Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 60, Ayat: 4-7)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ } الآية . لما نهى عن مُوالاةِ الكُفَّار ذكر قصة إبراهيم ، وأن من سيرته التَّبرؤ من الكُفَّار ، أي : فاقتدوا به إلاَّ في الاستغفار لأبيه . والأسْوَةُ والإسوةُ ما يتأسّى به مثل القُدوة والقِدوة ، ويقال : هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله وتقدم قراءة " أسوة " في سورة " الأحزاب " والكلام على مادتها . قوله : { فِيۤ إِبْرَاهِيمَ } . في أوجه : أحدها : أنه متعلق بـ " أسوة " ، تقول : لي أسوة في فلان ، ومنع أبو البقاء أن يتعلق بها لأنها قد وصفت . وهذا لا يبالى به لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره . الثاني : أنه متعلق بـ " حسنة " تعلق الظرف بالعامل . الثالث : أنه نعتٌ ثانٍ لـ " أسوة " . الرابع : أنه حال من الضمير المستتر في " حسنة " . الخامس : أن يكون خبر " كَانَ " و " لَكُمْ " تبيين . قوله : { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين . وقال ابن زيدٍ : هم الأنبياء . قوله : { إِذْ قَالُواْ } . فيه وجهان : أحدهما : أنه خبر " كان " . والثاني : أنه متعلق بخبرها . قالهما أبو البقاء . ومن جوز في " كان " أن تعمل في الظرف علقه بها ، والمراد بقومهم : الكفار . قوله : { إِنَّا بُرَءآؤ } . هذه قراءة العامة - بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين - جمع " بريء " ، نحو " كرماء " في نحو " كريم " . وعيسى أيضاً وأبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف . وفيه أوجه : أحدها : أنه جمع بريء أيضاً ، والأصل كسر الباء ، وإنما أبدل من الكسرة ضمَّة كـ " رُخَال ، ورُبَاب " قاله الزمخشري . الثاني : أنه جمع " بريء " أيضاً وأصله : " برآء " كالقراءة المشهورة إلاَّ أنه حذف الهمزة الأولى تخفيفاً . قاله أبو البقاء . الثالث : أنه اسم جمع لـ " بريء " نحو : " تؤام ، وظؤار " اسمي جمع لـ " توأم ، وظِئْر " . وقرأ عيسى أيضاً بفتح الباء وهمزة بعد ألف ، كالتي في " الزخرف " ، وصح ذلك لأنه مصدر ، والمصدر يقع على الجمع كوقوعه على الواحد . قال الزمخشري : " والبراء والبراءة كالظماء والظماءة " . وقال مكي : وأجاز أبو عمرو وعيسى بن عمر : " بِراء " - بكسر الباء - جعلاه كـ " كريم وكرام " . قال القرطبي : هو على وزن " فِعَال " مثل : " قِصَار وقصير " ، و " طِوَال وطويل " و " ظراف وظريف " ويجوز ترك الهمزة حتى تقول برآ وتنون . وأجاز الفراء : بفتح الباء ، ثم قال : " وبراءُ " في الأصل مصدر . كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة . فصل في الاقتداء بسيدنا إبراهيم . قال القرطبي : " الآية نصّ في الأمر بالاقتداء بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في فعله ، وذلك يدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله " . قوله : { كَفَرْنَا بِكُمْ } ، أي بما آمنتم به من الأوثان . وقيل : بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن يكونوا على حق ، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً } أي : هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم حتى تؤمنوا بالله وحده ، فحينئذ تنقلب المعاداةُ موالاة . فإن قيل : ما الفائدة في قوله : { تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } ، والإيمان إنما هو باللَّهِ وبغيره كقوله : { كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] . فالجواب : أن الإيمان بالله وحده مستلزمٌ للإيمان بالملائكة والكتب والرسل . قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } فيه أوجه : أحدها : أنه استثناء متصل من قوله : " في إبراهيم " ولكن لا بد من حذف مضاف ليصح الكلام ، تقديره : في مقالات إبراهيم إلا قوله كيت وكيت . الثاني : أنه مستثنى من { أًسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وجاز ذلك ؛ لأن القول أيضاً من جملة الأسوة ؛ لأن الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله ، فكأنه قيل : لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا . وهذا واضح ؛ لأنه غير مُحوجٍ إلى تقدير مضاف وغير مخرجٍ للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره . قال : فإن قلت : ممَّ استثني قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } قلت : من قوله " أسْوةٌ حسَنةٌ " ؛ لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يتأسَّوا به ، ويتخذوه سنة يستنون بها . فإن قلت : فإن كان قوله " لأسْتغفِرنَّ لَكَ " مستثنى من القول الذي هو " أسْوةٌ حَسَنةٌ " فما بال قوله : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } وهو غير حقيق بالاستثناء ، ألا ترى إلى قوله : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } [ الفتح : 11 ] . قلت : أراد استثناء جملة قوله : " لأبيهِ " والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وما في طاقتي إلاَّ الاستغفار . الثالث : قال ابن عطية : " ويحتمل أن يكون الاستثناء من التَّبري والقطيعة التي ذكرت أي : لم تبق صلة إلا كذا ، والله أعلم " . الرابع : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم . وهذا بناء من قائليه على أنَّ القول لم يندرج تحت قوله : " أسْوَةٌ " ، وهو ممنوع . فصل قال القرطبي : معنى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي : فلا تتأسَّوا به في الاستغفار ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة منه له . قاله قتادة ومجاهد وغيرهما . وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة " التوبة " ، وفي هذا دلالة على تفضيل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمِرْنا أمراً مطلقاً في قوله : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] ، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثني بعض أفعاله ، وذلك إنما جرى ؛ لأنه ظن أنه أسلم ، فلما بان أنه لم يسلم تبرَّأ منه ، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظَّن فلم توالوهم ؟ . قوله : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } هذا من قول إبراهيم لأبيه ، أي : ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به . قوله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } . يجوز أن يكون من مقول إبراهيم والذين معه ، فهو من جملة الأسوة الحسنة ، وفصل بينهما بالاستثناء ، ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله على إضمار قول ، وهو تعليم من الله تعالى لعباده ، كأنه قال لهم : قولوا : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } أي : الرجوع في الآخرة . { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . أي : ولا تظهر عدوَّنا علينا ، فيظنوا أنهم على حقّ . فيفتنوا بذلك وقيل : لا تسلّطهم علينا ، فيقتلوننا ويعذبوننا . وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك . وقيل : لا تبسط [ عليهم ] الرزق دوننا ، فإن ذلك فتنة لهم . وقيل : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } أي : عذاباً أي : سبباً يعذب به الكفرة ، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام : { وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ } أي : في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء " أسْوةٌ حَسَنةٌ " أي : في التَّبرِّي من الكُفَّار . وقيل : كرر للتأكيد . وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدة . قال القرطبي : وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه . قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ } . بدل من الضمير في " لكُمْ " بدل بعض من كل ، وقد تقدَّم مثله في " الأحزاب " . والضمير في " فيهم " عائد على " إبراهيم " ومن معه ، وكررت " الأسوة " تأكيداً . وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ، ويخاف عذاب الآخرة ، { وَمَن يَتَوَلَّ } أي : يعرض عن الإيمان ويتول الكُفَّار { فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ } عن خلقه ، أي : لم يتعبدهم لحاجته إليهم { ٱلْحَمِيدُ } إلى أوليائه وأهل طاعته . وقيل : الحميد في نفسه وصفاته . قوله تعالى : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } . قال المفسرون : لمَّا نزلت الآية الأولى عادى المسلمين أقرباؤهم من المشركين ، فعلم الله شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزلت : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } أي : من كفار " مكة " ، وقد فعل الله ذلك ؛ لأن " عَسَى " من الله وعد ، ولا يخلف الله وعدهُ ، وهذا بأن يسلم الكافر ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح " مكة " ، وخالطهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام . وقيل : المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عندئذ عريكة أبي سفيان . قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : كانت المودّة بعد الفتح تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان قال ابن عباس : وكانت تحت عبد الله بن جحشٍ ، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة ، فأما زوجها فتنصَّر ، وسألها أن تتابعه على دينه ، فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولاكم بها ؟ قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوجها من نبيكم ففعل وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار . وقيل : خطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفَّان ، فلما زوجه إياها بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فيها ، فساق عنه المهر ، وبعث بها إليه ، فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته : وذلك الفحل لا يقدع أنفه . قال ابن الأثير : " يقال : قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم ، فإذا أراد ركوب الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره حتى يرتدع وينكبّ ، ويروق بالراء " .