Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 47-53)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } العامة على النصب على الاشتغال ، وكذلك قوله : { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } والتقدير : وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا . وقال أبو البقاء : أي وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر . وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظاً نحو : زَيْدٌ مرَرْتُ بِهِ ، وزيد ضَرَبْتُ غُلاَمَهُ وأما في نحو : زَيْداً ضَرَبْتُهُ ، فلا يقدر إلا ضَرَبْتُ زَيْداً . وقرأ أبو السَّمَّال وابن مِقسم برفعهما ؛ على الابتداء ، والخبر ما بعدهما . والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها . قوله : " بأَييْدٍ " يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان : أحدهما : أنها حال من فاعل " بَنَيْنَاهَا " أي ملتبسينَ بأيدٍ أي بقوة ؛ قال تعالى : { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } [ ص : 17 ] . الثاني : أنه حال من مفعوله أي ملتبسةً بقوة . ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قُدْرَتِنَا . ويجوز أن تكون البَاء معدّية مجازاً على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيِّ بها ، كقولك : بَنَيْتُ بَيْتَكَ بالآجُرّ . قوله : " وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ " يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل " بَنَيْنَاهَا " . ويجوز أن تكون حالاً من مفعوله ومفعول " موسِعُون " محذوف أي مُوسِعُونَ بِنَاءَهَا . ويجوز أن لا يقدر له مفعولٌ ؛ لأن معناه : لَقَادِرُونَ كقولك : ما في وُسْعِي كذا أي ما في طاقتي وقُوَّتِي ؛ كقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] قاله ابن عَبَّاسٍ وعنه أيضاً : لموسعون الرزق على خَلْقِنَا . وقيل : ذُو سَعَةٍ . وقال الضحاك : أغنياء ، دليله قوله تعالى : { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] . قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب ، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض . فقوله : " وإنا لموسعون " بيان للإعراب ( في الفعل ) . فصل والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السموات كقوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، وقوله : { أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة ، لم يسقط منها شيء ، ولم يُعْدَم منها جزءٌ . وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله : { سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً ، وعادت أرضاً من وقت حدوثها ، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس ، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة ، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى : { رَفَعَ سَمْكَهَا } [ النازعات : 28 ] . وقال بعض الحكماء : السماء مسكَن الأَرْواحِ ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً . والله أعلم . فإن قيل : ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال : وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز ؟ ! . فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة ، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال : والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها ، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا . فإن قيل : إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال : بَنَيْنَاها ، ولم يقل : بَنَيْتُها ؟ ولا بناها الله ؟ ! فالجواب : أن قوله : بنيناها أدل على عدم الشريك ، لأن الشّركة ضعيفة ؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد ، وقوله : " بَنَيْنَاهَا " يدل على العَظَمَة ، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين قوله : " بَنَيْنَاهَا " وبين أن يكون شريك منافاة . وتقريره أن قوله تعالى : { بَنَيْنَاهَا } لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير ، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا ، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً ، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها ؛ وإنما يقال : بُنيتْ لها وجعلت أماكنها ، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال : بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ . ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً ، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها ، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم ، فأفاد النص عظمة ، والعظمة أنفى للشريك ، فعلم أن قوله : " بَنَيْنَاهَا " أدلّ على نفي الشَّريك من " بَنَيْتُهَا " و " بِنَاء اللَّهِ " . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } [ يس : 71 ] . فالجواب : أن ذلك لفائدة جليلة ، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك . فقال هناك : عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة . وكذلك : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] وفي السماء قال : بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها . وفيه لطيفة ( أخرى ) وهي : أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته ، وأما السماء : فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة ، فقال : بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة . قوله : " وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا " أي بسطناها ومَهَّدْنَاها ، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش . قوله : " فَنِعْم المَاهِدُونَ " المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، أي نَحْنُ ، كقوله : { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ } [ ص : 30 ] ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي . قوله تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز أن يتعلق " بخَلَقْنَا " أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من : " زَوْجَيْنِ " لأنه في الأصل صفة له ، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء . والأول أقوى في المعنى . فصل المعنى " خلقنا زوجين " صِنْفَيْن ونوعين مختلفين ، كالسَّمَاءِ والأرض ، والشَّمس والقمر ، والليل والنهار ، والبَرّ والبحر ، والسَّهْل والجبل ، والشتاء والصَّيْف ، والجنّ والإنس ، والذَّكَر والأنثى ، والنور والظُّلْمَة ، والإيمان والكفر ، والسعادة ( والشقاوة ) والحق والباطل ، والحُلْو والمُرّ " لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له ، لا يعجز عن حشر الأجْساد وجَمْع الأرواح . قوله : { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي فاهربُوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة . قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) : فروا منه إليه واعملوا بطاعته . وقال سهل بن عبد الله : فروا ممَّا سوى الله إلى الله { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وهذا إشارة إلى الرسالة . قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } إتماماً للتوحيد ، لأن التوحيد يباين التعطيل والتشريك ، لأن المُعَطِّل يقول : لا إله أصلاً والمشرك يقول بوجود إله آخر ، والموحِّد يقول : قول الاثنين باطل ، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل ، فلما قال تعالى : { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أثبت وجود الله ، فلما قال : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين . ولهذا قال مرتين : { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي في المقامين والموضِعَيْنِ . قوله : " كَذَلِكَ " فيه وجهان : أظهرهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ مِثْلُ ذلك ، ( قال الزمخشري ) : والإشارة بذلك إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً ومجنوناً . ثم فسَّر ما أجمل بقوله : " مَا أَتى " . والثاني : أن الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف . قاله مكي . ولم يبين تَقْدِيرَهُ . ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية . وأما المعنى فلا يمتنع ، ولذلك قال الزمخشري : ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة بـ " أَتَى " لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلَها ؛ ولو قيل : لم يأت لكان صحيحاً ، يعني لو أتى في موضع " مَا " بـ " لم " لجاز أن ينتصب الكاف بـ " أَتَى " لأن المعنى يسوغ عليه ، والتقدير : كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ تكذيباً مِثْلَ تَكْذِيبِ الأُمَم السَّابِقَة رُسُلَهُمْ . ويدل عليه قوله : { مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } الآية . قوله : { إِلاَّ قَالُواْ } الجملة القولية في محل نصب على الحال من : { ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } و " مِنْ رَسُولٍ " فاعل : " أتى " كأنه قيل : ما أتى الأولينَ رسولٌ إلاَّ في حال قولهم : هُوَ سَاحِرٌ . فإن قيل : إن من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل وكيف وآدم لما أرسل لَمْ يُكَذّبْ ؟ ! . فالجواب : أنا لا نسلم أن المقرر رسول ، بل هو نبي على دين رسولٍ ومن كَذَّب رَسُولَه فهو يكذبه أيضاً ضرورةً . فإن قيل : قوله : { ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا } يدل على أنهم كلّهم قالوا : ساحر والأمر ليس كذلك لأن ما مِنْ رسول إلا وآمن به قومٌ وهم ما قالوا ذلك ! . فالجواب : أن ذلك ليس بعَامٍّ ، فإنه لم يقل : إلا قال كلهم وإنما قال : " إلاَّ قَالوا " ولما كان كثير منهم قابلينَ ذلك قال الله تعالى : إِلاَّ قَالُوا . فإن قيل : لِمَ لمْ يذكر المصدّقين كما ذكر المُكَذّبين ، وقال : إِلاَّ قَالَ بَعْضُهُمْ صدقتَ وبعضهم كذبتَ ؟ . فالجواب : لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب ، فكأنه تعالى قال : لا تأسَ على تكذيب قومِكَ ، فإن أقواماً قبلك كَذّبوا ورسلاً كُذّبُوا . قوله : " أَتَواصَوا بِه " الاستفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في " بِهِ " يعود على القول المدلول عليه بقَالُوا ، أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمن كساحر أو مجنون ؟ . والمعنى : كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤوا عليه ، وقال بعضهم لبعض : لا تقولوا إلا هذا وأوصى أولهم آخرَهم بالتكذيب . ثم قال : لم يكن ذلك لتواطُؤ قولٍ وإنما كان لمعنى جامع وهو أن الكُلّ أترفوا فاستغنوا فنَسُوا الله وطغوا فكذبوا رُسُلَهُ ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك .