Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 96-96)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا نَوْعٌ آخر من دلائل وجود الصَّانع وعلمه وقدرته وحكمته ، فالنوع الأوَّل من دلالة النبات والحيوان ، والنوع الثاني من أنواع الفلك . وقوله : { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } نعت لاسم الله - تعالى - ، وهو كقوله : " فالق الحبِّ " فيما تقدَّم . والجمهور على كَسْرِ همزة " الإصباح " وهو المصدر : أصبح يصبح إصباحاً . وقال الليث والزجاج : إن الصبح والصباح والإصباح واحد ، وهما أول النهار وكذا الفراء . وقيل : الإصباح : ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل . رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقيل هو إضاءة الفجر نُقِلَ ذلك عن مُجَاهد ، والظَّاهر أن " الإصباح " في الأصل مصدر كالإقبال والإدبار سُمِّيَ به الصباح ، وكذا الإمساء وقال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 2258 - ألاَ أيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلِ بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ مِنْكَ بأمْثَلِ @@ وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر : " الأصباح " بفتح الهمزة ، وهو جمع " صُبْح " نحو : قُفْل وأقْفَال ، وبرد وأبراد ، وينشد قوله : [ الرجز ] @ 2259 - أفْنَى رِيَاحاً وَبَنِي رِيَاح تَنَاسُخُ الأمْسَاءِ والأصْبَاحِ @@ بفتح الهمزة من " الأمساء " و " الأصباح " على أنهما جمع " مُسْي " و " صُبْح " ، وبكسرهما على أنهما مَصْدَرَان ، وقرئ " فالق الأصباح " بفتح " الأصْبَاح " على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقول القائل في ذلك : [ المتقارب ] @ 2260 - … وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ @@ وقرئ { وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلاَةِ } [ الحج : 35 ] و { لَذَآئِقُواْ ٱلْعَذَابِ } [ الصافات : 38 ] بالنصب حَمْلاً للنون على التنوين ، إلا أن سيبويه - رحمه الله تعالى - لا يُجِيزُ حَذْفَ التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر ، وقد أجازه المُبرِّدُ في الشعر . وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوة : " فلق " فعلاً ماضياً ، وقد تقدَّم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك ، وهذا أدَلُّ على أن القراءة عندهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ " فلق الحب " فعلاً ماضياً ، وقرأ " فالق الإصباح " والثلاثة المذكورين بعكسه . قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى " فلق الصبح " ، والظلمة هي التي تنفلق عن الصُّبح ، كما قال : [ الطويل ] @ 2261 - … تَفَرِّيَ لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نهارِ @@ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يُرَادَ : فالق ظلمة الإصباح ، يعني أنه على حذف مضاف . والثاني : أنه يُرَاد : فالق الإصباح الذي هو عمود الفَجْرِ عن بياض النهار وإسْفَارِهِ ، وقالوا : انشق عمود الفجر وانصدع ، وسمّوا الفجر فلقاً بمعنى مَفْلُوق ؛ قال الطائي : [ البسيط ] @ 2262 - وَأزْرَقُ الفَجْرِ يَبْدُوا قَبْلَ أبْيَضِهِ … @@ وقرئ : " فالق " و " جاعل " بالنصب على المَدْحِ انتهى . وأنشده غيره في ذلك : [ البسيط ] @ 2263 - فانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الفَجْرِ جَافِلَةً عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ القَانِصَ اللَّحِمَا @@ قال الليث : الصبح والصباح هما أوَّلُ النهار ، وهو الإصباح أيضاً ، قال تبارك وتعالى : " فالق الإصباح " يعني الصبح . وقيل : إن الإصباح مصدر سُمِّيَ به الصبح كما تقدم . قوله : " وجَاعل اللَّيْل " قرأ الكوفيون : " جَعَلَ " فعلاً ماضياً ، والباقون بصيغة اسم الفاعل والرَّسْم يحتملهما ، و " اللَّيْل " مَنْصُوبٌ عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم ، ومجرور عند غيرهم ، وَوَجْهُ قراءتهم له فعلاً مناسبة ما بعده ، فإن بعده أفعالاً ماضية نحو : { جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } و { وَهُو الذي أنْشَأكُم } إلى آخر الآيات ويكون " سَكَناً " إما مفعولاً ثانياً على أنَّ الجَعْل [ بمعنى التصيير ، وإما حالاً على أنه بمعنى ] الخلق ، وتكون الحال مُقدّرة ، وأما قراءة غيرهم فـ " جاعل " يحتمل أن يكون بمعنى المضي , ويؤيده قراءة الكوفيين ، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع " أل " خلافاً لبعضهم في مَنْع إعمال المعرَّف بها ، وللكسائي في إعماله مُطْلَقا ، فإذا تقرَّر ذلك فـ " سَكَناً " مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ عند البصريين ، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به . وزعم أبو سعيد السِّيرَافِيُّ أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثَّاني ، وإن كان ماضياً . قال : لأنه لما أضيف إلى الأوَّل تعذَّرت إضافته للثاني ، فتعين نصبه له . وقال بعضهم : لأنه بالإضافة أشهب المعرف بـ " أل " فيستعمل مطلقاً فعلى هذا " سكناً " منصوب به أيضاً وأما إذا قلنا : إنه بمعنى الحال والاستقبال ، فَنَصْبُهُ به ، و " سكن " فعل بمعنى مَفْعُول كالقبض بمعنى مَقْبُوض ، ومعنى سَكَن ، أي ما يسكن إليه الرجل ، ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زَوْجٍ أو حبيبٍ ، ومنه قيل للنار سكن ؛ لأنه يُسْتَأنَسُ بها ، ألا تراهَمَ كيف سمّوها المُؤنِسَة . قوله : { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً } قرأ الجمهور بنصب " الشَّمس " و " القمر " وهي واضحة على قراءة الكوفيين ، أي : بِعَطفِ هذين المنصوبين على المنصوبين بـ " جعل " و " حُسْبَاناً " فيه الوجهان في " سَكَناً " من المفعول الثاني والحال . وأما على قراءة الجماعة فإن اعتقدنا كَوْنَهُ ماضياً فلا بُدَّ من إضمار فِعْلٍ ينصبهما ، أي : وجعل الشمس . وإن قلنا : إنه غير ماضٍ فمذهب سيبويه أيضاً أن النَّصْبَ بإضمار فعل ، تقول : هذا ضاربٌ زيداً الآن أو غداً أو عمراً بنصب عَمْرٍو ، وبفعل مُقدَّرٍ لا على موضع المجرور [ باسم الفاعل ، وعلى رأي غيره يكون النصب ] على محل المجرور ، وينشدون قوله : [ البسيط ] @ 2264 - هَلْ أنْتَ بَاعِثُ دِينارٍ لِحَاجَتِنا أوْ عَبْدَ ربٍّ أخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ @@ بنصب " عبد " ، وهو محتمل للوجهين على المذهبين . وقال الزمخشري : أو يعطفان على محل " الليل " . فإن قلت : كيف يكون لـ " الليل " محلّ ، والإضافة حقيقيّة ، لأن اسم الفاعل المُضَاف إليه في معنى المُضِيّن ولا تقول : زيد ضارب عمراً أمس . قلت : ما هو بمعنى الماضي , وإنما هو دالٌّ على فِعْلٍ مستمر في الأزمنة . قال أبو حيَّان : أما قوله : إنما هو دَالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة يعني : فيكون عاملاً ، ويكون للمجرور إذا ذاك بعده مَوْضِعٌ فيعطف عليه " الشمس والقمر " قال : " وهذا ليس بِصَحيحٍ إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بزمن خاصّ ، وإنما هو للاستمرار ، فلا يجوز له أن يعمل ، ولا لمجروره مَحَلّ ، وقد نَصُّوا على ذلك ، وأنشدوا عليه قول القائل في ذلك : [ البسيط ] @ 2265 - ألْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ … @@ فليس " الكاسب " هنا مقيداً بزمان ، و " إن " تقيَّد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون " أل " فلا يعمل عند البصريين ، أو بـ " أل " أو حالاً أو مستقبلاً ، فيعمل فيضاف على ما تقرر في النحو " . ثم قال : وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار يعلم ، فلا يجوز العَطْفُ على مَحَلِّ مجروره ، بل مذهب سيبويه - رحمه الله - في " الذي " بمعنى الحال والاستقبال ألاًَّ يَجُوزُ العَطْفُ على محلِّ مجروره ، بل على النصب بفعل مقدَّرٍ لو قلت : هذا ضارب زيد وعمراً [ لم يكن نصب عمراً ] على المحل [ على الصحيح ] وهو مذهب سيبويه ؛ لأن شَرْطَ العَطْفِ على الموضع مفقود ، وهو أن يكون للموضع محرز لا يتغير ، وهذا مُوضِّحٌ في علم النحو . قال شهاب الدين : وقد ذكر الزَّمخشري في أوّل الفاتحة في { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] أنه لمَّا لم يُقْصَدْ به زمانٌ صارت إضافته مَحْضَةً ، فلذلك وَقَعَ صفة للمعارف فمن لازم قوله : إنه يتعرف بالإضافة ألاَّ يعمل ؛ لأن العامل في نِيَّةِ الانفصال عن الإضافة ، ومتى كان في نِيَّةِ الانفصال كان نكرة ومتى كان نكرة فلا يقع صِفَةً للمعرفة ، وهذا حَسَنٌ حيث يرد عليه بقوله : وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة . وقرأ أبو حيوة : " والشَّمْسِ والقَمَرِ " جَرّاً نَسَقاً على اللفظ وقرأ شاذّاً " والشَّمْسُ والقَمَرُ " رَفْعاً على الابتداء ، وكان من حَقِّهِ أن يقرأ " حُسْبَانٌ " رَفْعاً على الخبر ، وإنما قرأه نَصْباً فالخبر حينئذ محذوف ، تقديره مَجْعولان حُسْبَاناً ، أو مخلوقان حُسْبَاناً . فإن قلت : لا يمكن في هذه القراءة رَفْع " حسبان " حتى تلزم القارئ بذلك ، لأن الشَّمْسَ والقمر ليسا نَفْسَ الحسبان . فالجواب : أنهما في قراءة النصب إما مَفْعُولان أوَّلان ، و " حسبان " ثانٍ ، وإما صاحبا حال ، و " حسبان " حال ، والمفعول الثاني هو الأوَّل ، والحال لا بد وأن تكون صَادِقَةً على ذي الحال ، فمهما كان الجواب لكن كان لنا . والجواب ظاهر مما تقدَّم . والحُسْبَان فيه قولان : أحدهما : انه جمع , فقيل : جمع " حِسَاب " كـ " رِكاب " و " رُكْبَان " و " شِهَاب " و " شُهْبَان " ، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد . وقال أبو البقاء : هو جمع " حسبانة " وهو غَلَطٌ ؛ لأن الحسبانة : القِطْعَةُ من النار ، وليس المراد ذلك قطعاً . وقيل : بل هو مصدر كـ " الرُّجْحَان " والنقصان و " الخُسْرَان " ، وأما الحساب فهو اسم لا مَصْدَرٌ وهذا قول ابن السِّكِّيتِ . وقال الزمخشري : و " الحُسْبَان " بالضم مصدر حَسَبْتُ يعني بالفتح ، كما أن الحِسْبَان بالكسر مصدر حَسِبْتُ يعني بالكسر ونظيره : الكُفْرَان والشُّكْران . وقيل : بل الحِسْبَان والحُسْبَان مصدران ، وهو ول أحمد بن يحيى ، وأنشد أبو عبيد عن أبي زَيْدٍ في مجيء الحُسْبَان مصدراً قوله : [ الطويل ] @ 2266 - عَلَى اللَّهِ حُسْبَانِي إذَا النَّفْسُ أشْرَفَتْ عَلَى طَمَعِ أوْ خَافَ شَيْئاً ضَمِيرُهَا @@ وقال " حُسْبَاناً " على ما تقدَّم من المفعولية أو الحالية . وقال ثعلب عن الأخفش : إنه منصوب على إسْقاطِ الخافض ، والتقدير : يجريان بِحُسْبَانٍ ؛ كقوله : { لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] أي : من طين . وقوله : " ذلك " إشارة إلى ما تقدَّم من الفلق ، أو الجعل ، أو جميع ما تقدم من الأخبار في قوله " فالق الحبّ " إلى " حُسْبَاناً " . ومعنى الآية الكريمة : جعل الشمس والقمر بحسابي معلوم لا يجاوزانه حتى يتهيّئان إلى أقصى منازلهما { تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } فـ " العزيز " إشارة إلى كمال قُدْرتِهِ ، " والعليم " إشارة إلى كمال عِلْمِهِ ، والمعنى : أن تقدير أجْرَامِ الأفلاك بصفاتها المخصوصة وَهَيْئَتِهَا المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البُطْءِ والسرعة لا يمكن تحصيله إلاَّ بِقُدْرَةِ كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نَافِذٍ في جميع المعلومات من الكُلِّيَّاتِ والجزئيات ، وذلك مختص بالفاعل المختار سبحانه وتعالى .