Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 125-125)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال المفَسِّرُون : لمَّا نزلت هذه ، " سُئِل رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن شَرْح الصَّدر ، قال : " نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ - تعالى - في قَلْبِ المُؤمِن ، فَيَنْشَرحُ لهُ ويَنْفَسِحُ " قيل : فَهْل لذلك أمَارَةٌ . قال : " نَعَم ، الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ ، والتَّجَافِي عن دَارِ الغُرُور ، والاسْتِعْداد للموت قبل نُزُولِهِ " " . قوله : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ } كقوله : { مَنْ يَشإِ اللهُ يُضْلِلْه } [ الأنعام : 39 ] و " مَنْ " يَجُوزُ أن تكُون مَرْفُوعة بالابتداء ، وأن تكون مَنْصُوبَةً بمقدَّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال ، أي : مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ ، وأنْ تكون مَنْصُوبَةً بمقدَّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال ، أي : مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ ، و " أنْ يَهْدِيَهُ " مَفْعُول الإرادَة ، والشَّرْح : البَسْطُ والسَّعَة ، قاله الليث . وقال ابن قُتَيْبَة : " هو الفَتْحُ , ومنه : شَرَحْتُ اللًّحم ، أي : فَتَحْتُه " وشرح الكلام : بَسَطَهَ وفتح مغْلَقَه ، وهو استِعَارةٌ في المَعانِي ، حَقِيقَةٌ في الأعْيَان . و " للإسْلام " أي : لِقُبُولِهِ . قوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } . يجُوز أن يَكُون الجَعْلُ هنا بمعْنَى التَّصْيير ، وأن يَكُون بمَعْنَى الخَلْقِ ، وأن يكون يمعنى سَمًّى ، وهذا الثًّالثُ ذهب إليه المعتزلة ، كالفارسي وغيره من مُعْتَزِلَة النُّحَاةِ ؛ لأن الله - تعالى - لا يُصَيِّر ولا يَخْلُق أحَداً كذا ، فعلى الأوًّلِ يكون " ضَيِّقاً " مَفْعُولاً ثانياً عند مَنْ شدًّدَ يَاءَهُ ، وهم العَامَّة غَيْر ابن كثير ، وكذلك عند مَنْ خَفًّفَها سَاكِنَةً ، ويكون فِيهِ لُغتانِ : التًّثقيل والتَّخْفِيفُ ؛ كميِّت ومَيْت ، وهيِّن وهَيْن . وقيل : المخَفًّف مصدرُ ضاقَ يَضِيقُ ضيقاً ، كقوله - تعالى - : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } [ النحل : 127 ] ، يقال : ضَاقَ يضيقُ وضِيْقاً بفتح الضًّادِ وكَسْرِها . وبالكَسْر قرأ ابن كثير في النحل والنَّمْل ، فعلى جعله مصدراً يَجِيءُ فيه الأوْجُه الثلاثة في المصدرِ الواقع وَصْفاً لـ " جُثًّة " ، نحو : " رجُلٌ عَدْلٌ " وهي حَذْفُ مُضَافٍ ، والمُبَالغَة ، أوْ وُقُوعه مَوْقع اسْم الفاعل ، أي : يَجْعَلُ صدره ذا ضيق ، أو ضَائِقاً ، أو نَفْس الضِّيق ؛ مُبالغةً ، والذي يَظْهَرُ من قراءة ابن كثير : أنه عِنْدهُ اسم صِفَةٍ مخَفًّف مِن " فَيْعل " وذلك أنَّه اسْتَغْرَب قراءَتَهُ في مَصْدَر هذا الفِعْلِ ، دُون الفَتْح في سُورة النًّحْل والنًّمْل ، فَلَوْ كان هذا عِنْدَهُ مَصْدَراً ، لكان الظَّاهرُ في قراءته الكَسْرَ كالموضِعَيْنِ المُشَارِ إليْهما ، وهذا من مَحَاسِنِ علم النَّحْو والقراءاتِ ، والخلافُ الجَارِي هُنَا جارٍ في