Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 82-86)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكرَ عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين ، فلذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرناءَ للمشركين في شدَّةِ العداوةِ ، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أشدُّ في العداوةِ من المُشْركين ، لكونه - تعالى - قدَّم ذكرَهُم على ذِكْر المُشْرِكِين . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " ما خَلاَ يَهُودِيانِ بِمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بِقَتْلِهِ " ، وذكر تعالى أنَّ النَّصارى ألَيْنَ عِرِيكَة مِنَ اليهُودِ ، وأقْرَبَ إلى المُسْلِمِين منهم ، والمقصود من بَيَانِ هذا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُود على الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - و " اللاَّمُ " في قوله : " لتَجدنَّ " هي لامُ القسم . وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] ، فأغْنَى عن إعادته وقال ابنُ عطيَّة : " اللامُ للابْتداءِ " ، وليس بشيء ، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ ، و " أشدَّ النَّاسِ " مفعولٌ أوَّل ، و " عَدَاوَةً " نصب على التمييز ، و " لِلَّذِينَ " متعلِّقٌ بها ، قَوِيَتْ باللامِ ؛ لمَّا كانت فَرْعاً في العمل على الفعل ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء ؛ لأنها مبنيةٌ عليها ؛ فهي كقوله : [ الطويل ] @ 2031 - … وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ … @@ ويجوزَ أن يكون " لِلَّذِينَ " صفةً لـ " عَدَاوَةً " فيتعلَّقَ بمحذوف ، و " اليَهُودَ " مفعولٌ ثانٍ ، وقال أبو البقاء : " ويجوزُ أن يكون " اليهُودَ " هو الأولَ ، و " أشَدَّ " هو الثاني " وهذا هو الظاهرُ ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين ، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم ، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى ، فإنْ قيل : متى استوَيَا تعْرِيفاً وتنْكيراً ، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني ؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ ، وهذا من ذاك ، فالجوابُ : أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك ، جاز التقديمُ والتأخيرُ ؛ ومنه قول : [ الطويل ] @ 2032 - بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا ، وبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ @@ فـ " بَنُو أبْنَاء " هو المبتدأ ، و " بَنُونَا " خبره ؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء ؛ ومثلُه قول الآخر : [ البسيط ] @ 2033 - قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا @@ " أكْرمُهَا " هو المبتدأ و " الأمُ الأحْيَاءِ " خبرُه ، وكذا " وَافِيهَا " مبتدأ و " أغْدَرُ النَّاس " خبره ، والمعنى على هذا ، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله : " والذينَ أشْرَكُوا " عطفٌ على اليَهودِ ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها . فصل تَقْدِيرُ الكلام قَسَماً : إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين ، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم ، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم . وقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } . قال ابُن عباسٍ وسعيد بن جبير وعطاء والسُّدِّيُّ - رضي الله عنهم - المُرادُ به : النَّجَاشِي وقومه الذين قَدِمُوا من الحَبَشَةِ ، وآمَنُوا به ، ولم يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى ؛ لأنَّهُمْ في عَداوتِهِم للمُسْلِمين ، كاليَهُودِ في قَتْلِهمْ المُسْلِمِين وأسْرِهِمْ ، وتَخْريبِ بلادِهِمْ ، وهَدْمِ مَسَاجدِهِمْ ، وإحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ ، ولا كَرَامَةَ لَهُمْ ، بَل الآيَةُ فيمَنْ أسْلَمَ مِنْهُم . وقال آخرون : مَذْهَبُ اليَهُود الفَاسِد ، أنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الشّرِّ إلى من يُخَالِفُهُمْ في الدِّين بأيِّ طريقٍ كان ، فإن قَدَرُوا على القَتْل فذلِكَ ، وإلاَّ فنهب المالِ والسَّرِقَة ، أو بِنَوْع من المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ ، وأمَّا النَّصَارى فليس مذهبهم ذلك ، بل الإيذَاءُ في دينهم حَرَامٌ فهذا وَجْهُ التَّفاوُتِ ، ثمَّ ذكر - سبحانه - سَبَبَ التَّفَاوُتِ ، فقال { ذلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قسِّيسين وَرُهْبانا } . فإن قِيلَ : لِم أسند تسمية النَّصَارى إليهم ، بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } ؛ ولمَّا ذكر اليهود سمَّاهم بقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ } ولم يُسْنِدِ التَّسْمِيَةَ إلَيْهم . فالجوابُ : لأنَّ تسميتهم باليَهُود