Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 31-32)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله : { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } . واللام في قوله : " لِيَجْزِي " فيها أوجه : أحدها : أن يتعلق بقوله : { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ } [ النجم : 26 ] ذكره مكّي . وهو بعيد من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى . الثاني : أن يتعلق بما دل عليه قوله : { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } أي له ملكهما يضلّ من يشاء ويهدِي من يشاء ليجزي المُحْسِنَ والْمُسِيءَ . الثالث : أن يتعلق بقوله : " بِمَنْ ضَلَّ ، وَبِمَن اهْتَدَى " واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا . قال معناه الزمخشري . الرابع : أن يتعلق بما دل عليه قوله : { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } [ النجم : 30 ] أي حفظ ذلك لِيَجْزِيَ . قاله أبو البقاء . وقرأ زيد بن علي : لِنَجْزِي بنون العظمة والباقون بياء الغيبة . وقوله : " الَّذِينَ أحْسَنُوا " وحَّدُوا ربهم " بالْحُسْنَى " بالْجَنَّة . وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان مالكاً فلذلك قال تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } . قوله : " الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ " يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً " لِلَّذِينَ [ ( أحْسَنُوا ) " . فإن قيل : إذا كان بدلاً عن " الَّذِينَ ] أحْسَنُوا " فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال " الَّذِين أحْسَنُوا " وقال : " الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ " ولم يقل : اجْتَنَبُوا ؟ فالجواب : هو كقول القائل : الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة . ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار " أَعْنِي " ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين ، وهذا نعت للمحسنين . وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير الإثْم . قوله : " إلاَّ اللَّمَمَ " فيه أوجه : أحدها : أنه استثناء منقطع ؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها . وهذا هو المشهور . الثاني : أنه صفة ، و " إلاَّ " بمنزلة غير كقوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم . الثالث : أنه متصل . وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر ، قالوا : إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا : معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي . وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللَّمم ما دون الشرك . قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عزّ وجلّ : إلاَّ اللَّمم فقلت : هو الرجل يلم الذنب ثم لا يُعَاودُه ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملكٌ كريمٌ . وروى ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) في قوله : إلاَّ اللمم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : @ 4562 - إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا ؟ @@ وأصل اللمم ما قلَّ وصَغُر ، ومنه اللَّمَمُ وهو المسُّ من الجُنُون وألمَّ بالمكان قَلَّ لَبْثُهُ فيه ، وأَلَمَّ بالطعام أي قل أكلُهُ منه . وقال أبو العباس : أصل اللَّمَم أن يلمَّ بالشيء من غير أن يَرْكَبَهُ فقال : أَلَمَّ بكَذَا إذا قاربه ، ولم يخالطه . وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدُّنُوّ والقرب ، وقال جرير : ( رضي الله عنه وأرْضَاهُ ) : @ 4563 - بنَفْسِي مَنْ تَجَنِّيهِ عَزِيزٌ عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ @@ وقال آخر : @ 4564 - مَتَى تَأتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا @@ وقال آخر : @ 4565 - لِقَاء أَخْلاَءِ الصَّفَا لِمَامُ … @@ ومنه أيضاً لمّة الشعر لما دون الوَفْرة . فصل قال ابن الخطيب : الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة . والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه ، فإنك إذا قلبتها وقلت : حَشَفَ كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد ، فَإن الحَشَفَ أرذلُ التَّمر ، وكذلك فَشَحَ يَدُلُّ عَلَى حَالَة رَديئةٍ ، يُقَال : فَشَحَت النَّاقَةُ إذَا وَقَفَتْ على هيئةٍ مخصوصةٍ للبَوْلِ فالفُحْش يلازمه القبح ، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم ، وقال في الكبائر من الإثم ؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله : كَبَائِر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش . واختلفوا في الكبائر والفواحش ؟ فقيل : الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحاً وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حدًّا في الدنيا . وقيل : الكبائر : ما يُكَفَّرُ مستحلُّها . وقيل : الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة . قال ابن الخطيب : كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه . وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح ، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية . فصل اختلفوا في معنى الآية ، فقال بعضهم : ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معاً فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيدِ بنِ ثابت وزيدِ بن أسلم . وقيل : هو صغار الذنوب كالنَّظرة والغَمْزَة ، والقُبْلَة وما كان دون الزنا . وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروقٍ ، والشَّعْبي ورواية طاوس عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْن النَّظَرُ ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ ، والنَّفْسُ تَتَمَنَّى وتَشتهِي والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ " وفي رواية : " والأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ ، واليَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ والرِّجْلُ زِناها الخُطَى " . وقال الكلبي : اللمم على وجهين : [ الأوّل ] : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ . والوجه الآخر : هو الذنب العظيم يلمُّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه . وقال سعيد بن المسيب : هو ما لَمَّ على القلب أي خَطَرَ . وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : اللَّمَمُ النظرةُ عن غير تعمد فهو مغفورٌ ، فإن أعاد النظر فليس بلَمَم بل هُو ذنبٌ . قوله : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ } ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنه ) - لمن يفعل ذلك وتاب . وههنا تَمَّ الكلام . قوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } في تعلق الآية وجوه : أحدها : هو تصوير لما قال من قبل ، فإنه لو قال : هو أعلم بمن فعل كان القائل من الكفار يقول : نحن نعلم أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله ؟ قال : ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم ، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال . الثاني : أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال ، وكتب على البعض أنه مُهْتَد . الثالث : أنه تأكيد لبيان الجزاء ، لأنه لما قال : { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط ، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم . فصل العامل في ( قوله ) : " إذْ " يحتمل أن يكون " اذْكُرْ " فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم . وقد تم الكلام ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب . وقد تقدم الكلام على قوله : { خلقكم من تراب } بأن كل أحد أصله من التراب ، فإنَّه يصير غذاء ، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة . فإن قيل : لا بدّ من صرف قوله { إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } إلى آدم ، لأن قوله : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } عائد إلى غيره ، فإنه لم يكنْ جنيناً . وإن قلت بأن قوله تعالى : { إِذْ أَنشَأَكُمْ } عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة ؟ فالجواب : ليس كذلك ، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب ، فقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } خطاب مع من حَضَر ( وقت ) الإنزال وهم كانوا أجنَّةً ، وخلقوا من الأرض على ما قررناه . قوله : " أجنة " جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره . و " جَنِينٌ ، وأَجِنَّة " كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ . فإن قيل : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سَقْطاً ، فما فائدة قوله تعالى : { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ؟ فالجواب : أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطون الأمهات في غاية الظُّلْمَةِ ومن علم حالَ الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العِبَادِ . قوله : { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - : لا تمدحوها . وقال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } تُبَرِّئُوها عن الآثَام ولا تمدحوها بحسن أعمالها . وقال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتُنا وصيامُنا وحَجُّنا فأنزل الله هذه الآية . ثم قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } أيَ برَّ وأَطَاعَ وأَخْلَصَ الْعَمَلَ . فصل يحتمل أن يكون هذا خطاباً مع الكفار ، فإنهم قالوا : كيف يعلمنا الله ؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطاباً مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار ، ويحتمل أن يكون خطاباً مع المؤمنين وتقريره أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - قد علم كونك ومن تَبِعَك على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا نحن على الحق وأنتم على الضلال ؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله ، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى . وعلى هذا قول من قال : " فأعرض " منسوخٌ أظهر ، وهو كقوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] يعني الله أعلم بجملة الأمر .