Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 148-149)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما حكى عن أهْلِ الجاهِليَّة إقدامهم على الحُكْم في دين اللَّه بغير دَلِيل - حكى عُذْرَهُم في كلِّ ما يُقْدِمُون عليه من الكُفْرِيَّات ، فيقولون : لَوء شَاء الله مِنَّا ألا نَكْفُر ، لمَنَعَنَا عن هذا الكُفْرِ ، وحيث لم يَمْنَعْنَا عنه ، ثبت أنه مُرِيدٌ لذلك ، وإذا أراده مِنَّا ، امتنع مِنَّا تركُه ، فكُنَّا مَعْذُورين فيه . واعلم أن المُعْتَزِلَة اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على مَذْهَبِهم من سبعة أوجه : أحدها : أنه - تعالى - حَكَى عن الكُفَّار صَرِيح قول المُجَبرة ، وهو قولهم : " لَوْ شَاء اللَّه مِنّا ألاَّ نُشْرِك ، لم نُشْرِك " ، وإنَّمَا حَكَاهُ عنهم في مَعْرِض الذَّمِّ والقبح ، فوجب كوْن هذا المَذْهَب مذمُوماً باطِلاً . وثانيها : أنه - تبارك وتعالى - قال بَعْدَه : " كَذَّب " وفيه قراءتان : التَّخفيف والتثقيل . أما قراءة التخفيف : فهي تَصْرِيح بأنَّهم قد كَذَبُوا في ذلك القَوْل ، وذلك يَدُلُّ على أن قول المُجبِّرة في هذه المسْألة كذبٌ . وأمَّا قِرَاءة التَّشْدِيد : فلا يمكن حَمْلُها على أن القَوْم استوجَبُوا الذَّمَّ بسبب أنَّهُم كذَّبُوا هذا المَذْهِب ؛ لأنا لو حَمَلْنا الآية عليه ، لكان هذا المعنى ضِدّاً للمعْنَى الذي يَدُلُّ عليه قراءة " كَذَبَ " بالتَّخْفِيف ، فتصير إحدى القراءَتَيْن ضِدَّ الأخْرى ، وإذا بَطَل ذلك ، وجب حَمْلُه على أن المُرَادِ منه : على ان كُلَّ من كذَّب نَبِيّاً من الأنْبِيَاء في الزَّمَان المتقدَّم ، فإنما كذَّبه بهذا الطَّريق ؛ لأنه يَقُول : " الكل بِمَشِيئَة الله ، فهذا الذي أنا عَلَيْه من الكُفْرِ إنما حَصَل بمشِيئَة الله - تعالى - ، فلم يَمْنَعْنِي منه " وإذا حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه ، صارت القِرَاءة بالتَّشْدِيد مؤكَّدة للقِرَاءَة بالتَّخْفيف ، فيصير مجمُوع القِرَاءَتَيْن دالاً على إبْطَال قَوْل المُجَبَّرة . وثالثها : قوله - تبارك وتعالى - بعده : { حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا } وذلك يدُلُّ على أنَّهم استوجبوا الوَعِيد من اللَّهِ ؛ بذِهَابِهم إلى هذا الوَجْهِ . ورابعها : قوله - تعالى - بعده : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ } , وهذا اسْتِفْهَامٌ على وجه الإنْكَار ، وذلك يدلُّ على أنَّ هذا القائل بهذا القَوْل لَيْس لَهُ فِيه حُجَّة ، فدلّ على فَسَادِه ؛ لأن الحقَّ على القَوْل به دَلِيل . وخامسها : قوله - تعالى - بعده : { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } مع أنه - تعالى - ذم الظّنَّ بقوله - تعالى - : { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] ونظائره . وسادسها : قوله : { وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } ، والخَرْص أكبر أنواع الكَذِب ، قال - تعالى - : { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } [ الذاريات : 10 ] . وسابعها : قوله - تعالى - بعده : { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَة } وتقديره : أنَّهُم احتجوا في دَفْع دَعْوى الأنْبِيَاء على أنْفُسِهِم بأن قَالُوا : كل ما حَصَلَ فَهُو بمشِيئَةِ اللَّه - تعالى - ، وإذا شَاءَ اللَّه مِنَّا ذلك ، فكَيْف يمكننا تَرْكُهُ ؟ وإذا كُنَّا عاجِزِين عن تَرْكه ، فكيف يَأمُرُنا بترْكِهِ ؟ وهل في وُسْعِنا وطاقََتِنا أن نأتي بِفِعْل على خلاف مَشِيئَة اللَّه - تعالى - ، فهذا هو حُجَّة الكُفَّارِ على الأنْبِيَاء ، فقال - تعالى - : { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ } وذلك من وجهين : الأول : أنه - تعالى - أعْطَاكُم عُقُولاً كامِلَة ، وأفْهَاماً وافيةً ، وآذَاناً سامِعَةً ، وعيوناً بَاصِرَةً ، وأقدَرَكُم على الخَيْر والشَرِّ ، وأزال الأعْذَار والمَوانِع بالكُلِّيَّة عنكم ، فإن شِئْتُم ذهبتم إلى الخَيْرَات ، وإن شِئْتُم ذهبتم إلى عَمَلِ المَعاصِي والمنْكَرَاتِ ، وهذه القُدْرَةِ والمُكْنَة معلُومة الثُّبُوت بالضَّرُورَة ، وزَوَال المَوانِع والعَوائِق معلوم الثُّبُوت أيضاً بالضَّرُورة ، وإذا كان الأمْر كذلك ، كان ادِّعَاؤُكم أنَّكم عَاجِزُون عن الإيمان والطَّاعة دَعْوى بَاطِلة ، فَثَبَت بما ذَكَرْنا أنه لَيْس لكم ، على اللَّه حُجَّة ، بل لله الحجَّة البَالِغَة عليكم . الوجه الثاني : أنكم تَقُولون : لو كَانَت أفْعَالُنا واقِعة على خلاف مشيئَة الله - تعالى - ، لكنَّا قد غَلَبْنَا الله وقَهْرَنَاه ، وأتينا بالفِعْل عَلَى مُضادَّتِه ، وذلك يُوجِب كونه عَاجِزاً ضَعِيفاً ، وذلك يَقْدَح في كونه إلهاً ، فأجاب الله - تبارك وتعالى - عنه : بأن العَجْز والضَّعْف إنما يَلْزَم إذا لم يَكُن قَادِراً [ على حمْلِهِم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجاء ، وأنا قَادِرٌ ] على ذلك ، وهو المُرَادُ من قوله : { فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ، إلا أني لا أحْمِلكم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجَاءِ ؛ لأن ذلك يُبْطِل الحِكْمَة المطْلُوبة من التَّكْلِيف ، فثبت بهذا البَيَان أن الَّذِين يَقُولُونه من أنَّا لو أتَيْنَا بعَمَل على خِلاف مَشِيئَة الله - تعالى - , فإنه يَلْزَم منه كَوْنه - تعالى - عاجزاً ضَعِيفاً ، كلام باطل . قال ابن الخطيب : والجواب المعْتمَد