إن كانت لِكَوْنِهِمْ من أوْلادِ يَهُوذَا بْنِ يَعقُوبَ فَهِيَ تسْمِيَةٌ حَقِيقَةٌ أيضاً ، وإن كانت من التَّحَرُّكِ في دِرَاسَتِهِمْ ، فكذلك أيْضاً ، والنَّصَارَى فَهُم الذين سَمُّوا أنفُسَهُمْ حين قال لهم عيسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } [ الصف : 14 ] ، فلذلك أسْنَدَ التَّسْمِيَة إليْهِم ، وإنْ كانوا إنَّمَا سُمُّوا نصارَى ؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْكُنُون قَرْيَةً يقال لها : " نَاصِرَة " ، فكُلُّهُمْ لمْ يكُونُوا سَاكِنِين فيها ، بَلْ بعضُهُم أوْ أكثرُهُمْ ، فالحقيقة لم تُوجَدْ فيهم . وقد تقدَّمَ الكلامُ في تَسْمِيَتهِم عند قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } [ الآية : 62 ] في البقرة . قوله تعالى : " ذَلِكَ بأنَّ " مبتدأ وخبرٌ ، وتقدم تقريره ، و " مِنْهُمْ " خبر " أنَّ " ، و " قِسِّيسِينَ " اسمها ، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء ، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر " ذَلِكَ " ، والقِسِّيسِينَ جمع " قِسِّيس " على فِعِّيلٍ ، وهو مثالُ مُبالغة كـ " صدِّيقٍ " ، وقد تقدَّم ، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء ، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ ، يقال : " تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم " ، أي : تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ ، ويُقال لرئيس النصارى : قِسٌّ وقِسِّيسٌ ، وللدليلِ بالليلِ : قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ ، قاله الراغب ، وقال غيرُه : القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى ؛ لتتبُّعِه العِلْمَ ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ : [ الرجز ] @ 2034 - أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ يَمْشِينَ هَوْناً خُرُداً بَهَالِلا @@ ويقال : قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضاً ، ويقال : قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها ، وقِسِّيس ، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ ، وقال الواحديُّ : " وقد تكلَّمتِ العربُ بالقسِّ والقِسِّيسِ " وأنشد المازنيُّ : [ الرجز ] @ 2035 - لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ @@ وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ : [ البسيط ] @ 2036 - لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ @@ هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ ، ثم قال : " وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ : ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه ، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ " يعني : بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه ، قيل له : " قِسِّيسٌ " ، وقال قطربٌ : القَسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بلغة الرُّوم ؛ قال وَرَقَةُ : [ الوافر ] @ 2037أ - بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا @@ فعلى هذا : القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان ، قلتُ : وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة ، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ " القُسّ " بضم القاف ، لا مصدراً ولا وصْفاً ، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ ، فهو عَلَمٌ ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية ، ويكون أصلُه " قَسٌّ " أو " قِسٌّ " بالفتح أو الكسر ؛ كما نقله ابن عطية ، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ ، وهو الذي قال فيه عليه السلام : " يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ " ، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ ، فجمعُ تصحيحٍ ؛ كما في الآية الكريمة ، قال الفراء : " ولو جُمِعَ قَسُوساً " ، كان صواباً ؛ لأنهما في معنًى واحدٍ ، يعني : " قِسًّا " و " قِسِّيساً " ، قال : ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على " قَسَاوِسَة " جمعوه على مثال المَهَالبَة ، والأصلُ : قَسَاسِسَة ، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً ، وأنشدوا لأميَّة : [ البسيط ] @ 2037ب - لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ … @@ قال الواحديُّ : " والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس " ، قلت : كأنه جعل هذا المصدر مشتقًّا من هذا الاسْمِ ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى ، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً ، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حملَ مَنْ قال : إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم ؟ . والرُّهْبَانُ : جمعُ رَاهِبٍ ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ ، وقال أبو الهيثمِ : " إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً " ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر : [ الرجز ] @ 2038 - لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ @@ ولو كان جمعاً ، لقال : " يَعْدُونَ " و " نَزَلُوا " بضمير الجمع ، وهذا لا حُجَّة فيه ؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ ؛ لتأوُّله بواحدٍ ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، فالهاء في " بُطُونِهِ " تعود على الأنعامِ ؛ وقال : [ الرجز ] @ 2039 - وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ @@ في " بَرَدَ " ضميرٌ يعودُ على " ألْبَان " ، وقالوا : " هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه " ؛ وقال الآخر : [ الرجز ] @ 2040 - لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ @@ إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه ، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً ؛ وقال كثيرٌ : [ الكامل ] @ 2041 - رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا @@ قيل : ولا حُجَّة فيه ؛ لأنه قال : " والَّذِينَ " فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ ؛ لأجلِ هذا الجمعِ ، لا لكونِ " رُهْبَانٍ " جمعاً ، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ : [ الكامل ] @ 2042 - رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ @@ قال أبو الهيثم : وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ " رَهابين ورَهَابنَة " ، جاز ، وإنْ قلت : رَهَبانِيُّونَ كان صواباً ؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة ، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ ، وهي المخافةُ ، وقال الراغب ، " والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً ، فمنْ جعلهُ واحداً ، جَمعه على رَهَابِينَ ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ " ، يعني : أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة ، وقال الليث : " الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب : التعبُّد في صَوْمَعَة " ، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس ، ولا حاجةَ إلى هذا ، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِ ، وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ ، وهو الخوفُ ، ولذلك قال الراغب : " والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة " ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله : { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] . وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ : أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا ، قال : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [ البقرة : 96 ] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا ، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا ، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً ، وأمَّا النَّصَارى ، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا ، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم ، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ ، سَهْل الانقِيَاد له ، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن ، وهو المرادُ بقوله تعالى : { ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } . وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود ؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ ، واليَهُودُ : لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم ، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا ، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة ، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } . وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى ، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة ، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا ، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - عليه الصلاة والسلام - : " حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ " . فإن قيل : كيف مدَحَهُم اللَّه تعالى بذلك ، مع قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } [ الحديد : 27 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا رَهْبَانِيَّة في الإسلام " ؛ فالجواب : أنَّ ذَلِكَ صار مَمْدُوحاً في مُقابلةِ اليهُودِ في القَسَاوَةِ ، والغِلْظَةِ ، ولا يَلْزَمُ من هذا كونُهُ مَمْدُوحاً على الإطلاق . قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } نسقٌ على " أنَّ " المجرورةِ بالباء ، أي : ذلك بما تقدَّم ، وبأنَّهم