Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 27-27)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمَّا بيَّن أنهم يهلكون أنْفُسَهُمْ شَرَحَ كَيْفِيَّة ذلك الهلاك فقال : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } ، وجواب " لو " محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : " لرأيت شيئاً عظيماً وَهَوْلاً مُفْظِعاً " . وحذف الجواب كثير في التَّنْزِيلِ ، وفي النظم كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } [ الرعد : 31 ] . وقول الآخر [ في ذلك : ] [ الطويل ] @ 2135 - وَجَدِّكَ لَوْ شَيءٌ أتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ ولَكِنْ لَمْ نَجَدْ لَكَ مَدْفَعَا @@ وقوله : [ الطويل ] @ 2136 - فَلَوْ أنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً ولَكنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا @@ وقول الآخر فأجاد : [ الكامل ] @ 2137 - كَذَبَ العَوَاذِلُ لَوْ رَأيْنَ مُنَاخَا بِحَزيزِ رَامَةَ والمَطِيُّ سَوَامِي @@ وحذفُ الجواب أبْلَغُ [ قالوا : ] لأن السَّامِعَ تذهب نَفْسُهُ كل مذهب ، ولو صرَّح له بالجواب وطَّنَ نفسه عليه فلم يحسن منه كثيراً ، ولذلك قال كثير في ذلك : [ الطويل ] @ 2138 - فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ إذَا وطِّنَتْ يَوْماً لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ @@ وقوله : " ترى " يجوز أن تكون بصريةً ، ومفعولها محذوف ، أي : ولو ترى حالهم ، ويجوز أن تكون القَلْبِيَّةَ ، [ والمعنى : ] ولو صرفت فكرك الصحيح لأنْ تَتَدَبَّرَ حَالَهُمْ لازْدَدْتَ يقيناً . وفي " لو " [ هذه ] وجهان : أظهرهما : أنها الامتناعية ، فينصرف المُضَارعُ بعدها للمُضِيِّ ، فـ " إذا " باقيةٌ على أصلها من دلالتها على الزَّمَنِ الماضي ، وهذا وإن كان لم يقع بعدُ ؛ لأنه سيأتي يوم القيامةِ ، إلاَّ أنه أبرز في صورة الماضي لتحقُّقِ الوَعْدِ . والثاني : أنها بمعنى " إنْ " الشَّرطيَّة ، و " إنْ " هنا تكون بمعنى " إذا " ، والذي حمل [ هذا ] القائل على ذلك كَوْنُهُ لم يقع بعد وقد تقدَّمَ تأويله . وقرأ الجمهور - رضي الله عنهم - : " وُقِفُوا " مبنيَّا للمفعول من " وقف " ثلاثياً [ و " على " يحتمل أن تكون على بابها وهو الظاهر أي : حبسوا عليها ، أو عرضوا عليها ، وقيل : يجوز ] أن تكون بمعنى " في " ، أي في النَّار ، كقوله : " عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ " ، أي : في ملك سليمان . وقرأ ابن السَّمَيْفَعِ ، وزيد بن علي : " وَقَفُوا " مبيناً للفاعل . و " وَقَفَ " يتعدَّى ولا يتعدَّى , وفرَّقَتِ العَرَبُ بينهما بالمَصْدَرِ ، فمصدر اللازم على " فُعُول " ، ومصدر المُتعدِّي على " فَعْل " ولا يقال : أوْقَفْتُ . قال أبو عمرو بن العلاء : " لم أسْمَعْ شيئاً في كلام العرب : " أوقفت فُلاناً " ، إلاَّ أنِّي لو رأيت رَجُلاً واقفاً فقلت له : " ما أوقفك هاهنا " لكان عندي حَسَناً " وإنما قال كذلك ؛ لأنَّ تعدِّي الفِعْل بالهمزة مقيسٌ نحو : ضحك زيدٌ وأضحكته أنا ، ولكن سَمِعَ غيره في " وقف " المتعدي أوقفته . قال الراغب : " ومنه - يعني من لفظِ وقفتُ القوم - اسْتُعِيرَ وقفت الدَّابَّة إذا سَبلْتَهَا " فجعل الوقف حقيقةٌ في مَنْع المشي ، وفي التَسْبِيلِ مَجَازاً على سبيل الاسْتِعَارَةِ ، وذلك أن الشَّيْءَ المُسْبَلَ كأنه ممنوعٌ من الحركة , والوقف لفظٌ مشترك بين ما تقدَّمَ وبين سوارٍ من عاجٍ ، ومنه : حمار مُوقَّفٌ بأرْسَاغِهِ مِثْلُ الوقْفِ من البَيَاضِ . فصل في معنى الوقوف على النار وقال الزجاج - رحمه الله تعالى - : ومعنى وقفوا على