Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 93-93)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ : أنَّ الصَّحابَةَ - رضي الله عنهم - أجمعين ، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ ، قالوا : يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر ؛ فنزلت هذه الآيةُ ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم ؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً ، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس ، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي ، فلا أضَيِّعُ ذلك . قوله تعالى : { إِذَا مَا ٱتَّقَواْ } : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة ، وهي : " لَيْسَ " وما في حَيِّزها ، والتقدير : لا يَأثَمُونَ ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم ، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً ، وأن يكونَ فيه معنى الشرط ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ . فصل الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب ، ولذلك يُقَالُ : الطعم خلافُ الشُّرْب ، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات ، كقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ } [ البقرة : 249 ] ، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله : " فِيمَا طَعِمُوا " أي : شَرِبُوا الخَمْرَ ، ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ . وقد تقُولُ العربُ : تطعّم حتى تطعم أي : ذُق حتى تَشْتَهِيَ ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً . فإن قيل : إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُول التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن ، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ : بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان . وللنَّاس في هذا قولان : أحدهما : أنَّ هذا من باب التوكيد ، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك ؛ كقوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] ، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو . والثاني : أنه للتأسيس ، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ . واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه : أحدها : قال الأكْثَرُونَ : الأوَّل : عَمَلُ الاتِّقَاء . والثاني : دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه . والثالث : اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه . وثانيها : أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة . والثاني : اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية . والثالث : اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [ وهذا قول الأصَمِّ ] . وثالثها : اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر ، ثُمَّ الصَّغَائر . ورابعها : قال القفَّال - رحمه الله تعالى - : التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون : النَّسخ يدُلُّ على البداء ، فأوْجَبَ على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر ، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ . والتقوى الثانية : الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ . والتقوى الثالثة : عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية ، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ . وخامسها : أنَّ المَقْصُود من هذا التَّكْرير التَّأكيدُ ، والمُبالغَةُ في الحَثِّ على الإيمانِ ، والتَّقْوى . فإن قيل : لِمَ شرطَ دَفْعِ الجُنَاحِ عن تناوُلِ المطْعُومات بِشَرْط الإيمان والتَّقْوى ؛ مع أنَّ المَعْلُوم أن من لم يُؤمِن ومن لَمْ يتَّقِ ، ثُمَّ تناول شَيْئاً من المُبَاحَاتِ فإنَّه لا جُناح عليْه في ذلك التَّنَاوُل ، بل إنما عليه جُنَاحٌ في تَرْكِ التَّقْوى والإيمَان ، إلاَّ أن ذلك لا تعلُّق له بِتَنَاوُل ذلِكَ المُبَاح ، فذكرُ هذا الشَّرْط في هذا المَعْرِض غَيْرُ جَائِزٍ . فالجوابُ : لَيْسَ هذا اشْتِرَاطٌ ، بل لِبَيَانِ أنّ أولَئِكَ الأقْوَام الذين نَزَلَتْ فيهِمْ هذه الآيَةُ ، كَانُوا على هذه الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِم ، وحَمْداً لأحْوَالهم في الإيمَان والتَّقْوَى والإحْسَان . ومثَالُهُ أنْ يُقال لك : " هَلْ عَلَى زَيْدٍ فيما فَعَل جُنَاحٌ " ، وقد عَلِمْتَ أنَّ ذلك الأمْرَ مُبَاحٌ ؛ فتقول : ليس على أحَدٍ جُنَاح في المُبَاحِ إذا اتَّقَى المَحَارِمَ وكان مُؤمِناً مُحْسِناً ، تريدُ أنَّ زَيْداً إنْ بَقِي مُؤمِناً مُحْسِناً ، فإنَّه غير مُؤاخَذٍ بما فَعَل . فصل قال ابن الخطيب : زَعَم بَعْضُ الجُهَّال : أنَّ [ اللَّه ] تعالى لمَّا بيَّن في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تكُون مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَة والبَغْضَاء ، وصَادَّة عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّه لا جُنَاح على من طَعمَها ، إذا لم يَحْصُل مَعَهُ شَيْءٌ من تلك المفاسِدِ ، بل حَصَّل أنْواع المَصَالِح من التَّقْوَى والطَّاعَة والإحْسَانِ إلى الخَلْقِ ، قالوا : ولا يُمْكِنُ حَمْلُه على أحْوالٍ من شُرْب الخَمْرِ قبل نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيم ؛ لأنه لو كان المُرَادُ ذلك لقالَ : ما كان جُنَاحٌ على الَّذِين طَعِمُوا ، كما ذكر مِثْل ذلك في آيَة تحْويل القِبْلَةِ ، فقال : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] ولكنه لم يَقُلْ ذلك ، بل قال : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } ، إلى قوله تعالى : { إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ } ، وهذا للمُسْتَقْبَلِ لا لِلْمَاضِي ، وهذا القولُ مردودٌ بإجْماعِ الأمَّةِن وقولهم : إنَّ كَلِمَة " إذَا " للمُسْتَقبلِ ، فجوابه : ما رَوَى أبُو بَكْر الأصَمّ - رحمه الله - أنَّه لمَّا نزل تَحْرِيم الخَمْرِ ، قال أبُو بكر - رضي الله عنه - : يا رسُول الله كيف بإخْوانِنَا الَّذِين ماتُوا ، وقد شَرِبُوا الخَمْرَ ، وفَعَلُوا القُمَار ، وكيف بالغائبين عَنَّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرونَ أنَّ اللَّهَ حرَّم الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَهَا ؛ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَات ، وعلى هذا التقدير ، فالحَلُّ قد ثَبَتَ في الزَّمانِ المُسْتقبَلِ عن وقْتِ نُزُولِ هذه الآيَة ، لكن في حَقِّ الغَائِبين الذين لَمْ يَبْلُغْهُم هذا النَّصُّ . قوله تعالى : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي : أنَّه تعالى ما جَعَلَ الإحْسَان شَرْطاً في نَفْيِ الجُنَاح فقط ، بل وَفِي أنْ يحبَّهُ اللَّهُ ، وهذا أشْرَفُ الدرَجَات .