لا يستكبرون . فصل المراد بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } يَعْنِي : وفْدَ النَّجَاشِي الذين قدمُوا مع جعفر ، وهم السَّبْعُون ، وكانوا أصْحاب الصَّوامعِ . وقال مُقَاتِل والكَلْبِي : كَانُوا أرْبَعينَ رَجُلاً ، اثنَانِ وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَةٌ من الشَّام . وقال عطاء : كانوا ثَمَانِين رجُلاً ، أرْبَعُون مِنْ أهْلِ نَجْرَان من بَنِي الحارثِ بن كَعْب ، واثنان وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَة رُومِيُّون مِنْ أهْلِ الشَّام . وقال قتادة : نزلت في ناسٍ من أهْلِ الكتابِ ، كانُوا على شَرِيعَةٍ من الحقِّ مِمَّا جَاءَ بِه عيسى - عليه السلام - ، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - صَدَّقوه ، وآمَنُوا به ، فأثْنَى اللَّهُ عليهم بقوله : تعالى : { ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي : عُلَمَاء . قال قُطْرُب : القِسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ . قوله تعالى : " وإذَا سَمِعُوا " " إذَا " شرطيةٌ جوابُها " تَرَى " ، وهو العاملُ فيها ، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان : أظهرهما : أنَّ محلَّها الرفعُ ؛ نسقاً على خبر " أنَّهُم " الثانية ، وهو " لا يَسْتَكْبِرُونَ " ، أي : ذلك بأنَّ منهم كذا ، وأنهم غيرُ مستكْبرينَ ، وأنهم إذا سمعُوا : فالواو عطفتْ مُفْرَداً على مثله . والثاني : أنَّ الجملةَ استئنافية ، أي : أنه تعالى أخْبَرَ عنهم بذلك ، والضميرُ في " سَمِعُوا " ظاهرُه : أنْ يعود على النصارى المتقدِّمين ؛ لعمومهم ، وقيل : إنما يعودُ لبعضِهمْ ، وهم مَنْ جاء من " الحبشةِ " إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في روايَةِ عطاء : يريد النَّجاشي وأصحابه ، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ " كهيعص " فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض ، وقال : واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً ، فما زالوا يَبْكُون ، حتى فَرَغَ جَعْفَرُ من القراءة ، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة ، قال : " لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك " . و " مَا " في " مَا أنْزِلَ " تحتملُ الموصولةَ ، والنكرةَ الموصوفة ، وقوله تعالى : " تَرَى " بصَريَّةٌ ، فيكون قوله { تَفِيضُ مِن الدَّمْعِ } جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ . وقرىء شاذًّا : " تُرَى " بالبناء للمفعول ، " أعْيُنُهُمْ " رفعاً ، وأسند الفيض إلى الأعين ؛ مبالغةً ، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ ؛ كقول امرىءِ القيسِ : [ الطويل ] @ 2043 - فَفَاضَتْ دُمُوعُ العيْنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي @@ والمرادُ : المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلىءُ حتى تفيضَ ؛ لأنَّ الفيضَ ناشىءٌ عن الامتلاءِ ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2044 - قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ @@ وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال : " فإنْ قلت : ما معنى { تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } ؟ قلتُ : معناه تَمْتَلِىءُ من الدمْع حتَّى تفيضَ ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملىءَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه ، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء ، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب ، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء ، فجعلْتَ أعينهم ، كأنها تفيضُ بأنفسها ، أي : تسيلُ من الدمعِ ؛ من أجلِ البكاءِ ، من قولك ، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً " . قوله تعالى " مِنَ الدَّمْعِ " فيه أربعةُ أوجه : أحدها : أنه متعلِّقٌ بـ " تَفِيضُ " ، ويكون معنى " مِن " ابتداء الغاية ، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف ؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في " تَفِيضُ " قالهما أبو البقاء ، وقَدَّر الحالَ بقولك : " مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ " ، وفيه نظر ؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ ، ولا يجوزُ ذلك ، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً ، أي : تفيضُ كائنةً من الدمْعِ ، وليس المعنى على ذلك ، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي ، فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون " مِنَ الدَّمْعِ " تمييزاً ؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز ، والأصل : تفيض دمعاً ؛ كقولك : " تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً " ، فهو من المنتصب عن تمام الكلام ؟ قيل : إن ذلك لا يجوزُ ، لأنَّ التمييز ، إذا كان منقولاً من الفاعلية ، امتنع دخولُ " مِنْ " عليه ، وإن كانت مقدَّرة معه ، فلا يجوز : " تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ " ، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ بـ " مِنْ " ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً ، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [ الآية 92 ] جعله تمييزاً في قوله تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } ، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه ؛ قال - رحمه الله تعالى - : { تفيضُ من الدَّمْعِ } كقولك : " تَفِيضُ دَمْعاً " ، وهو أبلغُ من قولِك : يفيضُ دَمْعُها ؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ ، و " مِنْ " للبيان ؛ كقولك : " أفديكَ مِنْ رَجُلٍ " ، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز ؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ ، وهو كونُه معرفةً ، وكونُه جُرَّ بـ " مِنْ " وهو فاعلٌ في الأصْل ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ ؛ فعلى هذا : تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده ، وهو الوجهُ الثالث . الرابع : أنَّ " مِنْ " بمعنى الباء ، أي : تفيضُ بالدمْعِ ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] أي : بِطَرْفٍ ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى " مِنْ " ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2045 - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ ترفَّعَتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ @@ أي : مِنْ مَاء البَحْرِ . قوله : { مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحقِّ } " مِنْ " الأولَى لابتداءِ الغاية ، وهي متعلقةٌ بـ " تَفِيضُ " ، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس ، أي : بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها ، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح ؛ قال - رحمه الله - : " فإنْ قلتَ : أيُّ فَرْقٍ بين " مِنْ " و " مِنْ " في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } ؟ قلتُ : الأولَى لابتداء الغاية ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، وكان من أجله وبسببه ، والثانيةُ : لبيان الموصول الذي هو " ما عَرَفُوا " ، وتحتمل معنى التبعيض ؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كلَّه ، وقرَءُوا القرآن ، وأحاطُوا بالسنة " . انتهى ، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان ، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه ، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً ، و " مِن " الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ ؛ على أنها حال من " الدَّمْع " ، أي : في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ ، وهو معنى قول الزمخشريِّ ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق بـ " تَفِيضُ " ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد ؛ فإنَّ " مِنْ " في " مِنَ الدَّمْعِ " لابتداءِ الغاية ؛ كما تقدَّم ، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ " مِنْ " في " مِنَ الدَّمْعِ " للبيانِ ، أو بمعنى الباء ، فقد يجوز ذلك ، وليس معناه في الوضُوحِ كالأول ، وأمَّا " مِنَ الحَقِّ " فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف ، أي : أعْنِي من كذا ، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق بـ " عَرَفُوا " ، وهو معنى قوله : " عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ " . وقال أبو البقاء في " مِنَ الحَقِّ " : إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ ، أي : مِمَّا عرفوه كائناً من الحق ، ويجوزُ أن تكون " مِنْ " في قوله تعالى : " مِمَّا عَرَفُوا " تعليليةً ، أي : إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري : " وكان من أجله وبسببه " ، فقد تحصل في " من " الأولى أربعةُ أوجه ، وفي الثالثةِ ضعفٌ ، أو منعٌ ؛ كما تقدَّم ، وفي " مِن " الثانية أربعةٌ أيضاً : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلَّق به : هل هو " تَفِيضُ " ، أو محذوفٌ ؛ على أنها حالٌ من الدمع ، وفي الثالثة : خمسةٌ : اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها : هل هو محذوفٌ ، وهو " أعْنِي " ، أو نفسُ " عَرَفُوا " ، أو هو حالٌ ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضاً ؛ كما ذكره أبو البقاء . وقوله تعالى : { تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } ، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفَةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً . قوله تعالى : " يَقُولُون " الآية . فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أنه