النَّار يحتمل ثلاثة أوجه : الأول : يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يُعَاينُوها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار . الثاني : يجوز أن يكون وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النَّار على الصِّراطِ ، وهو جِسْرٌ فوق جَهَنَّمَ " على النَّار " . [ الثالث : ] معناه : أنهم عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك : " وقَّفْتُ فلاناً على كلام فلان " أي : عَلَّمتُهُ معناه وعرَّفته ، وفيه الوجه المتقدِّم ، وهو أن يكون " على " بمعنى " في " ، والمعنى أنهم يكونون غَائِصينَ في النَّارِ ، وإنَّما صحَّ على هذا التقدير أن يقول : وقفوا على النَّار ، لأن النَّار دَرَكَاتٌ وطَبَقَاتٌ بعضها فوق بعض ، فيصح هناك معنى الاسْتِعْلاَء . قوله : " يا لَيْتنا " قد تقدَّم الكلام في " يا " المُبَاشرة للحرف والفعل . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي " ولا نُكَذِّبُ " و " نكون " برفعهما وبنَصْبهمَا حمزة ، وحفصُ عن عاصم ، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر ، وأبو بكر . ونقل أبو حيَّان عن ابن عامرٍ أنَّهُ نصب الفعلين ، ثم قال بعد كلام طويل : قال ابن عطية - رضي الله عنه - : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمَّارٍ عن أصحابه , عن ابن عامر : " ولا نكذِّبُ " بالرفع ، و " نكون " بالنصب ، فأمَّا قراءة الرفع فيهما ، ففيها ثلاثةُ أوجه : أحدها : أن الرفع فيهما على العَطْفِ على الفِعْلِ قبلهما ، وهو " نُرَدُّ " ، ويكونون قد تَمَنَّوا ثلاثة أشياء : الرَّدّ إلى دار الدنيا ، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم ، وكونهم من المؤمنين . والثاني : أن " الواو " واو الحال ، والمضارع خبر مبتدأ مُضْمَرٍ ، والجُمْلَةُ الاسمية في مَحَلِّ نصب على الحال من مرفوع " نُرَدُّ " . والتقدير : يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذَّبين وكائنين [ من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيداً بهاتين الحالين ، فيكون الفعلان ] أيضاً داخلين في التمنّي . وقد اسْتَشْكَلَ الناسُ هذهين الوجهين ، بأن التَّمَنِّي إنشاء , والإنْشَاءُ لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب ، وإنما يدخلان في الأخبار ، وهذا قد دَخَلَهُ الكَذِبُ لقوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه : أحدها : ذكره الزمخشري - قال : هذا تَمَنٍّ تضمَّنَ معنى العِدَة ، فجاز أن يدخله التَّكْذِيبُ كما يقول الرَّجُلُ : " ليت اللَّه يرزقني مالاً فأحْسِن إليك ، وأكَافِئَكَ على صَنيعِكَ " فهذا مُتَمَنٍّ في معنى الواعد ، فلو رُزِقَ مالاً ولم يُحْسِنْ إلى صاحبه ، ولم يكافئه كذب ، وصَحَّ أن يقال له كاذب ، كأنه قال : إن رزقني اللَّهُ مالاً أحسنتُ إليك . والثاني : أن قوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون } [ الأنعام : 28 ] ليس متعلّقاً بالمتمني ، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تبارك وتعالى ، بأنهم دَيْدَنهم الكَذِبُ وهجيراهم ذلك ، فلم يَدْخُلِ الكذبُ في التمنِّي ، وهذان الجوابان واضحان ، وثانيهما أوضح . والثالث : أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ التمنِّي لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب ، بل يدخلانه ، وعُزِيَ ذلك إلى عيسى بن عُمَرَ ، واحتج على ذلك بقول الشاعر [ حيث قال ] : [ الطويل ] @ 2139 - مُنًى إنْ تَكُنْ حَقَّا تَكُنْ أحْسنَ المُنَى وإلاَّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَناً رَغْدَا @@ قال : " وإذا جاز أن تُوصَفَ المُنَى