في هذا الباب أن نَقُول : إن هذه السُّورة من أولها إلى آخِرِها تدلُّ على صِحَّة قولنا ومذهبنا ونَقَلْنَا في كل آيَةٍ ما يَذْكُرُونه من التَّأوِيلاَت ، وأجَبْنَا عنها بأجْوبة واضِحَةٍ قويَّةٍ مؤكَّدَةٍ بالدَّلائل العَقْلِية القَاطِعَة . وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : إنه - تبارك وتعالى - حكى عن القَوْم بأنَّهم قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا } ثم ذكر عَقِيبَه : " كذلك كذَّب الذين من قَبْلِهِم " فهذا يدلُّ على أن القَوْم قالوا : لمَّا كان الكُلُّ بمشِيئَة اللَّه وتقديره : كان التَّكْلِيف عَبَثاً ، فكانت دَعْوى الأنْبِيَاء باطِلة ، ونُبُوِّتُهم ورسالَتُهم باطلة ، ثم إنه - تبارك وتعالى - بيَّن أن التَّمَسُّك بهذا الطَّرِيق في إبْطَال النُّبُوة بِاطِلٌ ، وذلك لأنَّه إله يَفْعَل ما يشاء ويَحْكُم ما يُريد ، ولا اعتراض لأحد عَلَيْه ، فهو - تبارك وتعالى - يشاء الكُفْر من الكَافِر ، ومع هذا يبْعَثُ إليه الأنْبِيَاء ، ويَأمُرهُ بالإيمان ، وورود الأمْر على خِلاف الإرَادة غير مُمْتَنِع . فالحاصل : أنه - تبارك وتعالى - بيَّن أن هذا الاستدلال فاسدٌ باطلٌ ؛ فإنه لا يَلْزَم من ثُبُوت المشيئة للَّه في كل الأمُور على دَفْع دعْوَة الأنْبِيَاء , وعلى هذا الطَّريق فقط سقط هذا الاسْتِدْلال بالكُلِّيَّة , وجميع الوُجُوه التي ذَكَرْتُمُوها , والتَّقْبِيح والتَّهْجِين عائد إلى تَمَسُّكهم بِثُبُوت المشِيئَة للَّه على دَفْع دعْوة الأنْبِيَاء فيكون الحاصل : أنَّ هذا الاسْتِدْلال بِاطِلٌ [ وليس فيه ألْبَتَّة ما يدُلُّ على أن القَوْلَ بالمشِيئَة بَاطِلٌ ] . فإن قالُوا : إن هذا العُذْر إنما يَسْتَقِيم إذا قَرَأنا قوله - تعالى - : " كَذِلك كذَّبَ " بالتَّشْديد ، وأمّا إذا قَرَأنَاه بالتَّخْفِيف ، فإنه يَسْقُط هذا العُذْر بالكُلِّيَّة ، فنقوله : فيه وجهان : الأول : أنا نمنع صِحَّة هذه القِراءة ؛ والدَّليل عليه أنّا بَينَّا أن هذه السُّورة من أولها إلى آخِرِهَا تدلُّ على قَوْلِنا ، فلو كانت هذه الآية الكريمة دالَّةٌ على قَوْلهم لوقع التَّنَاقُض ، ويَخْرُج القُرْآن عن كَوْنه كلاماً - لله - تعالى - ، ويَنْدَفع هذا التَّنَاقُض بألا نَقْبَل هذه القراءة . والثاني : سلّمنا صِحَّة هذه القراءة ، لكن نَحْمِلُها على أن القَوْم كَذَبُوا في أنه يَلْزَمه من ثُبُوت مَشِيئة اللَّه - تعالى - في كل أفعال العِبَاد ، سُقُوط نُبُوَّة الأنْبِيَاء وبُطْلان دعوتهم وإذا حَمَلْنَاه على هذا الوجه ، لم يبق للمُعْتَزِلة تَمَسُّك بهذه الآية . ومما يُقَوِّي ما ذكَرْنَاه : ما رُوِي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - ؛ قيل له بَعْد ذهاب بَصَرِه : ما تقول فيمن يَقُول : لا قَدَر ؟ فقال : إن كان في البَيْت منهم أحَدٌ أتَيْتُ عَلَيه ويلهُ أما يَقُول اللَّه : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُم } [ يس : 12 ] . وقال ابن عباس : " أول ما خَلَق اللَّه القَلَم ، فقال له : اكتب ، فَجَرَى القَلَم فكتب بما يكُون إلى قيام السَّاعَة " وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " المُكَذِّبُون بالقَدَرِ مَجُوسُ هذِهِ الأمَّةِ " . قوله : " وَلاَ آبَاؤُنَا " عَطْف على الضَّمِير المَرْفُوع المتَّصِل ، وزعم سيبويه : أن عطف الظَّاهِر على المُضْمَر المرْفُوع في الفِعل قبيحٌ ، فلا يَجُوز أن يُقال : " قمت وزيْد " ؛ لأن المَعْطُوف عليه أصْلٌ والعَطْف فَرْع المُضْمَر ، والمُظْهَر قويٌّ فجعله فَرْعاً للضَّعِيف لا يَجُوز ، وإذا عُرِف هذا فَنَقُول : إن جَاء الكلامُ في جَانِب الإثْبَاتِ ؛ وجب تَأكيد المُضْمَر فتقول : " أنا وَزيْد " ، وإن جاء في جَانِب النَّفْي قلت : " ما قُمْتُ ولا زَيْد " وإذا ثَبَتَ هذا ؛ فنقول : قوله : { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } فعطف قوله : " ولا آباؤُنَا " على فَاعِل الضَّمِير في قوله : " ما أشْرَكْنَا " ولم يأتِ هنا بتأكيد بِضَمِير رَفْع مُنْفَصِل ، ولا فَاصِل بين المُتعاطِفَيْن اكتفاء بُوجُود " لا " الزَّائِدة للتَّأكيد فَاصِلة بين حَرْف العَطْفِ والمَعْطُوف ، وهذا هو على قَوَاعِد البَصْرِيِّين ، وأمّا الكُوفِيُّون فلا يَشْتَرِطُون شَيْئاً من ذلك ، وقد تقدَّم إتْقَان هذه المَسْألة . وفي هذه الآية لم يُؤكِّد الضمير ، وفي آية النَّحْل أكّدَ ؛ فقال تعالى : { مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا } [ النحل : 35 ] وهناك أيضاً قال : " مِن دُونِه " مَرَّتين وهنا قَالَها مرة واحدة ، فقال أبُو حيَّان : " لأن لَفْظ " العِبَادة " يَصِحُّ أن يُنْسَب إلى إفْرَاد اللَّه بها ، وهذا لَيْس بِمُسْتَنْكر ، بل المُسْتَنْكِر عبادة غَيْر اللَّه ، أو شيء مع اللَّه ، فناسب هنا ذِكْر " مِن دُونه " مع العِبَادة ، وأمّا لَفْظ " مَا أشْرَكْنَا " فالإشْرَاك يدلُّ على إثْبَات شَرِيكٍ ، فلا يتركَّبُ مع هذا الفِعْل لَفْظ " مِن دُونهِ " لو كان التَّرْكِيب في غَيْر القُرْآن : " ما أشْرَكْنا من دُونه " [ لم يَصِحَّ المَعْنَى . وأمّا " مِن دُونه " الثَّانية ، فالإشْرَاك يَدُلُّ على تَحْرِيم اشْياء وتحليل أشياء ، فلمْ يَحْتَج إلى لفظ " مِن دُونِهِ " ] وأمّا لفظ العِبَادة فلا يَدُلُّ على تَحْرِيم شَيْءٍ كما يدلُّ عليه لفظ " أشْرَك " فَقُيِّد بقوله : " مِنْ دُونِهِ " ولما حَذَف " مِن دُونِهِ " هنا نَاسب أن يُحْذَف " نَحْن " ليطَّرِدَ التَّرْكِيب في التَّخْفِيف " . قال شهاب الدِّين : " وفي هذا الكلام نَظَر لا يَخْفَى " . قوله : " مِن شَيْءٍ " " مِنْ " زائدة في المَفْعُول ، أي : ما حَرَّمْنا شَيئاً ، و " من دُونِه " متعلِّق بـ " حرّمنا " أي : ما حَرَّمنا من غير إذْنه لَنَا في ذلِك . قوله : " وكذالك " نعت لِمَصْدر مَحْذُوف ، أي : مثل التَّكْذِيب المُشَار إليه في قوله : " فإن كَذَّبُوك " . وقُرىء : " كَذَب " بالتَّخْفِيف . وقوله : " حَتَّى ذَاقُوا " جاء به لامْتِداد التكْذيب , وقوله : " مِنْ عِلْم " يحتمل أن يَكُون مُبْتَدأ و " عِنْدَكم " خبر مُقدَّم ، وأن يكون فَاعِلاً بالظَّرْف ؛ لاعتماده على الاسْتِفْهام ، و " مِنْ " زائِدة على كِلاَ التَّقْدِيريْن . وقرأ النَّخْعِي وابن وثاب : " إن يتِّبِعُون " بياء الغَيْبَة . قال ابن عطيَّة : وهذه قِرَاءة شاذَّة يُضَعِّفها قوله : { وَإِنْ أَنْتُم إِلاَّ تَخْرُصُونَ } يعني : أنه أتى بَعْدَها بالخِطَاب فبعُدت الغَيْبَة ، وقد يُجَاب عنه بأنَّ ذلك من بَابِ الالتِفَات . قوله : " قُلْ فَلِلِّهِ " بين " قُلْ " وبين " فَلِلَّهِ " شيء مَحْذُوف ، فقدّره الزمخشري شرطاً ؛ جوابه : فِلِلَّهِ ؛ قال : " فإن كان الأمر كما زَعَمْتُم من كَوْنِكُم على مشِيئَة اللَّه فللَّه الحُجَّة " . وقدّره غيره جُمْلة اسميَّة ، والتقدير : قل أنْتُم لا حُجَّة لكم على ما ادَّعَيْتُم فَلِلَّهِ الحُجَّة البَالِغَة عليكم ، والحدة البالغة : هي التي تَقْطَعُ عذر المَحْجُوج ، وتطرد الشَّكَ عمن نَظَر فيها . قوله : { فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } . احتج به أهْلُ السُّنَّة على أن الكُلَّ بمشيئَة الله - تعالى - ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " في اللُّغة تُفيد انْتِفَاء الشَّيْ لانْتِفَاء غَيْره ، فدلّ هنا على أنَّه - تعالى - ما شَاءَ أن يَهْدِيهم وما هَدَاهُم أيضاً ، وتَقْرِيُره بالدَّلِيل العَقْلِي : أن قُدَرَة الكَافِر على الكُفْرِ إن لَمْ تكن قُدْرَة على الإيمان ، فاللَّه - تعالى - عَلَى هذا التَّقْدير ما أقْدَرَهُ على الإيمان ، فلو شَاءَ الإيمان منه ، فَقَدْ شَاءَ الفِعْل من غير قُدْرَةٍ على الفِعْلِ ، وذلك مُحَالٌ ، ومشِيئَةُ المُحَال مُحَال ، وإن كانت القُدْرَةُ على الكُفْرِ قُدْرَةٌ على الإيمانِ ، تَوَقَّف رُجْحَان أحد الطَّرَفَيْن على حُصُول الدَّاعِية المُرَجِّحَة . فإن قُلْنَا : إنه - تعالى - خلق تلك الدَّاعِيَة المُرَجِّحَة ، مع القُدْرَة ، ومَجْمُوعُهما للفعل ، فَحَيْثُ لم يَحْصُل الفِعْل ، عَلِمنا أن تِلْكَ الدَّاعِيَة لَمْ تَحْصُل ، وإذا لم تَحْصُل ، امتَنَع منه فِعْل الإيمان ، وإذا امْتَنَع ذلك منه ، امْتَنَع أن