Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 1-4)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تقدم نظيره . قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } . قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : قل : سورة النَّضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - صلوات الله وسلامه عليه - نزلوا بـ " المدينة " في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما نصّ عليه . قوله : { مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } . يجوز أن تكون " من " للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أي : أعني من أهل الكتاب . والثاني : أنها حال من " الَّذين كفروا " . وقوله تعالى : { مِن دِيَارِهِمْ } متعلق بـ " أخرج " ، ومعناها : ابتداء الغاية ، وصحت إضافة الديار إليهم ؛ لأنهم أنشئوها . قوله : { لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } . هذه اللاَّم متعلقة بـ " أخرج " وهي لام التوقيت ، كقوله تعالى : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] أي : عند أول الحشر . وقال الزمخشري : وهي كاللام في قوله تعالى : { يَٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] ، وقوله : " جئت لوقت كذا " وسيأتي الكلام على هذه " اللام " في سورة " الفجر " إن شاء الله تعالى . فصل في الكلام على الحشر قال القرطبي : " الحشر " : الجمع ، وهو على أربعة أضرب : حشران في الدنيا وحشران في الآخرة . أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } . قال الزهري : كانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء ، وكان الله - عز وجل - قد كتب عليهم الجلاء ، فلولا ذلك لعذّبهم في الدنيا ، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى " الشام " . قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن المحشر في " الشام " فليقرأ هذه الآية . وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : " اخْرُجُوا " قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرْضِ المَحْشَرِ " . قال قتادة رضي الله عنه : هذا أول المحشر . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أول من حشر من أهل الكتاب ، وأخرج من دياره . وقيل : إنهم أخرجوا إلى " خيبر " ، وإن معنى " لأول الحشر " : إخراجهم من حصونهم إلى " خيبر " ، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من " خيبر " إلى " نجد " و " أذرعات " . وقيل : " تيماء " و " أريحاء " ، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم . وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة . قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيلُ معهم حيث قالوا ، وتأكل من تخلف منهم ، وهذا ثابت في الصحيح . وذكروا أن تلك النَّار ترى بالليل ، ولا ترى بالنهار . قال ابن العربي : للحشر أول ووسط ، وآخر . فالأول : إجلاء بن النَّضير . والأوسط : إجلاء خيبر . والآخر : حَشْر يوم القيامة . وعن الحسن : هم بنو قريظة ، وخالفه بقية المفسرين ، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي . فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم قال إلكيا الطَّبري : ومُصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن ، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نُسِخَ ، والآن فلا بد من قتالهم ، أو سبيهم ، أو ضرب الجزية عليهم . قوله تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي : لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم . وقوله تعالى : { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم . قيل : المراد بالحصون : الوطيح والنَّطاة والسُّلالم والكتيبة . قوله : { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم } . فيه وجهان : أحدهما : أن تكون " حُصُونهم " مبتدأ ، و " مَانِعتهم " خبر مقدم ، والجملة خبر " أنهم " . لا يقال : لم لا يقال : " مَانعَتُهُم " مبتدأ ، لأنه معرفة ، و " حصونهم " خبره ، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير ؟ لأن القصد الإخبار عن الحُصُون ، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة . الثاني : أن تكون " مانعتهم " خبر " أنهم " و " حصونهم " فاعل به ، نحو : إن زيداً قائم أبوه ، وإن عمراً قائمة جاريته . وجعله أبو حيان أولى ؛ لأن في نحو : " قائم زيد " على أن يكون خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً ، خلافاً ، الكوفيون يمنعونه ، فمحل الوفاق أولى . قال الزمخشري : " فإن قلت : فأي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم ، أو " مانعتهم " ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ . قلت : بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وُثُوقهم ، ومنعها إياهم ، وفي تغيير ضميرهم اسماً لـ " أن " ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم ، وليس ذلك في قولك : حصونهم تمنعهم " . انتهى . وهذا الذي ذكره إنَّما يتأتى على الإعراب الأول ، وقد تقدم أنه مرجوح . وتسلط الظن هنا على " أن " المشددة ، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل " علم " وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته ، وأنه بمنزلة العلم . وقوله : { مِّنَ ٱللَّهِ } أي : من أمره . قوله تعالى : { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } . قال الزمخشري : قرىء " فأتاهم الهلاك " أي : أتاهم أمره وعذابه { من حيث لم يحتسبوا } ، أي : لم يظنوا ، وقيل : من حيث لم يعلموا . وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح : " من حيث لم يحتسبوا : بقتل كعب بن الأشرف ، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها " . وقيل : الضمير في " فأتاهم الله " يعود إلى المؤمنين ، أي : فأتاهم نصرُ الله وتقويته [ لا ] يمنعهم شيء منها . قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وخبره مشهور في السيرة . قال أهل اللغة : " الرُّعْبُ " : الخوف الذي يرعب الصُّدور ، أي : يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه ، ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنه قذف اللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه . وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى ، لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرُّعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال ، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب ، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى ، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله - تعالى - بهذا الطريق . قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم } يجوز أن يكون مستأنفاً للإخبار به ، وأن يكون حالاً من ضمير " قلوبهم " ، وليس بذاك . وقرأ أبو عمرو : " يُخَرِّبُونَ " بالتشديد ، وباقيهم : بالتَّخفيف . وهما بمعنى ؛ لأن " خرَّب " عدَّاه أبو عمرو بالتضعيف ، وهم بالهمزة . وعن أبي عمرو : أنه فرق بمعنى آخر ، فقال : " خرّب " - بالتشديد - هدم وأفسد ، و " أخرب " - بالهمزة - ترك الموضع خراباً ، وذهب عنه ، وهو قول الفرَّاء . قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً . و " يُخْرِبُونَ " من خرب المنزل وأخربه صاحبه ، كقوله : " عَلِمَ وأعْلَمَ ، وقَامَ وأقَامَ " . وإذا قلت : " يخربون بيوتهم " من التخريب فإنما هو تكثير ؛ لأن ذكر " بيوتاً " تصلح للتقليل والتكثير . وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام ، فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو : " فرحته وأفرحته " . قال الأعشى : [ المتقارب ] @ 4736 - … وأخْرَبْتَ مِنْ أرْضِ قَوْمٍ دِيَارا @@ واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التَّكثير . ويجوز أن يكون " يخربون " تفسيراً للرُّعب فلا محلَّ له أيضاً . قال أبو عمرو : وإنما اخترت التشديد ؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن ، وبنو النضير لم يتركوها خراباً ، وإنما خرَّبوها بالهدم ، ويؤيده قوله تعالى : { بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ } . فصل في تفسير الآية قال قتادة والضحاك رحمهما الله تعالى : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم . وقال مقاتل : إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزِقَّة ، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب . وقيل : إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه ، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم . وقيل : إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء ، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه ، أو الباب فيهدمون بيوتهم ، وينزعونها ، ويحملونها على الإبل . فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين ؟ . قلت : لما عرضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه ، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم . وقال الزهري : " يخربون بيوتهم " بنقض المواعدة ، " وأيدي المؤمنين " بالمقاتلة . وقال أبو عمرو بن العلاء : " بأيديهم " في تركهم لها ، " وأيدي المؤمنين " في إجلائهم عنها . قوله تعالى : { فَٱعْتَبِرُواْ يَٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } . والاعتبار : مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً ؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ ، وسمي علم التعبير ؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع . ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه . ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها . وقوله عز وجل : { يا أولي الأبصار } . قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر . قال الفراء : أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر . ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله ، فأنزلهم الله - تعالى - منها ، وسلط عليهم من كان ينصرهم ، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه . واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس . وقوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ } . العامة : على مده وهو الإخراج . يقال : أجليت القوم ، وجلا هو جلاء . وقال الماوردي : الجلاء أخصّ من الخروج ؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة ، والإخراج يكون للجماعة والواحد . وقال غيره : الفَرْق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد ، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك . وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح : " الجَلاَ " بألف فقط . وطلحة : مهموزاً من غير ألف كـ " النبأ " . والمعنى : أنه لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم ، وأنه يبقون مدة ، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن { لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا } أي : بالقتل كما فعل بإخوانهم " بني قريظة " ، والجلاء مفارقة الوطن يقال : جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء . وأما قوله : { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } ، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله ، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم ألا يوجد ؛ لأن " لولا " تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط . قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } . أي : عادوه وخالفوا أمره . { وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ } . قرأ طلحة بن مصرف ، ومحمد بن السميفع : بالفك ، كالمتفق عليه في الأفعال ، وأدغم الباقون . والمقصود من الآية الزَّجْر .