الفُرقَانِ . وقال الكسائي : " الضَّيِّق بالتًّشْديد في الأجْرَام ، وبالتًّخْفيف في المَعَانِي " . ووزن ضيِّق : " فَيْعل " كميِّت وسيِّد عند جُمْهُور النَّحْويِّين ثم أدْغِم ، ويجوز تَخْفِيفُه كما تقدَّم تَحْريرُه . قال الفَارِسي : " والياءُ مثل الواوِ في الحَذْفِ وإن لم تَعْتَلَّ بالقَلْبِ كما اعتَلَّتِ الواوُ ، أتْبعَتِ اليَاءُ الواو في هذا ؛ كما أتبعت في قولهم : " أتَّسَرَ " من اليُسْر ، فجُعِلَتْ بمنزلة اتَّعَدَ " . وقال ابن الأنْبَاريّ : " الذي يُثَقِّل اليَاء يقول : وَزْنُه من الفِعْل " فَعِيل " والأصْل فيه ضَييق على مِثَال كَريم " و " نَبِيل " فجعلُوا اليَاءَ الأولى ألِفاً ؛ لتحرُّكِها وانْفِتَاح ما قَبْلَها من حَيْثُ أعَلُّوا ضَاقَ يَضِيقُ ، ثم أسْقَطُوا الألِفَ بِسُكُونها وسُكُون ياء " فَعِيل " فأشْفَقُوا مِنْ أنْ يَلْتَبِس " فَعِيل " بـ " فَعْل " فزادوا ياء على الياءِ ليكمل بها بِنَاء الحَرْفِ ، ويقعُ فيها فَرْقٌ بين " فَعِيل " و " فَعْل " . والذين خَفًّفُوا اليَاءَ قالوا : " أمِن اللَّبس ؛ لأنَّه قد عُرِفَ أصْلُ هذا الحرفِ ، فالثِّقَةُ بمعْرِفته مَانِعَةٌ من اللَّبْسِ " . وقال البصريون [ وزنه من الفِعْل " فَيْعِل " ، فأدْغِمَت الياءُ في الَّتِي بَعْدَهَا ، فَشُدِّدَ ثم جَاءَ التَّخْفِيفُ ، قال : وقد ردَّ الفَرَّاءُ وأصْحَابَهُ هذا على الَبصْريِّين ] وقالوا : " لا يُعْرَفُ في كلام العربِ اسمٌ على وَزن " فَيْعِل " يَعْنُون : بكسر العيْنِ ، إنما يُعْرَف " فَيْعَل " يعنون : بفتحها ، نحو : " صَيْقَل " و " هَيْكَل " فمتى ادّعَى مُدَّع في اسْم مُعْتَل ما لا يُعْرَفُ في السَّالِم ، كانت دَعْوَاهُ مردُودَةً " وقد تقدَّم تحْرِيرُ هذه الأقوال عِنْد قوله - تبارك وتعالى - : { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فليُراجَعْ ثَمًّةَ . وإذا قُلْنَا : إنَّهُ مُخَفًّفٌ من المشدَّدِ ؛ فهل المَحْذُوفُ اليَاء الأولى أو الثَّانِيَة " خِلافٌ مرَّت له نَظَائِرُهُ . وإذا كانت " يَجْعَل " بمعنى : يَخْلُق ، فيكون " ضَيِّقاً " حالاً ، وإن كانَتْ بمعنى " سَمًّى " ، كانَتْ مفعُولاً ثانياً ، والكلام عليه بالنِّسْبَة إلى التَّشْدِيد والتَّخْفِيف ، وتقدير المَعَانِي كالكلام عليه أوّلاً . و " حَرَجاً " و " حَرِجاً " بفتح الرَّاء وكَسْرها : هو المُتزايد في الضِّيق ، فهُو أخَصُّ من الأوَّل ، فكل حَرَج من غير عَكْس ، وعلى هَذَا فالمَفْتُوح والمكْسُور بمَعْنًى واحد ، يقال " رَجُل حَرِجٌ وحَرَجٌ " قال الشَّاعر : [ الرجز ] @ 2307 - لا حَرِجُ الصَّدْرِ ولا عَنِيفُ @@ قال الفراء - رحمه الله - : هو في كَسْرِه ونَصْبِه بمَنْزِلَة " الوَحَد " و " الوحِد " ، و " الفَرَد " و " الفَرِد " و " الدَّنَف " و " الدَّنِف " . وفرَّق الزَّجَّاج والفارسيَّ بينهُمَا فقالا : " المَفْتُوح مَصْدر ، والمكْسُور اسْمُ فَاعِل " . قال الزَّجَّاج : " الحَرَجُ أضْيَقُ الضِّيقِ ، فَمَنْ قال : رَجُلٌ حَرَجٌ - يعني بالفَتْح - فمعناه : ذُو حَرَجٍ في صَدْرِهِ ، ومن قال حَرِجٌ - يعني بالكَسْر - جعله فَاعِلاً ، وكذلك دنَف ودَنِف " . وقال الفارسي : " مَنْ فتح