يُريدَه اللَّه مِنْه ؛ لأن إرَادَة المُحَال مُحَالٌ مُمْتَنِع ، فثبت أن ظَاهِر القُرْآن العَظيم دلّ على أنّه مَا أرَادَ الإيمان من الكَافِرِ ، والبُرْهَان العَقْلِي الذي قَرَّرْنَاهُ يدل عليه أيضاً ، فَبَطَل قولُهُم من كُلِّ الوُجُوه . فإن قالوا : نَحْمِل هذه الآيةِ على مَشِيئَة الإلْجَاءِ . فنقول : هذا التَّأويل إنما يَحْسُن المصير إليه : لو ثَبَت بالبُرْهَان العقْلِيِّ امتِنَاع الحَمْل على [ ظَاهِرِ هذا الكلام ، أمّا لو قام البُرْهَان العَقْلِيُّ على ] أن الحقِّ ليس إلاَّ ما دلّ عليه هذا الظَّاهِر ، فكيف يُصَار إلى التَّأويل ؟ ثم نقول : التأويل بَاطِلٌ لوجوه : الأول : ان هذا الكلامَ لا بُدَّ فيه من إضْمَار ، والتقدير : ولو شَاءَ اللَّه الهِدايةَ لهَدَاكُم ، وأنتم تَقُولون : التقدير : لو شاء الله الهِدَاية على سبيل الإلْجَاءِ لهَداكُم ، فإضْمَارُكُم أكثر ، فكَان قَوْلُكُم مرجُوحاً . الثاني : أنه - تبارك وتعالى - يُريد من الكَافِر الإيمان الاخْتِيَاريِّ ؛ والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ ، غير الإيمانِ الحَاصِلَ بالاخْتِيَار ، وعلى هذا التَّقدير : يلزم كَوْنُه - تعالى - عاجزاً عن تَحصِيل مرادِهِ ؛ لأن مُرَادَهُ الإيمان الاخْتِيَاري ، وأنه لا يَقْدِر ألْبَتَّة على تحْصِيلهِ ، فكان القَوْلُ بالعَجْزِ لاَزِماً . الثالث : أن هذا الكلام موقُوفٌ على الفَرْق بَيْن الإيمان الحاصِلِ بالاخْتِيَار ، وبين الإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ . أمّا الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يَمْتَنِع حصُولُه إلاعِنْد داعيَةٍ جَازِمَة ، وإرادة لازِمَة ، فإن الدَّاعية التي يترتَّبُ عليها حُصُول الفِعْل ؛ إمّا أن تكون بحيث يَجِبُ ترتُّبُ الفِعْل عليها ، أوْ لا يَجِب ، فإن وَجَبَ ، فهي الدَّاعية الضَّرُوريِّة ، وحينئذٍ لا يَبْقى بينها وبين الدَّوَاعِي الحَاصِلة بالإلْجَاء فَرْق ، وإن لم يجب تَرَتُّب الفِعْل ، فحينئذ يُمْكِن تخلُّف الفِعْل عنها ، فلْنَفْرِض تارة ذلك الفِعْل مُتَخَلِّفاً عنا ، وتارة غير مُتَخَلِّفٍ ، فامْتِيَاز الوَقْتَيْن عن الآخَرِ لا بُدّ وأن يَكُون لِمُرَجِّح زائدٍ ، فالحَاصِل قبل ذلك ما كان تَمَام الدَّاعِية ، وقد فرضْنَاه كذلك ، هذا خلف ، ثم انْضِمَام هذا القَيْد الزَّائِد وجب الفِعْل ، لم يبق بَيْنَه وبين الضَّرُورة فرْقٌ ، فإن لم يَجِب ، افْتَقَر إلى قيد زَائدٍ ، ولزم التَّسَلْسُل وهو مَحَالٌ ؛ فَثَبَت أن الفَرْق الذي ذَكَرُوه بين الدَّاعِية الاخْتِيَاريَّة وبين الدَّاعِيَة الضَّرُورية ، وإن كان في الظَّاهر معتَبَراً ، إلاَّ أنه عند التَّحْقِيق والبحث لا يبقى له مَحْصُولٌ .