحمه الله : فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى . وأمَّا قوله : " وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى به إلى آخره " فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها . ويجوز في " أنْ " الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع ، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله : " فَمَنِ اضْطُرَّ " في البقرة [ الآية 173 ] . و " ربي " نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً ، فهذه خمسة [ أوجهٍ ] تقدَّم إيضاحُها . قوله : " شهيداً " خبر " كان " ، و " عليهم " متعلق به ، و " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان ، و " دام " صلتها ، ويجوز فيها التمامُ والنقصان ، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة ، ويكون " فيهم " متعلقاً بها ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال ، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم ، فلم يحتج هنا إلى منصوب ، وتكون حينئذٍ متصرفةً ، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع ، فيكون " فيهم " في محلِّ نصب خبراً لها ، والتقديرُ : مدة دوامي مستقراً فيهم ، وقد تقدم أنه يقال : " دِمْتُ تدام " كخِفْتُ تخاف . قوله : { كنت أنت الرقيب عليهم } يجوز في " أنت " أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً . وقرىء " الرقيبُ " بالرفع على أنه خبر لـ " أنت " والجملةُ خبرٌ لـ " كان " ، كقول القائل : [ الطويل ] @ 2100 - … وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ @@ وقد تقدَّم اشتقاق " الرقيب " . و " عليهم " متعلَّقٌ به . و " على كلِّ شيء " متعلِّقٌ بـ " شهيد " قُدِّمَ للفاصلة . فصل معنى الكلام { وكُنتُ عليهمْ شَهِيداً } أي : كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون ، ما دمتُ مُقِيماً فيهم ، " فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي " والمرادُ منهُ : الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] . و { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ، قال الزجاج : الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم . فالشَّهِيدُ : المُشاهِد ، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة ، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة ، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ .