Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 6-6)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { أََلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيبِ ، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد ، أتْبَعَهُ بما يجري مجرى المَوْعِظةِ ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية . و " كم " يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً ، وفي كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى الاسْتِفْهاميَّةِ في ذلك ، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره ، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ ، ويضعف كونها بصرية ، وعلى كلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل ؛ لأنَّ البصرية تجري مجراها ، فإن كانت عِلْمِيَّةً فـ " كم " وما في حيِّزها سادَّة مسدَّ مفعولين ، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد . و " كم " يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص ، فتكون مفعولاً بها ، نَاصِبُهَا " أهْلَكْنا " ، و " مِنْ قَرْنِ " على هذا تمييز لها وأنْ تكون عِبارَةً عن المصدر فتنتصب انتصابه بـ " أهْلكْنَا " أي : إهلاكاً ، و " من قرنٍ " على هذا صِفَةٌ لمفعول " أهَلكْنَا " أي : أهلكنا قوماً ، أو فوجاً من القُرُونِ ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ ، و " مِنْ " تبعيضية ، والأولى لابتداء الغاية . وقال الحُوفي : " من " الثانية بَدَلٌ من " مِنْ " الأولى ، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ ، ويجوز أن تكون " كم " عبارة عن الزَّمَانِ ، فتنتصبُ على الظرف . قال أبو حيان : تقديره : كم أزمنةٍ أهلكنا فيها . وجعل أبو البقاء على هذا الوجه " مِنْ قَرْن " هو المفعول به ، و " منْ " مَزيدَةٌ فيه ، وجاز ذلك ؛ لأن الكلام غير موجب ، والمجرور نكرة ، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت : " كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً " أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً ، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها ، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة " مِنْ " لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام ، إلاَّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي ، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى . قال شهابُ الدِّين : وجوابه لا يسلم . و " قَرْن " الجماعة من النَّاسِ وجمعه " قرون " . وقيل : القَرْنُ مُدَّة من الزمان ، يقال : ثمانون سنةً ، [ ويقال : ستُّون سَنَةً ] ويُقال : أربعون سَنَةً ، ويقال : ثلاثون سَنَةً ، ويقال : مائة سنة ؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ - قال لعبد الله بن بشر المازني : " تَعِيْشُ قَرْناً " فعاش مائة سَنَةٍ ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان ، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [ اعتقاد ] أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ ، وسيأتي بيان أن الراجح خلافه . وعلى القول الأوَّل : هم القوم المقترنون واشْتِقَاقُهُ من الاقْتِرَانِ ، قاله الواحِدِيُّ - رحمه الله - ، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية . قوله : " مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ " في موضع جرِّ صفة لـ " قرن " ، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه . قاله أبُو البقاء - رضي الله عنه - ، والحوفي رحمه الله . وضعَّفه أبو حيان بأن " من قرن " تمييز لـ " كم " ، فـ " كم " هي المُحَدَّثُ عنها بالإهلاكِ ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا ؛ إذ " من قرن " يجري مجرى التَّبْيينِ ، ولم يُحَدَّث عنه . وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى - أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ ، قال : كأنَّه قيل : ما كان من حَالِهِمْ ؟ فقيل : مَكَّنَّاهم ، وجعله هو الظَّاهر ، وفيه نظرٌ ، فإنَّ النكرة مُفْتِقَرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى : { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } وقوله : { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } [ أن " مكنة في كذا ] أثبته فيها ، ومنه { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] وأما مكنَّا جعل له مكاناً ، ومنه : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ } [ الكهف : 84 ] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] . ومثله " أرضٌ له " أي : جعل له أرضاً ، هذا قول الزمخشري - رحمه الله تعالى - وأما أبو حيَّان - رضي الله عنه - فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه التَّسْوِيَةُ بينهما ، فإنَّهُ قال : وتعدِّي " مَكَّن " هنا للذَّوَات بنفسه وبحرف الجَرِّ ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [ نحو ] { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [ يوسف : 21 ] { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف : 84 ] ، { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] . وقال أبُو عُبَيْدَة : " مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم : لغتانِ فصيحتان ، نحو : نَصَحْتُه ، ونَصَحْتُ له " وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ . قوله : " ما لم نُمكِّنْ لكم " في " ما " هذه خمسة أوجه : أحدها : أنْ تكون مَوْصُولةً بمعنى " الَّذي " ، وهي حينئذٍ صفةٌ لموصوف محذوف ، [ والتقديرُ : التميكن الذين لم نُمَكِّنْ لكم ، والعَائِدُ محذوف أي : ] الذي لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ . الثاني : أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره : تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لكم ، ذكرهما الحُوفِيُّ رحمه الله تعالى . وردَّ أبو حيَّان - رحمه الله تعالى - الأوَّلَ بأنَّ " ما " بمعنى " الذي " لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ ، وإن كان " الذي " يقع صِفَة لها ، لو قلت : " ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ " تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ ، لم يَجُزْ ، فإن قلت : " الضَّرْبَ الذي ضربه زيد " جاز . وَرَدَّ الثاني بأن " ما " النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا يجوزُ حَذْفُ موصوفها ، لو قلت : " قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا " وأنت تعني : قُمْتُ قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ . الثالث : أن تكون مَفْعُولاً بها لـ " مَكَّنَ " على المعنى ، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ ، ذكره أبُو البقاءِ - رحمه الله - . قال أبُو حيَّان - رحمه الله - : " هذا تَضْمِينٌ ، والتَّضْمِينُ لا يَنْقَاسُ " . الرابع : أن تكون " ما " مَصْدريَّةً ، والزَّمَان محذوف ، أي : مُدَّة ما لم نمكِّن لكم ، والمعنى : مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم . الخامس : أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة بعدها ، والعائد محذوف ، أي : شيئاً لم نمكِّنه لكم ، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال أبو حيان - رحمه الله تعالى - في الأخير : " وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ " . قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : ولو قدَّره أبو البقاءِ بخاصٍّ لكان أحْسَنَ من تقديرِه بلفظ " شيء " ، فكان يقول : مَكَّنَّاهُمْ تمكيناً لم نمكّنه لكم . والضمير في " يروا " قيل : عائدٌ على المُسْتَهْزِئين ، والخطابُ في " الكم " راجعٌ إليهم أيضاً ، فيكون على هذا التِفَاتاً فائدتُهُ التَّعْريض بقلَّةِ تمكُّنِ هؤلاء ، ونَقْصِ أحوالهم عن حَالِ أولئك ، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهَلاَكُ ، فكيف وأنتم أقَلُّ منهم تمكيناً وعدداً ؟ . وقال ابن عطيَّة - رحمه الله تعالى - : " والمُخَاطَبَةُ في " لكم " هي للمؤمنين ولجميع المُعَاصرين لهم ولسائِرِ النَّاس كافَّةً ، كأنه قيل : لم نُمَكِّن يا أهل هذا العَصْرِ لكم ، ويحتمل أن يُقدَّر معنى القول لهؤلاء الكَفَرَةِ ، كأنه قال : يا مُحَمَّدُ قُل لهم : " ألَمْ يَرَوا كَمْ أهْلَكْنَا " الآية ، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أمَرْتَ أن يُقال - فلك في فَصيحِ كلام العرب أن تحكي الألْفَاظَ المَقُولَةَ بعينها ، فتجيءَ بلفظ المُخَاطبة ، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغَيْبَةِ دون الخطاب " انتهى . ومثاله : " قُلْتُ لزيد : ما أكرمك ، أو ما أكرمه " . و " القَرْنُ " يقع على مَعَانٍ كثيرة ، فالقرن : الأمَّةُ من النَّاس ، سُمُّوا بذلك لاقُتِرَانِهِمْ في مُدَّةٍ من الزَّمانِ ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " خَيِْرُ القُرونِ قَرْنِي " وقال الشاعر [ في ذلك المعنى : ] [ الطويل ] @ 2108 - أخَبِّرُ أخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ أدِبُّ كَأنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ @@ وقال قَسُّ بنُ سَاعِدَةَ : [ مجزوء الكامل ] @ 2109 - فِي الذَّاهبينَ الأوَّلِيـ ـنَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ @@ وقيل : أصله الارتفاعُ ، ومنه قَرْنُ الثَّوْرِ وغيره ، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السِّنِّ . وقيل : لأنَّ بعضهم يُقْرَنُ ببعض ، ويُجْعَلُ مجتمعاً معه ، ومنه القرنُ للحَبْلِ يُجْمَعُ به بين البَعيريْنِ ، ويُطلَقُ على المُدَّة من الزَّمان أيضاً . وهل إطلاقُهُ على النَّاسِ والزَّمان بطريق الاشْتِرَاكِ ، أو الحقيقة والمجاز ؟ يُرَجَّعُ الثَّاني ؛ لأنَّ المجَازَ خيرٌ من الاشْتِرَاكِ . وإذا قُلنا بالراجح ، فإنها الحقيقة ، الظاهر أنه القَوْمُ ؛ لأنَّ غالب ما يُطْلَقُ عليهم ، والغَلَبَةُ مُؤذِنَةٌ بالأصَالَةِ غالباً . وقال ابنُ عطيَّة - رحمه الله تعالى : - القَرْنُ أنْ يكون وفاةُ الأشياخ وولادَةُ الأطفال ، ويَظْهَرُ ذلك من قوله تعالى : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِين } [ الأنعام : 6 ] فجعله مَعْنًى ، وليس بواضح وقيل : القَرْنُ : النَّاسُ المجتمعون كما تقدَّم ، قلّت السِّنُون أو كثُرتْ ، واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام : " خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي " وبقوله : [ مجزوء الكامل ] @ 2110 - فِي الذَّاهبين الأوَّليـ ـنَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ @@ وبقول القائل في ذلك : [ الطويل ] @ 2111 - إذَا ذَهَبَ القَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمُ وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأنْتَ غَرِيبُ @@ فأطلقوه على النَّاسِ ليفيد الاجتماع . ثم اختلف النَّاسُ في كميةِ القَرْنِ حالة إطلاقه على الزَّمان ، فالجمهور على أنَّهُ مائة سنة ، واستدلُّوا له بقوله عليه السلام : " تَعيشُ قَرْناً " فعاش مائة سَنَةٍ ، وقيل : مائة وعشرون سنة ، قاله إيَاسُ مُعَاويَةَ ، وزرارة بن أبي أوفى . وقيل : ثمانون نقله أبو صالح عن ابن عبَّاسٍ . وقيل : سبعون ؛ قاله الفرّاء . وقيل : ستُّون لقوله عليه السلام : " مُعْتَرَكُ المنَايَا ما بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ " وقيل : أربعُون ، حكاه محمد بن سيرين ، يرفعه إلى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلامُ ، وكذلك الزَّهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : ثلاثون حكاهُ النَّقَّاش عن أبي عُبَيْدة ، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنةً . وقيل : عشرون سنةً ، وهو رأي الحَسَنِ البصري . وقيل : ثمانية عشر عاماً . وقيل : المقدار الوَسَطُ مثل أعمار أهل ذلك الزمان ، واسْتُحْسِنَ هذا بأنَّ أهل الزَّمَنِ القديم كانوا يعيشون أربعمائة سَنَةً ، وثلاثمائة سنة ، وألفاً وأكثر وأقلَّ . ومعنى الآية : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ . وقال ابن عبَّاسٍ : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوحٍ وعادٍ وثمود . قوله : { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } يعني المَطَرَ " مِفْعَال " من الدَّرِّ و " مِدْرَاراً " حالٌ من " السماء " إنْ أُريد بها السحاب ، فإن السحاب يوصف بكثرةِ التَّتَابُع أيضاً . قال ابنُ عبَّاسٍ : مِدْرَاراً مُتَتَابِعاً في أوْقاتِ الحَاجَاتِ ، وإن أُريدَ بها الماء فكذلك ، ويَدُلُّ على أنه يُرَادُ به المَاءُ قوله في الحديث : " في أثر سماءٍ كَانَتْ من اللَّيلِ " ويقولون : ما زلنا نَطَأُ السماء حتى أتيناكم ، ومنه : [ الوافر ] @ 2112 - إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابا @@ أي : رَعَيْنَا ما ينشأ عنه ، وإن أُريدَ بها هذه المِظَلَّةُ ، فلا بُدّ من حذف مُضافٍ حينئذٍ ، أي : مَطَر السماء ، ويكون " مِدْرَاراً " حالاً منه . و " مِدْرَاراً " مِفعال للمُبالغةِ كامرأة مِذْكارِ ومئناث . قالوا : وأصله من " دَرِّ اللَّبَن " وهو كَثْرةُ ورودِه على الحالِبِ . ومنه : " لا دَرَّ دَرُّهُ " في الدُّعَاءِ عليه بقلَّةِ الخير . وفي المَثَلِ " سَبَقَتْ درَّتُه غِزَارَهُ " وهي مثلُ قولهم : " سَبَقَ سَيْلُهُ مَطَرَه " و " استدَّرت المِعْزَى " كناية عن طلبها الفَحْلَ . قالوا : لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّتْ . قوله : { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } إن جعلنا " جَعَلَ " تَصْييريةً كان " تجري " مفعولاً ثانياً ، وإن جعلناها إيجادِيَّةً كان حالاً . و " من تحتهم " يجوز فيه أوجه : أن يكون متعلّقاً بـ " تجري " ، وهو أظهرها ، وأن يكون حالاً ، إمَّا من فاعل " تجري " ، أو من " الأنهار " ، وأنْ يكون مفعولاً ثانياً لـ " جَعَلْنَا " ، و " تجري " على هذا حالٌ من الضمير في الجَارِّ ، وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل المَعْنَوِيّ ، ويجوز أن يكون " من تحتهم " حالاً من " الأنْهَار " كما تقدَّم ، و " تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه ، الضَّعْفُ المتقدّمُ . فصل المُرَادُ من قوله : { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } كَثْرَةُ البَسَاتيِن ، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ " مكَّة " المشرفة ، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ ، وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا كفروا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم ، وهذا يوجب الاعتبار . فإن قيل : ليس في هذا الكلام إلاَّ أن الإهلاك غي مختصّ بهم ، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد هلكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أنه يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ ؟ . فالجوابُ : ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ ، والهلاك ، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدِّينَ بالدنيا ؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ من الإيمان ، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن . فإن قيل : كيف قال : " أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا " مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به عنه ، وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة ؟ فالجواب : أنَّ [ أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم ، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار . فإن قيل : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم ؟ فالجواب : أن ] فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم ، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعمِّرُ بهم بلاده ، كقوله : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } [ الشمس : 15 ] . و " من بعدهم " متعلِّق بـ " أنشأنا " . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حَالاً من " قرن " ؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني : أنه لو تأخَّر عن قرن لكان يُتَوَهَّمُ جوازُ كونه صِفَةً له ، فلما قُدِّمَ عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه ؛ لكنه منع ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في " البقرة " عند قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] و " آخرين " صِفَةٌ لـ " قَرْن " ؛ لأنه اسم جَمْع كـ " قوم " و " رهط " ، فلذلك اعْتُبِر معناه ، ومن قال : إنَّهُ الزَّمانُ قدَّرَ مُضَافَاً ، أي : أهل قرن آخرين ، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ ، واللَّهُ أعلم .