مستأنفٌ ، فلا محلَّ له ، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ . الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في " أعْيُنَهُمْ " ، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه ؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ ؛ فهو كقوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] . الثالث : أنه حالٌ من فاعل " عَرَفُوا " ، والعاملُ فيها " عَرَفُوا " ، قال أبو حيان لمَّا حكى كونه حالاً : " كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ، ولا العامل فيها " ، قال شهاب الدين : أمَّا أبو البقاء ، فقد بَيَّنَ ذا الحال ، فقال : " يَقُولُونَ " حالٌ من ضمير الفاعل في " عَرَفُوا " ، فقد صرَّح به ، ومتى عُرِفَ ذو الحال ، عُرِفَ العاملُ فيها ؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، فالظاهرُ : أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك ، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في " أعْيُنَهُمْ " ؛ بما معناه : أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه ، وإن كان المضافُ جُزْأهُ ، وجعله خطأ ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته ، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل " عَرَفُوا " ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي غيرِها ، قال : " فالأوْلَى : أن يكون مستأنفاً " ، قال شهاب الدين : أمَّا ما جعله خطأ ، فالكلامُ معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا ، وأمَّا قوله : " يَلْزَمُ التَّقييدُ " ، فالجوابُ : أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم ، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم ، وقوله تعالى : " رَبَّنا آمَنَّا " في محلِّ نصب بالقول ، وكذلك : " فاكْتُبْنَا " إلى قوله سبحانه : " الصَّالِحِينَ " . فصل المعنى : يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ ، { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } يريد : أمَّةَ مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - لقوله - تعالى - : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [ البقرة : 143 ] . وقيل : كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك . قوله تعالى : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ } : " مَا " استفهاميَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء ، و " لَنَا " جارٌّ ومجرورٌ خبرهُ ، تقديرُه : أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا ، و " لا نُؤمِنُ " جملة حالية ، وقد تقدَّم الكلام على نظير هذه الآية ، وأنَّ بعضهم قال : إنها حالٌ لازمةٌ لا يتمُّ المعنى إلا بها ؛ نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، وتقدَّم ما قلتُه فيه ، فأغْنَى ذلك عن إعادته ، وقال أبو حيان هنا : " وهي المقصودُ وفي ذكرهَا فائدةُ الكلامِ ؛ وذلك كما تقول : " جَاء زَيْدٌ رَاكِباً " لِمَنْ قال : هَلْ جَاءَ زَيْدٌ مَاشِياً أو رَاكِباً ؟ " . فصل قوله : " وَمَا جَاءَنَا " في محلِّ " مَا " وجهان : أحدهما : أنه مجرور نسقاً على الجلالة ، أي : بالله وبِمَا جَاءَنَا ، وعلى هذا فقوله : " مِنَ الحَقِّ " فيه احتمالان : أحدهما : أنه حالٌ من فاعل " جَاءَنَا " ، أي : جاء في حال كونه من جِنْسِ الحقِّ . والاحتمال الآخر : أن تكونَ " مِنْ " لابتداء الغاية ، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى ، وتتعلَّقُ " مِنْ " حينئذ بـ " جَاءَنَا " ؛ كقولك : " جَاءَنَا فلانٌ مِنْ عِنْدِ زَيْدٍ " . والثاني : أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء ، والخبر قوله : " مِنَ الحَقِّ " ، والجملةُ في موضع الحال ، كذا قاله أبو البقاء ، ويصيرُ التقدير : وما لَنَا لا نُؤمِنُ بالله ، والحالُ أنَّ الذي جاءنا كَائِنٌ من الحَقِّ ، و " الحقُّ " يجوز أن يُرادَ به القرآنُ ؛ فإنه حقٌّ في نفسه ، ويجوزُ أن يُرادَ به الباري تعالى - كما تقدمَ - والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تَضَمَّنَهُ قولُه " لَنَا " . قوله : " وَنَطْمَعُ " في هذه الجملة ستَّة أوجه : أحدها : أنها منصوبة المحلِّ ؛ نسقاً على المحكيِّ بالقول قبلها ، أي : يقولُونَ كذا ويقولون نطمعُ وهو معنًى حسنٌ . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو " لَنَا " ؛ لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ ، فرفع الضمير وعملَ في الحال ، وإلى هذا ذهب الزمخشري ؛ فإنه قال : " والواوُ في " ونَطْمَعُ " واوُ الحال ، فإن قلتَ : ما العاملُ في الحال الأولى والثانية ؟ قلتُ : العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ ؛ كأنه قيل : أيُّ شيءٍ حَصَل لنا غَيْرَ مؤمِنينَ ، وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيَّداً بالحال الأولى ؛ لأنك لو أزَلْتَها ، وقلت : " مَا لَنَا وَنَطْمَعُ " ، لم يكنْ كلاماً " . قال شهاب الدين : وفي هذا الكلام نظرٌ ، وهو قولُه : " لأنَّكَ لَوْ أزَلْتَه … إلى آخره " ؛ لأنَّا إذا أزَلْنَاها وأتَيْنَا بـ " نَطْمَعُ " ، لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف ، بل مجرَّدة منه ؛ لنحلَّها محلَّ الأولى ؛ ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضَعُوا المعطوفَ موضعَ المعطُوف عليه ، وضعوه مجرَّداً من حرفِ العطف ، ورأيتُ في بعض نسخ الكشَّافِ : " مَا لَنَا نَطْمَعُ " من غير واوٍ مقترنةٍ بـ " نَطْمَعُ " ولكن أيضاً لا يَصِحُّ ؛ لأنك لو قلت : " مَا لَنَا نَطْمَعُ " كان كلاماً ؛ كقوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، فـ " نَطْمَعُ " واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال ، كما لو قلت : مَا لَكَ طَامِعاً ، وما لَنَا طَامِعِين ، وردَّ عليه أبو حيان هذا الوجه بشيئينِ : أحدهما : أن العامل لا يقتضي أكثر من حالٍ واحدة ، إذا كان صاحبُه مفرداً دون بدل أو عطف ، إلا أفعل التفضيل على الصَّحيح . والثاني : أنه يلزم دخولُ الواو على مضارعٍ مُثْبَتٍ . وذلك لا يجُوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ ، أي : ونحْنُ نَطْمَعُ . الثالث : أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل " نُؤمِنُ " ، فتكون الحالان متداخلَتَيْنِ ، قال الزمخشريُّ : " ويجوز أن يكون " ونَطْمعُ " حالاً من " لا نُؤمِنُ " على معنى : أنهم أنْكَرُوا على أنفسهم ؛ أنهم لا يوحِّدون الله ، ويطمعُون مع ذلك أن يَصْحَبُوا الصالحين " ، وهذا فيه ما تقدَّم من دخول واو الحال على المضارع المثْبَت ، وأبو البقاء لمَّا أجاز هذا الوجْهَ ، قدَّر مبتدأ قبل " نَطْمَعُ " ، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل " نُؤمِنُ " ؛ ليخلصَ من هذا الإشكال ؛ فقال : ويجوزُ أن يكون التقديرُ : " ونَحْنُ نَطْمَعُ " ، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل " لا نُؤمِنُ " . الرابع : أنها معطوفةٌ على " لا نُؤمِنُ " ، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ذلك الضمير المستترِ في " لَنَا " ، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها . فصل فإن قيل : هذا هو الوجه الثاني المتقدِّم ، وذكرت عن أبي حيان هناك ؛ أنه منع مجيء الحالين لِذِي حالٍ واحدةٍ ، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع ، فما الفرقُ بين هذا وذاك ؟ فالجوابُ : أنَّ الممنوع تعدُّدُ الحالِ دُونَ عاطف ، وهذه الواوُ عاطفةٌ ، وأنَّ المضارع إنما يمتنعُ دخولُ واوِ الحال عليه ، وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ ؛ فحَصَلَ الفرقُ بينهما من جهة الواو ؛ حيثُ كانت في الوجه الثاني واوَ الحال ، وفي هذا الوجه واو عطف ، ولَمَّا حكى الزمخشريُّ هذا الوجه ، أبدى له معنيين حسنين ؛ فقال - رحمه الله - : " وأن يكون معطوفاً على " لا نُؤمِنُ " على معنى : وما لنا نَجْمَعُ بَيْنَ التثْليثِ وبين الطَّمَع في صُحْبَةِ الصَّالحينَ ، أو على معنى : ومَا لَنَا لا نَجْمَعُ بينهما بالدُّخُولِ في الإسلام ؛ لأنَّ الكَافِرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صُحْبَة الصَّالحِينَ " . الخامس : أنها جملة استئنافية ، قال أبو حيان : الأحسنُ والأسهلُ : أن يكون استئناف إخبارٍ منهم ؛ بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم ؛ بإدخالهم مع الصالحينَ ، فالواوُ عاطفةٌ هذه الجملة على جملة { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } ، قال شهاب الدين : وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكيِّ بالقول قبلها - شيءٌ واحدٌ - فإن [ فيه ] الإخبار عنهُمْ بقولهم كَيْتَ وكَيْتَ . السادس : أن يكون " وَنَطْمَعُ " معطوفاً على " نُؤمِنُ " ، أي : وما لنا لا نَطْمَعُ ، قال أبو حيان هنا : " ويظهر لي وجهٌ غيرُ ما ذكرُوه ، وهو أن يكون معطوفاً على " نُؤمِنُ " ، التقديرُ : وما لَنَا لا نُؤمِنُ ولا نَطْمَعُ ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاءِ إيمانهمْ وانتفاءِ طمعهِمْ مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطَّمعِ في الدخول مع الصالحين " ، قال شهاب الدين : قوله : " غَيْرُ ما ذَكَرُوهُ " ليس كما ذَكَرَهُ ، بل ذكر أبو البقاء فقال : " ونَطْمَعُ " يجُوزُ أن يكون معطوفاً على " نُؤمِنُ " ، أي : " وما لَنَا لا نَطْمَعُ " ، فقد صرَّحَ بعطفه على الفعل المنفيِّ بـ " لاَ " ، غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بَسْطاً . والطَّمَعُ قال الراغب : " هو نزوعُ النَّفْسِ إلى الشَّيْءِ شَهْوَةً له " ، ثم قال : " ولَمَّا كَانَ أكْثَرُ الطَّمَعِ من جهةِ الهوى ، قيل : الطَمَعُ طَبعٌ والطمعُ يدنِّسُ الإهَابَ " ، وقال أبو حيان : " الطمعُ قَرِيبٌ من الرَّجَاءِ يقال منه طَمِعَ يَطْمَعُ طَمعاً " ؛ قال تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] وطماعةً وطماعيةً كالكراهِيَة ؛ قال : [ الطويل ] @ 2046 - … طَمَاعِيَةً أنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ @@ فالتشديدُ فيها خطأٌ ، واسمُ الفاعِلِ منه طَمِعٌ كـ " فَرِحٍ " و " أشرٍ " ، ولم يَحْكِ أبو حيان غيرَه ، وحكى الراغب : طَمِعٌ وطَامِعٌ ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين ؛ كقولهم " فَرِحٌ " لمن شأنه ذلك ، و " فَارِحٌ " لمن تجدَّد له فَرَحٌ . قوله : " أنْ يُدْخِلَنَا " ، أي : " في أنْ " فمحلُّها نصبٌ أو جرٌّ ؛ على ما تقدَّم غير مرة . و " مَعَ " على بابها من المصاحبة ، وقيل : هي بمعنى " في " ولا حاجة إليه ؛ لاستقلال المعنى مع بقاءِ الكلمة على موضوعها . فصل قال المُفَسِّرُون - [ رحمهم الله ] - إنَّ اليَهُودَ عَيَّرُوهم ، وقالُوا لَهُمْ : لِمَ آمَنْتُم ؟ فأجابُوهُم بِهَذا . والمراد : يدْخِلُنَا ربُّنَا مع القَوم الصَّالحِيِنَ جَنَّتَهُ ، ودارَ رِضوانه قال - تعالى - : { لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } [ الحج : 59 ] ، إلا أنه حَسُنَ الحَذْف لِكَوْنه مَعْلُوماً . قوله تعالى : { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ } [ المائدة : 85 ] . وقرأ الحسن : " فآتاهُمُ اللَّهُ " : من آتاه كذا ، أي : أعطاهُ ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى ؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ ؛ بخلاف الإيتاء ؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره ، وقوله تعالى : " جَنَّاتٍ " مفعولٌ ثانٍ لـ " أثَابَهُمْ " ، أو لـ " آتَاهُمْ " على حسبِ القراءتَيْنِ . و { تجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } في محلِّ نصبٍ صفةً لـ " جَنَّاتٍ " . و " خَالِدِينَ " حالٌ مقدرةٌ . فإن قيل : ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ على أنَّهُم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذلك الثَّوابَ بمُجَرَّدِ القوْلِ ؛ لأنَّهُ - تعالى - قال : { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ } ، وذَلِكَ غير مُمْكِن ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفيدُ الثَّوَابَ . فالجوابُ مِنْ وجهين : الأوَّلُ : أنَّهُ قد سَبَقَ من وَصْفِهِم مَا يدلُّ على إخلاصِهِمْ فيما قالوا وهُو المعرفَةُ ، وذلك قوله - تعالى - : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } ، وكُلَّما حصلتِ المعْرِفَةُ والإخْلاصُ وكمَال الانْقِيَادِ ، ثُمَّ انْضَافَ إليْه القَوْلُ ، لا جَرَمَ كمل الإيمان . الثاني : روى عطاءُ عن ابْن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال : قوله - تعالى - : " بِمَا قَالُوا " يُرِيدُ بما سَألُوا ، يعني قولهُمْ : " فاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين " . فصل دَلَّتِ الآيَةُ على أنَّ المُؤمِنَ الفَاسِقَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ من وجْهَيْن : أحدهما : أنَّهُ - تعالى - قال : { وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } ، وهذا الإحْسَانُ لا بُدَّ وأنْ يكُونَ هُوَ الذي تقدَّم ذِكْرُه من المَعْرِفَةِ ، وهُوَ قوله - تعالى - : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } ، ومِنَ الإقْرَارِ به ، وهو قولُهُ - تعالى - : { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ } ، وإذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا أنْ يُقال : إنَّ هذه الآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ المعرفة ، وهُوَ إقرارٌ يوجِبُ هذا الثَّواب ، وصاحبُ الكَبِيرَةِ لَهُ هذه المعْرِفَةُ وهذا الإقْرَارُ ، فوجَبَ أن يَحْصُلَ لَهُ هذا الثَّوابُ ، فإمَّا أنْ يُنقل من الجَنَّةِ إلى النَّارِ ، وهذا بَاطِلٌ بالإجْمَاع ، أو يُقَال : يُعاقَبُ على ذَنْبِهِ ، ثمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ ، وهُوَ المَطْلُوب . الثاني : أنَّهُ - تعالى - قال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } ، فقولُهُ تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } يُفِيدُ الحصر ، أي : أولَئِكَ أصْحَابُ الجحيمِ لا غَيْرهِم ، والمُصَاحِبُ للشَّيءِ المُلازِم له الذي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ ، وهذا يقتضي تَخْصِيصُ الكُفَّارِ بالدَّوَام . قوله تعالى : " وذَلِكَ جَزَاءُ " مبتدأ وخبرٌ ، وأُشِيرَ بـ " ذَلِكَ " إلى الثواب أو الإيتاء ، و " المُحْسنين " يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ ، والأصل : " وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ " ، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ ، فيندرجُون اندراجاً أوليًّا . والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ : المُوَحِّدين المُؤمِنِين .