الرَّاء ، كان وصْفاً بالمصدر ، نحو : قَمَنْ وحَرَى ودنَف ، ونحو ذلك من المصادرِ التي يُوصَفُ بها ، ولا تكُون " كَبَطَل " لأن اسْم الفاعل في الأمْر العَام إنَّما على فَعِل " . ومن قرأ " حَرِجاً " - يعني بكسْر الرَّاء - فهو مثل " دَنِف وفَرِق بكَسْر العَيْن " . وقيل : " الحَرَجُ " بالفَتْح جمع حَرَجَة ؛ كقَصَبَة وقَصَب ، والمكْسُور صِفَة ؛ كدَنِف وأصل المادَّة من التَّشَابُك وشِدَّة التَّضَايُقِ ، فإنَّ الحَرَجة غَيْضَة من شَجَر السَّلَم ملتفة لا يَقْدِرُ أحَدٌ أن يَصِل إليها . قال العجَّاج : [ الرجز ] @ 2308 - عَايَنَ حَيًّا كَالحِرَاجِ نَعَمُهْ @@ الحِراج : جَمْع حِرْج ، وحِرْج جَمْع حَرَجَة ، ومن غَريب ما يُحكَى : أن ابْن عَبَّاسٍ قرأ هذه الآية ، فقال : هل هُنَا أحَدٌ من بَنِي بَكْرِ ؟ فقال رَجُلٌ : نعم ، قال : ما الحَرَجَة فِيكُم ؟ قال : الوَادِي الكَثِير الشًّجَر المسْتَمْسِكُ ؛ الذي لا طريقَ فيه . فقال ابن عبَّاس : " فَهَكَذَا قَلْبُ الكَافِرِ " هذه رواية عُبَيْد بن عُمَيْر . وقد حَكَى أبو الصَّلْت الثَّقْفِي هَذِهِ الحِكَايَة بأطْوَل مِنْ هذا ، عن عُمَر بن الخطابِ ، فقال : قرأ عُمِر بن الخطَّابِ هذه الآية فقال : " ابْغُونِي رَجُلاً من بَنِي كِنَانَة ، واجْعَلُوه راعِياً " فأتوهُ به ، فقال لَهُ عُمر : " يا فتى ما الحَرَجَةُ فِيكُم " ؟ قال : " الحَرَجَةُ فِينَا الشًّجَرةُ تُحْدِقُ بها الأشْجَارٌ فلا تَصِلُ إليها رَاعِيةٌ ولا وَحْشيَّةٌ " . فقال عُمَر - رضي الله عنه - : " وكذلك قُلْبُ الكافر لا يَصِلُ إليه شيءٌ من الخَيْرِ " . وبعضهُم يحْكِي هذه الكاية عن عُمر - رضي الله عنه - كالمُنْتَصِر لمن قَرأ بالكَسْرِ قال : قرَأهَا بَعْضُ أصْحَاب عُمَر له بالكَسْر ، فقال : " ابْغُوني رجلاً من كِنَانَة رَاعِياً ، وليَكُن من بني مُدْلج " . فأتوه به ، فقال : " يا فَتَى ، ما الحَرَجَةُ تكُون عِنْدكُم " ؟ فقال : " شَجَرَةٌ تكُون بيْن الأشْجَار لا يَصِلُ إلَيْهَا رَاعِيَة ولا وَحِشِيَّة " . فقال : كذلِك قَلْبُ الكَافِر ، لا يَصلُ إليه شيءٌ [ من الخَيْرِ ] . قال أبو حيَّان : " وهذا تَنْبِيه - والله أعلم - على اشْتِقَاقِ الفِعْل من اسْم العَيْن " كاسْتَنْوقَ واستَحَجَر " . قال شهاب الدين : لَيْس هذا من بابِ اسْتَنْوَقَ واسْتَحْجَرَ في شَيْءٍ ؛ لأن هذا مَعْنًى مستَقِلٌّ ، ومادَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَصَرِّفَة ، نحو : " حَرِجَ يَحْرَجُ فهو حَرِجٌ وحَارِجٌ " بخلاف تِيكَ الألفاظ ، فإنَّ معناها يُضْطَرُّ فيه إلى الأخْذِ من الأسْمَاء الجَامِدَة ، فإن مَعْنَى قولك : استَنْوَقَ الجمل ، أي : " صار كالنَّاقِة " ، واسْتَحْجر الطِّين , أي : " صار كاحجر " , وليس لنا مادَّة مُتصرِّفَة إلى صِيَغ الأفْعَالِ من لَفْظِ الحَجَر والنَّاقَةِ ، وأنْتَ إذا قُلْتَ : حَرِج صَدْرُه لَيْس بِكَ ضَرورَة أن تَقُول : " صار كالحَرَجَةِ " بل مَعْنَاه : " تَزايد ضِيقُه " ، وأما تَشْبِيهُ عُمَر بن الخطَّاب ، فلإبْرَازه المَعَانِي في قوالِبِ الأعْيَانِ ؛ مبالغة في البيانِ . وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم : " حَرِجاً " بكَسْر الراء والباقون : بفتحها وقد عُرِفَا ، فأمّا على قراءةِ الفَتْح ، فإن كان مَصْدراً ، جاءت فيه الأوْجُهُ الثلاثة المتقدِّمَة في نَظَائِرِه ، وإن جُعِلَ صِفَة فلا تأويلَ . ونَصْبُه على القراءتَيْن : إمَّا على كونِهِ نَعْتاً لـ " ضَيِّقاً " ، وإمَّا على كَوْنه مَفْعُولاً به تعدَّد ، وذلك أنَّ الأفْعَال النَّواسِخَ إذا دَخَلَت على مُبْتَدأ وخبر ، كان الخبرانِ على حَالِهما ، فكما يَجُوز تعدُّدُ الخبر مُطْلقاً أو بتَأويل في المبتدأ والخبَرِ الصَّريحَيْن ، كذلك في المَنْسُوخَيْن حين تَقُول : " زَيْدٌ كَاتِبٌ شَاعِرٌ فقيهٌ " ثم تقُول : ظنَنْتُ زيداً كِاتِباً شاعراً فِقِيهاً ، فتقول : " زَيْداً " مَفْعُول أوَّل ، " كاتباً " مَفْعُول ثانٍ ، " شَاعِراً " مفعول ثالث ، " فَقِيهاً " مَفْعُول رَابع ؛ كما تَقُول : خبر ثانٍ وثالث ورابع ولا يَلْزَمُ من هذا أن يتعدًّى الفِعْل لثلاثة ولا أرْبَعَة ؛ لأن ذلك بالنِّسْبَة إلى تَعَدُّد الألْفَاظِ ، فلِيْس هذا كقولك في : أعْلَمْتُ زيداً عمراً فاضلاً ، إذ المَفْعُول الثُّالِثُ هناك لَيْس متكَرِّراً لشَيْء واحِدٍ ؛ وإنما بَيًّنْتُ هذا لأن بَعْضَ النَّاسِ وهم في فَهْمِه ، وقد ظَهَر لك ممَّا تقدَّم أن قوله : " ضيِّقاً حَرَجاً " ليس في تكْرَار . وقال مَكِّي : " ومعنى حَرِجٌ - يعني بالكَسْرِ - كمعنى ضيِّق ، كرِّر لاخْتِلاف لفْظِه للتأكيد " . قال شهاب الدِّين : إنما يكون للتَّأكيد حيث لم يَظْهَر بَيْنَها فَارِقٌ فَتَقُول : كُرِّر لاخْتِلاف اللًّفْظِ ؛ كقوله : { صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] وكقوله : [ الوافر ] @ 2309 - … وَألْقَى قَوْلَهَا كَذِباً ومَيْنَا @@ وقوله : [ الطويل ] @ 2310 - … وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ @@ وأما هُنَا فقد تقدَّم الفَرْقُ بالعُمُوم والخُصُوصِ أو غير ذَلِك . وقال أبُو البقاء : " وقيل : هو جَمْع " حَرَجَة " مثل قصبة وقَصَب ، والهاءُ فيه للمُبالغَة " . قال شهاب الدين : " ولا أدْري كَيْفَ توهَّم كَوْنَ هذه الهاء الدَّالَّة على الوَحْدَةِ في مُفْرِدَ أسْمَاء الأجْنَاسِ ؛ كثمرة وبُرَّة ونَبِقَة للمُبالغة ، كَهِي في رَاويةٍ ونَسَّابَة وفرُوقة ؟ فصل في الدلالة من الآية تمسَّك أهل السُّنَّةِ بهذه الآية الكَريمة في أن الهِدَاية والضَّلال مِنَ اللَّه - تعالى - ؛ لأن لَفْظَهَا يدلُّ على المسألةِ ، ويدل على الدَّليلِ العَقْلِيّ المقتدّم في المسألةِ وهو العِلْمُ والدَّاعِي ، وبيانُه أن العَبْد قَادِرٌ على الإيمانِ والكُفْر ، وقُدْرَتُه بالنِّسْبَة إلى هَذَيْن الأمْرَيْن على السَّويَّة ، فيمتنع صُدُور الإيمان عَنْهُ بدلاً من الكُفْر ، أو الكُفْر بدلاً من الإيمانِ ، إلاَّ إذا حَصَلَ في القَلْبِ دَاعِيَةٌ إلَيْه ، وتلك الدَّاعِيَةُ لا مَعْنَى لها ، إلاَّ عِلْمُه أو اعتِقَادُه أو طَنُّه بِكَون ذلك الفِعْلِ مُشْتِمَلاً على مَصْلَحةٍ زائدة ، ومَنْفَعَةٍ رَاجَحَة ، فإذا حصل هذا المَعْنَى في قِلْبِهِ ، دَعَاه ذَلِكَ إلى فِعْل ذلك الشَّيْء ، وإن حَصَلَ في القَلْب عِلْمٌ أو اعْتِقَادٌ أوْ ظَنٌّ بكون ذلك الفِعْلِ مُشْتَملاً