Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 119-120)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ الجمهور " يومُ " بالرفع تنوين ، ونافع بالنصب من غير تنوين واختاره أبو عبيدة ونقل الزمخشري عن الأعمش " يوماً " بنصبه منوناً ، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي : " يوم " برفعه منوناً ، فهذه أربع قراءات . فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر ، والجملةُ في محل نصب بالقول . وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه ، أحدها : أنَّ " هذا " مبتدأ ، و " يوم " خبره كالقراءة الأولى ، وإنما بُنِي الظرفُ لإضافته إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً ، وهذا مذهب الكوفيين ، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماضٍ ، وعليه قولُ النابغة : [ الطويل ] @ 2101 - عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشِيبَ على الصِّبَا فَقُلْتُ : ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ @@ وخَرَّجوا هذه القرءاة على أن " يوم " منصوبٌ على الظرف ، وهو متعلق في الحقيقة بخبر المبتدأ أي : هذا واقعٌ أو يقع في يوم ينفع ، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى . ومنهم من خرَّجه على أنَّ " هذا " منصوبٌ بـ " قال " ، وأشير به إلى المصدر فنصبه على المصدر ، وقيل : بل أشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ : هل هو منصوبٌ نصب المفعول به أو نصبَ المصادر ؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو : " قلت شعراً وخطبة " جَرَى فيه هذا الخلاف ، وعلى كلِّ تقدير فـ " يوم " منصوبٌ على الظرف بـ " قال " أي : قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين ، و " ينفع " في محلِّ خفضٍ بالإضافة ، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل وأنه أحد ثلاثةِ أشياء . وأمَّا قراءة التنوين فرفعه على الخبريةِ كقراءة الجماعة ، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع ، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لما قبلها ، والعائدُ محذوفٌ ، وهي نظيرَةُ قوله تعالى : { يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] ، فيكونُ محلُّ هذه الجملة إما رفعاً أو نصباً . قوله : " صِدْقُهم " مرفوع بالفاعلية ، وهذه قراءة العامة ، وقُرِىء شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على المفعول من أجله أي : ينفعهم لأجلِ صدقهم ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وتبعه أبو حيان وهذا لا يجوزُ لأنه فات شرطٌ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، فإنَّ فاعلَ النفع غيرُ فاعل الصدقِ ، وليس لقائلٍ أن يقول : " يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل : الذين يَصْدُقون لأَجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل " لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه ، وللقولِ فيه مجال . الثاني : على إسقاط حرف الجر أي : بصدقهم ، وهذا فيه ما عرف من أن حذف الحرف لا يطَّرد . الثالث : أنه منصوب على المفعول به ، والناصب له اسم الفاعل في " الصادقين " أي : الذين صدقوا صدقهم ، مبالغةً نحو : " صدقْت القتال " كأنك وعدتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه ، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له ، والعامل فيه اسم الفاعل قبله . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل : الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول : " صَدَق الصدقَ " ، وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ " ينفع " ضمير يعود على الله تعالى . فصل في معنى الآية أجْمَعُوا على أنَّ المُرادَ بِهَذَا اليَوْمِ هو يَوْمُ القِيَامةِ ، والمَعْنَى : أنَّ صِدْقَهُم في الدُّنْيَا يَنْفَعُهُم في الآخِرَةِ ؛ لأنَّ صِدْق الكُفَّار في القيامَةِ لا يَنْفَعُهُم ، ألا ترى أنَّ إبْلِيس قال : { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ هذا الصِّدقُ ، وهذا الكلامُ تَصْدِيقٌ من اللَّهِ تعالى لعيسى في قوله : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } [ المائدة : 117 ] . وقيل : أرَادَ بالصَّادِقِين النَّبِيِّين . وقال الكَلْبِيُّ : يَنْفَعُ المُؤمنين إيمانُهُمْ . وقال قَتَادةُ : مُتَكَلِّمَان يَخْطُبَانِ يَوْمَ القيامةِ : عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، وهو ما قَصَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - وعَدُوُّ الله إبْلِيس ، وهو قوله : { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ } [ إبراهيم : 22 ] فَصَدَقَ عَدُوُّ الله يومئذٍ ، وكان قَبْلَ ذلك كَاذِباً ، فلم يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ ، فأمَّا عيسى - عليه السَّلام - فكان صَادِقاً في الدُّنْيَا والآخِرَة فَنَفَعَهُ صِدْقُه . وقال بَعْضُهُمْ : المرادُ صِدْقُهُمْ في العملِ للَّهِ في يومٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا ؛ لأنَّ دَارَ الآخِرَة دارُ جَزَاءٍ لا دار عَمَلٍ . وقيل : المراد صِدْقُهُمْ في الآخِرَة وذلك في الشَّهادةِ لأنْبِيَائِهِم بالبلاغِ ، وفيما شَهِدُوا به على أنْفُسِهِمْ كالعَدَمِ من أعْمالِهِمْ ، ويكُونُ وجْهُ النَّفْع فيه أن يَكُفُّوا المُؤاخَذَة بِتَرْكِهِم كَتم الشَّهادَة ، فيُغفَرُ لهم بإقْرَارِهِم لأنْبِيَائِهِم على أنْفُسِهِم ، ثُمَّ بين ثَوَابَهُم ، فقال : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، فبيَّن أنَّ ذلك النَّفْع هو الثَّوابُ ، وهو حَقِيقَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بالتَّعْظِيم . واعلم : أنَّه تبارك وتعالى إنَّما ذكر الثَّواب ، قال : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، فيذْكرُ معه لَفْظ التأبيد ، وإنَّمَا ذكر عِقَابَ الفُسَّاقِ من أهْلِ الإيمان ، فَيذْكرُ مَعَهُ لَفْظ الخُلُودِ ، ولم يَذْكُرْ مَعَهُ لفظ التَّأبِيدِ وقوله : { رَضِي اللَّهُ عنهم } معناه الدعاءُ . { وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } الجُمْهُور على أنَّ قوله : { ذَلِكَ الفوزُ العَظيمُ } عائِدٌ إلى جُمَلةِ ما تقدَّم من قوله : " لَهُمْ جَنَّاتٌ " ، إلى قوله : " ورضُوا عَنْهُ " . قال ابنُ الخطيب : وعِنْدِي أنَّه يُحْتَمَل أنْ يكون مُخْتَصّاً بقوله : { رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ } ؛ لأنَّه ثَبَتَ عند أربَابِ العُقُولِ ، أن جُمْلة الجنَّة بما فِيهَا بالنِّسْبَةِ إلى رضوان الله - تبارك وتعالى - بالنِّسْبَةِ إلى الوُجُودِ ، وكيْفَ والجنَّة مَرْغُوبُ الشَّهْوَة ، والرِّضْوَان صفةُ الحقِّ ، وأيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا ! ثم قال - تبارك وتعالى - مُعَظِّماً لِنَفْسِهِ : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قيل : إنَّ هذا جواب عن سُؤالٍ مُقَدَّرٍ ، كأنَّهُ قيل : من يُعْطِيهِمْ ذلك الفَوْز العَظِيم ، فقيل : الذي لَهُ مُلْك السمواتِ والأرْضِ . قال القرطبي : جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السموات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين ، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السموات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده . واعلم : أنَّهُ - تبارك وتعالى - قال : " ومَا فِيهِنَّ " ولم يَقُلْ : مَنْ فيهِنَّ ، فَغَلَّبَ غَيْرَ العُقَلاَءِ على العُقَلاَءِ لفائِدَةٍ وهي : التنْبِيهُ على أنَّ كُلَّ المَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرُون في قَبْضَةِ قَهْرِهِ وقُدْرَتِهِ وقَضَائِهِ وقدرِه ، وهُمْ في ذلك التَّسْخِيرِ كالجَمَادَاتِ الَّتِي لا قُدْرَةَ لَهَا ، وكالْبَهَائِمِ الَّتِي لا عَقْلَ لَهَا ، فعلْمُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِه كَلاَ عِلْم ، وقُدْرَةُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ كَلاَ قُدْرَة . رُوِي أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سُورة المائدةِ في خُطْبَتِهِ يَوْمِ حجَّة الوَدَاع ، وقال : " يا أيُّهَا النَّاسُ : إنَّ سُورة المائدةِ من آخِرِ القُرْآنِ نُزُولاً ، فأحِلُّوا حَلاَلَهَا وحَرِّمُوا حَرَامَهَا " . وقال عَبْدُ الله بنُ عُمَر : أنْزِلَتْ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سُورَةُ المَائِدةِ وهُو عَلَى راحِلَتِهِ ، فَلمْ تَسْتَطِعْ أن تَحْمِلَهُ حَتَّى نَزَلَ عَنْهَا . وعن أبيِّ بن كَعْبٍ قال : قال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرأ سُورَةَ المائِدةِ أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ يَهُوديٍّ ونَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ في دَارِ الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ ، ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ " واللَّهُ - تبارك وتعالى - أعلمُ بالصَّوَاب .