Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 152-152)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا استثناء مُفَرّغ أي : لا تَقَرَبُوه إلا بالخَصْلَة الحُسْنَى ، فيجُوزُ أن يَكُون حالاً ، وأن يَكُون نَعْتَ مَصْدَر ، وأتى بصيغة التَّفْضِيل ؛ تنبيهاً على أنَّه يتحرَّى في ذلك ، ويَفْعَل الأحْسَن ولا يَكْتَفي بالحَسَن . قوله : " حَتَّى يَبْلُغ " هذه غاية من حَيْث المَعْنَى ، فإن المَعْنى : احْفَظُوا ماله حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ ، [ ولو جَعلْنَاه غاية للَّفْظِ ، كان التقدير : لا تَقْرَبُوه حتى يَبْلُغ ] فاقربوه ، ولَيْس ذلك مُرَاداً . قال القرطبي : " وليس بُلُوغ الأشُدِّ مما يُبِيحُ به قُرْب ماله بغير الأحْسَن ؛ لأن الحُرْمَة في حقِّ البَالِغ ثابِتَةٌ ، وخصَّ اليتيم بالذِّكر ؛ أن خَصِيمَهُ الله - تعالى - , والمعنى : لا تَقْرَبُوا مال اليَتيم إلا بالَّتِي هي أحْسَن على الأبَدِ حَتَّى يَبْلُغ أشُدَه ، وفي الكلام حَذْف تقديره : فإذا بَلَغَ أشُدَّه وأونِس منه الرُّشْد ، فادْفَعُوا إليه مَالَه " . والأشُدُّ : اختلف النَّحْويُّون فيه على خمسة أوجه : فقال الفرَّاء : " هو جمع لا وَاحِد له ، والأشُدُّ واحدُها " شَدٌّ " في القياس ، ولم أسْمَع لها بِوَاحدٍ " . وقيل : هو مُفْرَدٌ لا جمع ، نقل ابن الأنْبَاري ذلك عن بعض أهْل اللَّغَة ، وأنه بِمَنْزِلة " الآنُك " , ونقل أبو حيَّان عنه : أن هذا الوَجْه مُخْتَاره في آخرين ، ثم قال : " ولَيْس بمختارٍ ؛ لفقدان أفْعُل في المُفْرَادَات وضعاً " . وقيل : هو جَمْع " شدَّة " و " فِعْلَة " يُجْمَع على " أفْعُل " ؛ كنِعْمَة وأنْعُم ، قاله أبو الهَيْثَم ، وقال : " وكأن الهَاءَ في الشِّدَة والنِّعْمَة لم تكن في الحَرْف ، إذ كانت زَائِدَة ، وكان الأصلُ نِعْم وشِدّ فَجُمِعَا على " أفْعُل " ؛ كما قالوا : رِجْل وأرْجُل ، وقِدْح وأقْدُح ، وضِرْس وأضْرُس " . وقيل : هو جمع شُدّ [ بضم الشِّين نقله ابن الأنْبَارِي عن بعض البَصْرِيِّين ؛ قال : كقولك : هو وُدُّ ، وهم أوُدٌّ ] . وقيل : هو جمع شَدّ بفتحها ، وهو مُحْتَمل . والمراد هُنَا ببلوغ الأشد : بُلُوغ الحُلُمِ في قَوْل الأكْثَرِ ؛ لأنه مَظِنَّة ذلك . وقيل : هو مَبْلَغ الرِّجَال من الحِيلة والمَعْرِفة . وقيل : هو أن يَبْلغ خمسة عشر إلى ثلاثين . وقيل : أن يَبْلغ ثلاثة وثلاثين . وقيل : أرْبَعِين . وقيل : سِتِّين ، وهذه لا تَلِيق بهذه الآيةِ ، إنما تليق بقوله - تعالى - : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ الأحقاف : 15 ] وتقدم منه طرف في النساء . والأشُدُّ مشتق من الشِّدَّة ؛ وهي القُوَّة والجلادة ، وأنشد الفرَّاء - رحمه الله تعالى - : [ البسيط ] @ 2382 - قَدْ سَادَ وهو فَتًى حَتَّى إذَا بَلَغَتْ أشُدُّهُ وعَلاَ فِي الأمْرِ واجْتَمَعَا @@ وقال الآخرُ في ذلك : [ الكامل ] @ 2383 - عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارُ كأنَّمَا خُضِبَ البَنَانُ وَرَأسُهُ بِالعِظْلمِ @@ قوله : { وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } " الكيل والميزان " هما الآلة التي يُكال بها ويُوزَن ، وأصْل الكَيْل : المصْدَر ثم أطْلِق على الآلَةِ ، و " الميزان " : مِفْعال من الوزن لهذه الآلةِ ؛ كالمِصْبَاح والمقياس لِمَا يُسْتَصْبَحُ به ، وما يُقاسُ به ، وأصل ميزان : مِوْازن فَفُعِلَ به ما فُعِلَ بمِيقَاتٍ ، وقد تقدم في البقرة . و " بِالقِسْطِ " حال من فَاعِل " أوْفُوا " أي : أوْفُوهُمَا مقسطين ، أي : مُتَلَبِّسِين بالقِسْط ، ويجُوز أن يكون حالاً من المفعُول ، أي : أوْفُوا الكَيْل والميزان مُتَلَبِّسِين بالقِسْطِ ، أي : تَامِّين ، والقِسْط العدل . وقال أبو البقاء : " والكيْل هنا مَصْدر في مَعْنَى المَكِيل ، وكذلك الميزان ، ويجُوز أن يكون فيه حَذْفُ مُضَافٍ ، تقديره : مَكِيل الكَيْلِ ومَوْزُونُ المِيزانِ " ، ولا حاجة إلى ما ادِّعَاه من وُقُوع المصدر موقع اسْمِ المفعُول ، ولا من تقدير المضاف ؛ لأن المعنى صحيح بدُونهما ، وأيضاً فـ " ميزان " ليس مصدراً ، إلا أنه يُعَضِّد قوله ما قاله الوَاحِدِيُّ ، فإن قال : " والميزن ، أي : وزن الميزان ؛ لأن المُرَاد إتْمَام الوَزْن ، لا إتمام الميزان ؛ كما أنَّه قال : " وأوْفوا الكَيْل " ولم يقل المِكْيَال ، فهو من بابِ حَذْف المُضَافِ " انتهى . والظَّاهر عدم الاحْتِيَاج إلى ذلك ، وكأنَّه لم يَعْرِف أن الكَيْل يُطْلَق على نَفْس المِكْيَال ، حتى يقول : " ولم يقل المكيال " . قوله : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً } مُعْتَرض بين هذه الأوَامِر ، واعلم أنَّ كُلَّ شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتَمَّ ، يقال : درْهَم وافٍ وكيل وافٍ ، وأوْفَيْتُه حقَّه وَوَفَيْتُه ، إذا أتممته ، وأوْفَى الكيل ، إذا أتَمَّهُ ولم يَنْقُص منه شَيْئاً ، وكذلك وَفَى المِيزَان . وقوله : " بالقسط " أي : بالعَدْل لا بخْس ولا نُقْصَان فيه . فإن قيل : " أوفُوا الكَيْل والمِيزَان " هو عين القِسْط ، فما فَائِدة التكرير ؟ فالجواب : أن اللَّه - تبارك وتعالى - أمر المُعْطِي بإيفاءِ ذي الحقِّ حقَّه من غير نُقْصَانٍ ، وأمر صَاحِبَه أن يَأخُذ حقَّهُ من غير طلب زِيَادة ، ولما كان يَجُوز أن يَتَوَهَّم الإنْسَان أنه يَجِب على التَّحقِيق ، وذلك صَعْبٌ شديدٌ في العَدْل ، أتْبَعَهُ الله - تعالى - بما يُزِيُل هذا التَّشْدِيد ، فقال : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها } ، أي : الوَاجب [ في إيفَاءِ ] الكيْل والوَزْنِ هو القَدْر المُمْكِن ، أمَّا التّحْقِيق فغير وَاجِبٍ . قال القرطبي - رحمه الله تعالى - : في مُوَطأ مالكٍ عن يَحْيَى بن سَعيد - رضي الله عنه - ؛ أنه بلغه عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - ؛ أنه قال : " ما ظَهَر الغُلُول في قَوْم قطّ إلا ألْقَى اللَّه في قُلُوبِهم الرُّعْب ؛ ولا فَشَا الزِّنَا في قَوْم إلاَّ كَثُر فيهم المَوْت ، ولا نَقَصَ قَوْم المِكْيَال والميزانَ إلا قطعَ عَنْهُم الرِّزْق ، ولا حَكَمَ قَوْم بغير الحقِّ إلا فَشَا فيهم الدَّم ، ولا قوم بالعهد إلا سُلِّطَ عليهم العَدُوُّ " . وقال ابن عبَّاس : إنكم مَعْشر الأعاجم قد وليتم أمْرَيْن بهما هلك من كان قبلكم ، الكَيْل والميزان فصل قال القاضي : " إذا كان الله - تعالى - قد خف على المُكَلَّف هذا التخفيف ، مع أن ما هُو التَّضْيِيقُ مَقْدُورٌ له ، فكيف يَتَوَهَّمُ متوَهِّمٌ أنه - تبارك وتعالى - يكلف الكَافِر الإيمان مع أنَّهُ لا قُدْرَة له عليه ؟ بل قالوا : إن الله - تعالى - يَخْلُقُ الكُفْر فيه ، ويُريد منه ويَحْكُم به عليه ، ويخلق فيه القُدْرَة الموجِبَة لذلك الكُفْر والدَّاعِية الموجِبَة له ، ثم يَنْهَاه عنه ، فهو - تعالى - لمًّا لم يُجَوِّز ذلك القَدْر من التَّشْديد والتَّضْييق على العَبْد ، وهو إيفاء الكَيْل والوَزْن على سبيل التَّخْفِيف ، فكيف يَجُوز أن يُضَيِّق على العَبْد مثل هذا التَّضْييق والتَّشْدِيد ؟ " وجوابه : المُعَارضة بمَسْألة العِلْم والدَاعي . قوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ } حمله المُفَسِّرون على أدَاءِ الشَّهَادة والأمْر والنَّهي . قال القاضي : وليس الأمْر كذلك ، بل يَدْخُل فيه كُلُّ ما يتصل بالقَوْل من الدَّعْوة إلى الدِّين ، وتَقْرير الدَّلائل عليه ، ويَدْخُل فيه أن يكُون الأمْر بالمَعْرُوف والنَّهِي عن المنكر وَاقِعاً على الوَجْه بالعَدْل من غير زِيَادة في الإيذَاء والإيحَاشِ ، ونُقْصَان عن القدر الواجب ، ويدخل فيه الحِكَايات التي يَذْكُرها الرَّجُل حتى لا يَزيد فيها ولا يَنْقُص عنها ، ومن جملتها تَبْلِيغ الرِّسالات النَّاسَ وحكم الحَاكِم ، ثم إنه - تبارك وتعالى - بيَّن أنه يَجِبُ أن يُسَوَّى فيه بين القَريب والبَعيد ، فقال : { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ؛ لأن المَقْصُود منه طلب رضوان الله - تعالى - ، وذلك لا يَخْتَلِف بالقُرْب والبُعْد ، ولو كان المَقُولُ له والمَقول عليه ذَا قُرْبَة . قوله : " وبِعَهْدِ اللَّهِ " يجُوزُ أن يكُون من بابِ إضافَةِ المصدر لفاعِلِه ، أي : بما عَاهَدَكُم اللَّهُ عليه ، وأن يكُون [ مُضافاً لمفعُوله ، أي : بما عاهدتم اللَّه عليه ؛ كقوله : { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] وأن تكون ] الإضافة لمجرد البيان ، أُضيفَ إلى اللَّه - تعالى - من حَيْثُ إنه الآمِر بِحِفْظِهِ والمراد به العَهْد الواقع بين الآيَتَيْن . فإن قيل : ما السَّبَبُ في أن خَتْمَ الآية الكريمة بقوله : " تَذَكَّرُون " وخاتمة الأولى " تَعْقِلُونَ " . فالجواب لأن الأربعة قَبْلَها خَفِيَّة ، تحتاج إلى إعمال فِكْر ونظر ، حتى يقف مُتَعاطِيها على العَدْل ، فناسبها التذكر ، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة تعقلها وتَفْهَمُها ؛ فلذلك ختمتْ بالفعل . " تَذَكرُون " حيث وَقَع ، يقرؤه الأخوان وعَاصِم في رواية حَفْصِ بالتَّخْفِيف ، والباقون بالتَّشْدِيد ، والأصْل : " تَتَذَكِّرُون " فمن خَفَّف ، حذف إحْدى التَّاءَيْن ، وهل هِي تاءُ المُضارعة أو تاء التَّفَعُل ؟ خلاف مَشْهُور ، ومن ثقَّل ، أدْغَم التَّاء في الدَّال .