على مَفْسَدة رَاجِحَةٍ وصُور زَائِدَة ، دَعَاه ذَلِك إلى تركه ، وثبت أن حُصُولَ هذه الدًّواعِي لا بُدَّ وأن تَكُون من اللَّهِ - تعالى - ، وإذا ثَبَتَ ذَلِك فنقول : يَسْتحِيلُ أن يَصْدُر إيمانُ عن العبْد إلاَّ إذا خَلَق اللَّهُ في قَلْبِهِ اعْتِقَاد أنَّ الإيمان رَاجِح المَنْفَعَةِ ، زائد المَصْلَحَةِ ، فحينئذٍ يميل قَلْبُهُ وتَرْغَب نَفْسُه في تَحْصِيله ، وهذا هو انْشِرَاحُ الصَّدرِ للإيمان ، فإن حَصَلَ في القَلْبِ أنَّه مَفْسدةٌ عَظِيمَةٌ في الدِّين والدُّنْيَا ، وأنه يُوجِب المَضَارّ الكَثِيرَة ، فحينئذ يَتَرتَّب على هذا الاعْتِقَاد نَفْرَة عَظِيمةَ عن الإيمانِ ، وهذا هُوَ المُرَادُ من أنَّه - تبارك وتعالى - يَجْعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً . قالت المعتزلة : لنا هَهُنَا مَقَامَان : الأوَّل : في بَيَان أنَّهُ لا دلالة لَكُم في هَذِه الآية الكريمة . الثاني : التَّأويل المُطابق لمذْهَبنا . أما المقام الأول : فتَقْرِيرُه من وُجُوه : أحدها : أن هذه الآية الكريمة لَيْسَ فيها أنه - تبارك وتعالى - أضَلَّ قَوْماً أوْ يُضِلُّهم ؛ لأنَّه لَيْسَ فِيَهَا إلاَّ أنه [ مَتَى أرَاد أن يَهْديَ إنْساناً ، فعل به كَيْتَ وكَيْتَ ، وإذا أرَادَ إضْلالهُ فعل به كَيْتَ كَيْتَ ، ولَيْست الآيةُ أنَّه ] - تعالى - يُريد ذَلِكَ أو لا يُريدُ ذلك ، ويدُلُّ عليه قولُه - تبارك وتعالى - : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] ، فبين أنه - تبارك وتعالى - كَيْفَ يفْعَل اللَّهْو لو أرَادَهُ ، ولا خِلاف أنَّه - تبارك وتعالى - لا يُرِيُد ذلك ولا يَفْعَلُه . وثانيها : أنه - تعالى - لم يَقُل : ومن يُرد أن يُضِلَّه عن الإسلام ، بل قال : " ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ " فلم قُلْتُم : إن المُرَادَ : ومَنْ يُرِد أنْ يُضْلِلْهُ عن الإيمان . وثالثها : أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في آخرِ الآية الكريمة ، أنه إنَّما يَفْعَلُ هذا الفِعْلَ بهذا الكَافِرَ جَزاءً على كُفْرِه ، وأنَّه ليس ذلك على سَبيل الابْتِدَاء ، فقال : { كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } . ورابعها : أنّ قوله - تبارك وتعالى - : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } يدلُّ على تقدم الضِّيق والحَرَج على حُصُول الضِّلالِ ، وأن لِحُصُول ذَلِك المتقدِّم أثَرٌ في حُصُول الضِّلالِ ، وذلك بَاطِلٌ بالإجْمَاعِ ، أما عِنْدَنا ، فلا نَقُول بِهِ وأمَّا عندكم ؛ فلأن المقْتَضي لِحُصُول الجَهْلِ والظِّلالِ هو الله - تبارك وتعالى - يَخْلُقُه فيه بِقُدْرَتِهِ . وأما المقام الثاني : فهو تَفْسير الآية الكريمة على ما يُطَابِقُ مَذِهَبَنا ، وذلك من وُجُوهٍ : الأول : وهو اخْتِيارُ الجُبَّائي ، ونَصَرَهُ القَاضِي أن تَقْدِير الآية الكَرِيمة : فمن يُرِدِ اللَّهُ أن يَهْدِيَه إلى طََرِيق الجَنَّةِ ، يَشْرَح صَدْرَه للإسْلامِ ، حتى يَثْبُت عَلَيْه ولا يَزُولُ عنه ، وتَفْسِيره هذا الشَّرْح : هو أنَّه - تعالى - يَفْعَلُ به ألْطَافاً تَدْعُوه إلى البقاءِ على الإيمانِ والثَّبَاتِ علَيْه , وهَذِه