بكونها حَقّاً جاز أن تُوصَفَ بكونها باطلاً وكذباً " . وهذا الجواب سَاقِطٌ جداً ، فإن الذي وُصِفَ بالحَقِّ إنما هو المُنَى ، و " المنى " : جمع " مُنْيَة " و " المُنْيَةُ " تُوصَفُ بالصِّدْق والكذب مجازاً ؛ لأنها كأنها تَعِدُ النَّفْسَ بوقوعها ، فيقال لما وقع منها : صَادِق ، ولِمَا لم يَقَعْ منها : كاذب ، فالصِّدْق والكذب إنما دَخَلا في المُنْيَةِ لا في التمني . والثالث من الأوجه المتقدمة : أن قوله : " ولا نُكَذِّبُ " خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة اسْتئنَافِيَّةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها ، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجملة المُشْتملة على أدَاةِ التمني وما في حيِّزهَا ، فليستْ داخلةً في التَّمَنِّي أصلاً ، وإنما أخبرَ الله - تبارك وتعالى - عنهم أنهم أخْبَرُوا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربِّهم ، وأنَّهُمْ يكونون من المُؤمنينَ ، فتكون هذه الجملة وما عُطِفَ عليها في مَحَلِّ نصبٍ بالقول ، كأنَّ التقدير : فقالوا : يَا لَيْتَناَ نُرَدُّ وقالُوا : نحن لا نُكَذِّب ونكُون من المؤمنين . واختار سيبويه هذا الوجه وشبَّهَهُ بقولهم : " دَعْنِي ولا أعُودُ " ، أي : وأنا لا أعود تَرَكْتَنِي أو لم تتركني ، أي : لا أعود على كُلِّ حالٍ ، كذلك معنى الآية : أخْبروا أنهم لا يُكَذِّبُون بآيات ربهم ، وأنهم يَكُونُون من المؤمنين على كل حالٍ ، رُدُّوا أو لم يُرَدُّوا . وهذا الوجهُ وإن كان النَّاسُ قد ذكروه ورجَّحُوه ، وأختاره سيبويه - رحمه الله - كما مَرَّ ، فإن بعضهم اسْتَشْكَلَ عليه إشْكَالاً ، وهو : أنَّ الكَذِبِ لا يَقَعُ في الآخرة ، فكيف وُصِفُوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم " ولانُكَذِّب ونكون " ؟ وقد أجيب عنه بوجهين : أحدهما : أن قوله { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون } [ الأنعام : 28 ] اسْتيثَاقٌ لذَمِّهِمْ بالكذب ، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّمَ ذلك آنفاً . والثاني : أنهم صَمَّموا في تلك الحَالِ على أنهم لو رُدُّوا لما عادوا إلى الكُفْرِ لما شَاهَدُوا من الأهْوالِ والعقوبات ، فأخبر اللَّهُ - تعالى - أنَّ قولهم في تلك الحَالِ : " ولا نكذِّبُ " وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الرَّدِّ ، ووقوع العَوْدِ ، فيصير قولهم : " ولا نكذّب " كذباً ، كما يقول اللِّصُّ عند ألم العقوبة : " لا أعود " ويعتقد ذلك ويصمم عليه ، فإذا خُلِّصَ وعاد كان كاذباً . وقد أجاب مَكّي أيضاً بجوابين : أحدهما [ قريب ] مما تقدَّم ، والثاني لغيره ، فقال - أي لكاذبون في الدُّنْيَا في تكذيبهم الرُّسُلَ ، فإنكارهم البَعْثَ للحال [ التي ] كانوا عليها في الدُّنْيَا ، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وُقُوعَ التكذيب في الآخرة ، لأنهم ادَّعَوْا أنهم لو رُدُّوا لم يُكَذِّبوا بآيات الله ، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون ، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكذَّبوا بآيات اللِّهِ ، فأكذبهم اللَّهُ في دَعْوَاهُمْ . وأمَّا نَصْبُهُمَا فبإضمار " أنْ " بعد الواو التي بمعنى " مع " ، كقولك : " ليت لي مالاً وأنْفِقَ منه " فالفعل منصوب بإضمار " أن " ، و " أنْ " مصدرية ينسبِكُ منها ومن الفعل بعدها مَصْدرٌ ، و " الواو " حرف عَطْفٍ ، فيستدعي معطوفاً عليه ، وليس قبلها في الآية إلاَّ فعل ، فكيف يُعْطَفُ اسْمٌ على فعل ؟ فلا جَرَمَ أنْ نقدِّر مصدراً متوهّماً يُعْطَفُ هذا المصدر المُنْسَبكُ من " أنْ " وما بعدها عليه ، والتقديرُ : يا ليتنا لنا رَدُّ ، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكَوْنٌ من المؤمنين أي : ليتنا لنا ردٌّ مع هذين الشيئين ، فيكون عدم التكذيب والكَوْنُ من المؤمنين مُتَمَنَّييْنِ أيضاً ، فهذه ثلاثة أشياء أعني الرَّدَّ وعدم التكذيب ، والكون من المؤمنين مُتَمَنَّاةٌ بقيد الاجتماع ، لا أنَّ كُلَّ واحدٍ مُتَمَنًّي وَحْدَهُ ؛ لما تقدَّم من أنَّ هذه " الواو " شرط إضمار " أنْ " بعدها : أن تصلح " مع " في مكانها ، فالنصبُ يُعيِّنُ أحد مُحْتَمَلاتِهَا في قولك : " لا تأكل السَّمَكَ وتشرب اللبن " وشبهه ، والإشكال المتقدِّم وهو إدخال التكذيب على التمني ورادٌ هنا ، وقد تقدم جوابه إلاَّ أن بَعْضَهُ يُتَعذَّر هنا ، وهو كون " لا نكذِّبُ ، ونكونُ " مُسْتَأنَفَيْنِ سِيْقَا لمجرد الإخبار ، فبقي : إمَّا لكون التمني دَخَلَهُ معنى الوَعْدِ ، وإمَّا أن قوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون } [ الأنعام : 28 ] ليس رَاجِعاً إلى تَمَنِّيهِمْ ، وإمَّا لأنَّ التمِّني يدخله التكذيب ، وقد تقدَّم فسادُهُ . وقال ابن الأنباري - رحمه الله - : " أكْذَبَهم في معنى التَّمَنِّي ، لأن تَمَنِّيهم راجعٌ إلى معنى : " نحنُ لا نكذِّب إذا رُدِدْنا " فَغَلَّب عزَّ وجلَّ الكلام فَأكذَبَهُمْ ، ولم يستعمل لفظ التَّمنِّي " . وهذا الذي قاله ابن الأنباري - رحمه الله تعالى - تقدَّم معناه بأوضح من هذا . قال أبو حيَّان : وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه " الواو " المنصوب بعدها هو على جواب التَّمَنِّي ، كما قال الزمخشري : وقرئ : " ولا نكذِّبَ ، ونكون " بالنصب بإضمار " أنْ " على جواب التمني ، ومعناه إنْ رُدِدْنا لم نُكَذِّبْ ، ونكن من المؤمنين . قال : وليس كما ذَكَرَ ، فإن نَصْبَ الفعل بعد " الواو " ليس على جهة الجواب ؛ لأن " الواو " لا تقعُ جواب الشَّرْط ، فلا يَنْعَقِدُ ممَّا قبلها ، ولا ممَّا بعدها شَرْطٌ وجواب ، وإنما هي واو " مع " يُعْطَفُ ما بعدها على المَصْدَر المُتَوَهَّم قبلها ، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النَّصْبِ أحدُ مَحَامِلِهَا الثلاثة : وهي المعيَّةُ ويميِّزها من " الفاء " تقديرُ " مع " موضعها ، كما أنَّ فاء الجواب إذا كان بعدها فِعْلٌ منصوبٌ ميَّزَهَا تقديرٌ شرْط قبلها أو حَالٌ مكانها وشُبْهَةُ من قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها " الفاء " ، فتوهَّم أنها جواب . وقال سيبويه - رحمه الله تعالى - : والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انْتَصَبَ ما بعد " الفاء " ، والواو والفاء معناهما مختلفان ، ألا ترى قوله : [ الكامل ] @ 2140 - لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَهُ … @@ لو دخلت " الفاء " هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد : لا تجمع النَّهْيَ والإتيان وتقول : " لا تأكل السِّمَكَ وتشرب اللبن " لو أدخلت الفاء هنا لفسد المعنى . قال أبو حيَّان : ويوضِّح لك أنها ليست بجواب انْفِرَادُ " الفاء " دونها ، فإنها إذا حذفت انْجَزَمَ الفعل بعدها بما قبلها لما تَضَمَّنَهُ من معنى الشَّرْطِ إلاَّ في النفي ، فإن ذلك لا يجوز . قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزَّجَّاج ، قال أبو إسحاق : نصب على الجواب بالواو في التَّمَنِّي كما تقول : " ليتك تَصِيرُ إليْنَا ونُكْرِمَكَ " . المعنى : ليت مصيرك يقع وإكرامنا ، ويكون المعنى : " ليت رَدَّنا وقع وأن لا نكذِّب " . وأمَّا كون " الواو " ليست بمعنى " الفاء " فَصَحِيحٌ ، على ذلك جُمْهُورُ النحاة ، إلاَّ أنِّي رأيتُ أبا بكر بن الأنْبَارِيّ خَرَّجَ النَّصْبَ على وجهين : أحدهما : أنَّ " الواو " بمعنى " الفاء " . قال أبو بكر : في نَصْبِ " نكذِّبُ " وجهان : أحدهما : أن " الواو " مُبْدَلَة من " الفاء " , والتقدير : يا يلتنا نُردُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ ، فتكون " الواو " هنا بمنزلة " الفاء " في قوله : { لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الزمر : 58 ] . يؤكد هذا قراءةُ ابن مسعود ، وابن أبي إسحاق " يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذبَ " بالفاء [ منصوباً ] . والوجه الآخر : النَّصْبُ على الصرف ، ومعناه الحال ، أي : يا ليتنا نُردُّ غير مكذِّبين . أمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأوَّل ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم ؛ لأن الأول يرتفع على حَدِّ ما تقدم من التأويلات ، وكذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التَّمَنِّي أو إسْتَأنَفَهُ ، إلاَّ أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تَمَام قوله : " نُرَدُّ " أي : تَمنَّوا الرَّدَّ مع كونهم من المؤمنين ، وهذا ظَاهِرٌ إذا جعلنا : " ولا نكذب " مَعْطُوفاً على " نُرَدّ " أو حالاً منه . وأمَّا إذا جعلنا " ولا نكذِّب " مستأنفاً ، فيجوز ذلك أيضاً ، ولكن على سبيل الاعتراضِ ، ويحتمل أن يكون من تمامِ " ولا نكذٍّب " أي : لا يكونُ منّا تكذيب مع كوننا من المؤمنين في التمني ، أو أستأنفه ويكون قوله : " ولا نكذب " حينئذٍ على حَالِهِ ، أعني من احتماله العَطْفَ على " نُرَدُّ " أو الحاليّة ، أو الاستئناف ، ولا يخفى حينئذٍ دخول كونهم مع المؤمنين في التَّمَنِّي وخروجه منه بما تقدَّم تقريره . وقُرئ شاذّاً عكس قراءة ابن عامرٍ ، بِنَصْبِ " نكذبَ " ، ورفع " نكون " ، وتخريجها على ما تقدَّمَ إلاّ أنها يضعف فيها جَعْلُ " ونكونُ من المؤمنين " حالاً لكونه مُضَارعاً مثبتاً إلا بتأويل بَعِيدٍ ، كقوله : [ المتقارب ] @ 2141 - … نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا @@ أي : وأنا أرْهَنُهُمْ ، وقولهم : " قمت وأصكُّ عَيْنَهُ " ، ويدلُّ على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أبيِّ : " ونحن نكونُ من المؤمنين " . فصل في تحرير معنى الرد معنى الآية الكريمة : أنهم تَمَنَّوا الرَّدَّ إلى حالة التكليف ، لأن لَفْظَ " الرَّدَّ " إذا استعمل في المُسْتَقْبَلِ من حالٍ إلى حالٍ ، فالمعهود منه الرَّدُّ إلى الحالة الأولى ، فإن الظَّاهِرَ مَنْ صدر عنه تَقْصِيرٌ , ثمَّ عاين الشَّدائد والأهْوَال من ذلك التقصير أنه يتمنى الرَّدَّ إلى الحالة الأولى ؛ ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات ومعلوم أن الكُفَّار قَصَّرُوا في دار الدنيا , فهم يَتَمَنَّوْنَ العَوْدَ إلى الدنيا لتَدَارُك تلك التَّقْصِيرَاتِ ، وذلك التدارك لا يحصل بالعَوْدِ إلى الدنيا فقط ولا بترك التكذيب فقط ، ولا بعمل الإيمان ، بل إنَّما يَحْصُلُ التدارُكُ بمجموع هذه الأمور الثلاثة ، فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني . فإن قيل : كيف يحسنُ تمني الرد مع أنهم يعلمون أنَّ الرَّدَّ لا يحصل ألْبَتَّةَ ؟ والجوابُ من وجهين : أحدهما : لعلهم [ لم ] يعلموا أن الردَّ لا يحصل [ ألبتة ] ؟ والثاني : أنهم وإن علموا أن ذّلِكَ لا يَحْصُلُ إلاَّ أن هذا العلم لا يمنع من حصول إراة الرَّدِّ ، كقوله تبارك وتعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] وقوله تعالى : { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } [ الأعراف : 50 ] فلمّا صَحَّ أن يريدوا هذه الأشياء مع العِلْمِ بأنها لا تحصل ، فبأن يتمنونه أقْرَبُ , لأن باب التمني أوْسَعُ .