الألطَافُ لا يُمْكِن فِعلُها بالمؤمِنِ , إلاَّ بعد أن يُصَيِّرَهُ مُؤمِناً حَتَّى يَدْعُوه إلى البقاءِ على الإيمانِ والثباتِ عليه ، وإليه الإشارةُ بقوله - تبارك وتعالى - : { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] وبقوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] ، فإذا آمن العَبْد وأراد ثَبَاتَهُ على الإيمانِ ، فحينئذٍ يَشْرَح صَدْرَه ، أي : يَفْعَلُ به الألْطَافَ الَّتِي تَقْتَضِي ثَبَاتَهُ على الإيمان ودَوامَهُ عليه ، وأمَّا إذا كَفَر وعَانَد وأراد اللَّه - تبارك وتعالى - أن يُضِلَّهُ عن طَرِيق الجنَّة ، فعند ذلك يُلْقِي في صَدْرِه الضِّيق والحَرَجَ ، ثم سَألَ الجُبَّائِي نَفْسَه ، فقال : كَيْف يصِحُّ ذلك ونَجِد الكُفَّار طَيِّبي النُّفُوس ، ولا غَمَّ لهم ألْبَتَّة ولا حُزْنَ . وأجاب عنه : بأنَّه - تبارك وتعالى - لم يُخْبِر بأنَّه ؛ يَفْعَلُ بِهم ذَلِك في كُلِّ وقْتٍ ، فلا يُمْتَنَع كَوْنهم في بَعْضِ الأوْقاتِ طيِّبي القُلُوب ، وسأل القَاضِي نفْسَه ذلك الضيِّق في بَعْضِ الأوْقَاتِ . وأجاب عنه : بأنَّه قال : وَكَذَلِكَ نَقوُل ودَفْع ذَلِك لا يُمْكِن خُصُوصاً عند ورُودِ أدلَّة اللَّه - تبارك وتعالى - ، وعند ظُهُورِ نُصْرَة الله للمُؤمنين ، وعِنْد ظُهُور الذِّلَّة والصِّغَار فيهم . التَّأويل الثاني : أن المراد : فَمَنْ يُرد اللَّه أن يَهْدِيه إلى الجَنَّةِ ، فَيَشْرَح صَدْره للإسْلام [ أي : يشرح صَدْرَه للإسْلام ] في ذلك الوَقْتِ الَّذِي يَهْدِيه فيه إلى الجَنَّةِ ؛ لأنه لما رَأى أنَّ بسبب الإيمان وجد هذه الدَّرجة العَالِيَة ، يزدْادُ رغْبَتُه في الإيمان ، ويَحْصُل مَزيدُ انْشراح [ في صَدْرِهِ ] ، ومن يُرِدْ أن يُضِلِّه يَوْم القيامةِ عن طريق الجنَّة ، فَفِي ذلك الوَقْتِ يَضِيقُ صَدْرُه ؛ بسبَبِ الحُزْن الَّذِي نَالَهُ عن الحِرْمَانِ من الجَنَّةِ والدُّخُول في النَّارِ . التأويل الثالث : أن في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، والمعنى : من شَرَح صَدْر نَفْسِهِ بالإيمانِ ، فقد أراد اللَّه أن يَهْدِيَهُ ، أي : يَخُصه بالألْطَافِ الدَّاعِيَة إلى الثَّبَات على الإيمانِ ، هذا مَجْمُوع كَلامِهِم . والجواب عن قَوْلِهِم أولاً : أنه لم يَقُل في هَذِه الآية أنه يُضِلُّه ، بل قال : إنَّه أو أرَادَ أن يُضلَّهُ ، لفعل كذا وكذا ، فنَقُولُ ، إن قَوْلَهُ في آخر الآية الكريمة : { كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } تَصْرِيحٌ بأنَّه يَفْعَلُ بهم ذلك الضَّلال ، لأن حَرْف " الكَافِ " في قوله : " كَذَلِك " يُفِيدُ التَّشْبيه ، والتَّقْدِير : وكما جَعَلْنا ذلك الضِّيق والحَرَجِ في صَدْرِه ، فكذلك يَجْعَلُ اللَّه الرِّجْس على قُلُوب الَّذِين لا يُؤمِنُون . والجواب عن الثَّانِي : وهو أن قوله : { ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلًّهُ } لَيْس فيه بِيَانُ أنْ يُضِلَّه عن الدِّين ، فَنَقُول : إن قَولَهُ في آخر الآية : { كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } تصريح بأن المراد من قوله : { ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضلَّه } هو أن يُضِلَّه عن الدِّين . والجواب عن الثالث : وهو أنَّه - تبارك وتعالى - إنَّما يُلْقِي الضِّيق والحَرَجَ في صَدُورهم جزاء على كُفْرِهِم فنقول : لا نُسْلِّم أن المُراد ذلِك ، بل المُرَاد : كذلك يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ على قُلُوبِ الَّذين قضى عليهم بأنهم لا يُؤمِنُون ، وإذا جَعَلْنَا الآية على هذا الوَجْهِ ، سقط ما ذكَرُوهُ . والجواب عن قولهم : إنَّ ظاهِر الآية الكريمة يَقْتَضِي أن يكُون ضِيقُ الصَّدْرِ وحَرَجْه شيئاً متقدِّماً على الضَّلالِ ، أو مُوجباً لَهُ ، فنقول : والأمْر كذلك ؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا خَلَق في قَلْبِه اعْتِقَاداً بأنَّ الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يُوجِبُ الذَّم في الدُّنْيَا ، والعُقُوبَة في الآخِرَة ، فهذا الاعتِقَادُ يوجبُ اعراض النَّفْس عن قُبُول ذلك الإيمانِ ، وهذه الحَالَةُ شَبيهَةٌ بالطَّريق الضَّيِّق ؛ لأن الطَّريق إذا كان ضيِّقاً ، لم يَقْدِر الدَّاخِل أنْ يَدْخُل فيه فذلك القَلْبُ إذا حَصَل فيه ذلك الاعتِقَاد ، امْتَنع دُخُول الإيمان فيهِ فلأجل حُصُول المُشابَهة من هذا الوَجْهِ ، جاز إطلاقُ لَفْظِ الضِّيقِ والحَرَجِ عَلَيْه . وأما الجوابُ عن التَّأويلات الثلاثة فَنَقُول : أما الأوَّل : فإن حَاصِلَ ذلك الكلام يَرْجَعُ إلى تَفْسير الضيق والحَرَجَ ، فلمَّا كان المُرَادُ منه حُصُول الغَمِّ والحُزْنِ في قَلْبِ الكَافِر ، فذلك يُوجِبُ أن يكُون ما يَحْصُل في قَلْبِ المُؤمِن زِيَادة يَعْرِفُها كُلُّ أحَد , ومعلوم أن الأمْرَ ليس كَذلك ، بل الأمْرُ في حُزْنِ الكَافِر والمؤمِنِ على السَّويَّة ، بل كان الحُزْن والبلاء في حقِّ المؤمن أكْثَر ، قال - تبارك وتعالى - : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " خُصَّ البلاءُ بالأنْبيَاءِ ثُمَّ بالأمْثَلِ فالأمْثل " . والجوابُ عن الثُّاني : أنه مَدْفُوع ؛ لأنه يَرْجِعُ حاصلة إلى إيضاح الواضِحَاتِ ؛ لأن كل أحَدٍ يعْلَمُ بالضَّرُورةِ ، أن كُلَّ من هَدَاه اللّهُ إلى الجَنَّةِ بسبب الإيمانِ يَفْرَحُ بسبَبِ تِلْكَ الهداية ، ويَنْشَرح صَدْرُهُ للإيمان مَزِيد انْشِرَاح في ذلك الوقْتِ ، وكذلك القَوْلُ في قوله : المُرَادُ : ومن يُضلُّه عن طريق الجنَّةِ بأنه يضيقُّ قَلْبُه في ذلكِ الوقْتِ ، فحُصُول هذا المَعْنَى معلُوم بالضَّرُورة ، وحمْلُ الآية الكريمة عليه إخْرَاجٌ للآيةِ عن الفَائِدةِ . والجواب عن التَّأويل الثالث : فهو يَقْتَضِي تَفْكِيك نَظْم الآية ؛ لأن الآية الكريمة تقْتَضِي أن يَحْصُل انْشِرَاح الصَّدْر من قِبَل اللَّه - تبارك وتعالى - أولاً ، ثم يَتَرتَّب عليه حُصُول الهدايةِ والإيمانِ ، وأنتم عَكَسْتُم القَضِيَّة ، فقلتم : العَبْدُ يجعل نفسه أولاً مُنْشَرح الصَّدْر ، ثم إن الله - تبارك وتعالى - أوَّلاً بعد ذلك يَهْدِيه ، بمعنى أنه يَخُصُّه بمزيد الألْطَاف الدَّاعية لَهُ إلى الثَّبَاتِ على الإيمانِ ، والدَّلائل اللّفْظِية ، إنما يمكِنُ التَّمَسُّك [ بِهَا إذَا أبْقَيْنَا ما فيها من التركِيبَات والترتيبَات ، فأمَّا إذا أبْطَلْنَاهَا وأزَلْنَاهَا ، لم يمكن التَّمَسُّك ] بشيء مِنْهَا أصْلاً ، وفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ ألاَّ يُمْكِن التَّمَسُّك بشَيءٍ من الآيَات ، ولكن طَعْن في القُرآنِ العَظِيم ، وإخْراجٌ له عن كَوْنِهِ حُجَّةً . قوله : " كَانَّمًا " " مَا " هذه مُهَيِّئَة لِدُخُول كأنَّ على الجمل الفعلية ؛ كَهِي في { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } [ آل عمران : 185 ] . قوله : " يَصَّعَّدُ " وقرأ ابن كثير : " يَصْعَدُ " ساكن الصَّادِ ، مخَفِّف العَيْن ، مضارع " صَعِد " أي : ارتفع ، وأبُو بكْرٍ عن عاصم : " يصَّاعَدُ " بتشديد الصَّاد بعدها ألِفٌ ، وأصْلُها يتصاعَدُ ، أي : " يتعَاطى الصُّعُود ويَتَكَلَّفه " فأدْغم التَّاءً في الصَّادِ تَخْفيفاً ، والباقون : " يَصَّعَّد " بتَشْديد الصَّادِ والعَيْن دون ألِفٍ بَيْنَهُما ، مِنْ " يصَّعَّد " أي : يَفْعَل الصُّعُود ويُكَلَّفه ، والأصْل : " يَتَصَعَّد " فأدغم كما في قِراءَة شُعْبَة وهذه الجُمْلَة التشبيهيَّة يحتمل أن تكُونَ مُسْتَأنفة ، شبَّه فيها حَالَ مَنْ جَعَل اللَّهُ صدْرهُ ضيِّقاً حَرَجاً ، بأنه بِمَنْزِلَة من يَطْلُب الصُّعُود إلى السَّماءِ المظللة أو إلى مكان مرتفع [ وعْرٍ ] كالعَقَبَةِ الكَؤود . والمعنى : أنه يَسْبِقُ عليه الإيمانُ كما يَسْبقُ عليه صُعُود السَّماء ، وجوَّزوا فيها وَجْهَيْن آخرين : أحدهما : أن يكون مَفْعُولاً آخر تعدَّد كما تعدَّد ما قَبْلَها . والثاني : ان يكُون حالاً وفي صاحبها احتمالان : أحدهما : هو الضَّمِيرُ المسْتَكِنُّ في " ضَيِّقاً " . والثاني : هو الضَّمِير في " حَرَجاً " ، و " في السَّماءِ " متعلِّقٌ بما قَبْلَه . قوله : " كَذَلِكَ يَجْعَلُ " هو كنظائره , وقدَّره الزَّجَّاج : " مثل ما قَصَصْنَا علَيْك يَجْعَل " أي : فيكون مُبْتَدأ وخبراً ، أو نَعْت مَصْدر مَحْذُوف ، فلَكَ أن تَرْفَعَ " مِثْل " وأن تَنْصِبَها بالاعْتِبَاريْن عِنده ، والأحسن أن يُقَدَّر لها مَصْدَر مُنَاسِبٌ كما قدره النَّاسُ ، وهو مِثْل ذلك الجَعْل - أي : جَعْلِ الصَّدر ضَيِّقاً حَرَجاً - " يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ " كذا قدَّره مكي وغيره ، و " يَجْعَل " يحتمل أن تكُونَ بمعْنَى " ألْقَى " وهو الظَّاهِرُ ، فتتعدَّى لواحدٍ بنَفْسِها وللآخر بحَرْف الجرِّ ، ولذلك تعدَّتْ هُنَا بـ " عَلَى " والمَعْنَى : " كذلِكَ يُلْقي الله العذابَ على الَّذِين لا يُؤمِنُون " . ويجوز ان تكُون بمعْنَى صَيَّر أي : " يُصَيِّره مُسْتعْلياً عليهم مُحِيطاً بِهِم " ، والتَّقْدير الصِّناعي : مستَقِرّاً عليهم . فصل في بيان معنى الرجس قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : الرِّجْسُ هو الشَّيْطَان . وقال الكَلْبِي : هو المأثم . وقال مُجَاهِد : الرِّجْس : ما لا خَيْرَ فيه . وقال عطاء : الرِّجْس العذاب مثل الرِّجْزِ . وقيل هو النَّجِس ؛ رُوِي أنه - عليه الصلاة والسلام - كان إذَا دخل الخلاء قال : " اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْس والنَّجِسِ " . وقال الزَّجَّاج : الرِّجْس : اللَّعْنَة في الدُّنْيَا ، والعذاب في الآخرَة .