Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 64, Ayat: 1-4)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } . تقدم نظيره . قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين ، وهذه السورة للموافقين الصادقين ، وأيضاً فإن تلك السورة مشتملة على ذكر النفاق سرًّا وعلانية ، وهذه السورة مشتملة على التهديد البالغ لهم عن ذلك ، وهو قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ، وأما تعلق هذه السورة بآخر التي قبلها فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما تقدم ، وفي أول هذه السورة أشارة إلى أن في الناس أقواماً يواظبون على الذِّكر والشكر دائماً وهم الذين يُسَبِّحُون ، كما قال تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } . قوله : { لَهُ ٱلْمُلْكُ } . مبتدأ وخبر ، وقدم الخبر ليفيد اختصاص الملك والحمد لله تعالى ، إذ الملك والحمد له - تعالى - حقيقة { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قوله : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً . وروى أبو سعيد الخدري قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون ، فقال : " يُولَدُ النَّاسُ على طَبقاتٍ شَتَّى : يُولَدُ الرَّجُلُ مؤمِناً ويَعيشُ مُؤمِناً ويمُوتُ مُؤمِناً ويُولَدُ الرَّجُلُ كَافِراً ويعيشُ كَافِراً ويمُوتُ كَافِراً ، ويُولَدُ الرَّجُلُ مُؤِمناً ويَعِيشُ مُؤمِناً ويَمُوتُ كَافِراً ، ويُولَدُ الرَّجلُ كَافِراً ويَعيشُ كَافِراً ويَمُوتُ مُؤمِناً " " . وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " خَلَق اللَّهُ فِرْعونَ في بَطْنِ أمِّهِ كَافِراً ، وخلق يَحْيَى بْنَ زكريَّا في بَطْنِ أمِّهِ مُؤمِناً " . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : " وإنَّ أحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ أو باعٌ فيَسبقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَملِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ، وإن كان أحَدُكُمْ ليَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ فَيَسْبِقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمِل أهْلِ الجنَّةِ فَيدخُلُهَا " . وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الرَّجُلَ ليَعملُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ فيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ من أهْلِ الجَنَّةِ " . قال القرطبي رحمه الله : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم ، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم ، وكذلك الكفر . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق ، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه . قاله الحسن . وقال غيره : لا حذف فيه ؛ لأن المقصود ذكر الطرفين . وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، والتقدير : " هُو الَّذي خَلقُكُمْ " ، ثم وصفهم فقال : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } كقوله تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] الآية ، قالوا : فالله خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } ، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : " كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ فأبواهُ يَهوِّدانهِ ويُنصِّرانهِ ويُمْجِّسانِهِ " . قال البغوي : وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الغلامَ الذي قَتلهُ الخضِرُ طُبعَ كافراً " . وقال تعالى : { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] . وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وكل اللَّهُ بالرَّحمِ مَلكاً ، فيقُولُ : أي : ربِّ نُطفَةٌ ، أي ربِّ علقَةٌ ، أي : ربِّ مُضغَةٌ ، فإذا أرَادَ اللَّهُ أن يقْضِيَ خَلْقَهَا ، قال : ربِّ أذكرٌ أم أنْثَى ؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ ؟ فما الرِّزْقُ ؟ فما الأجلُ ؟ فيُكْتَبُ ذلِكَ في بَطْنِ أمِّهِ " . وقال الضحَّاك : فمنكم كافر في السِّر ، مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السر ، كافر في العلانية كعمّار وذويه . وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب يعني في شأن الأنْوَاء ، كما جاء في الحديث . قال القرطبي : وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال - : والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر ، وكُفره فعل له وكسبٌ ، مع أن الله خالق الكفر ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكَسْب ، مع أنَّ الله خالق الإيمان ، والكافر يكفر ، ويختار الكفر بعد خلق اللَّه تعالى إياه ؛ لأن اللَّه - تعالى - قدّر ذلك عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل ، ولا يليقان باللَّه تعالى ، وفي هذا سلامة من الجَبْر والقدر . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة . وقيل : فمنكم كافر بأن الله خلقه ، وهو مذهب الدَّهْرية ، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه . قال ابن الخطيب : فإن قيل : إنه - تعالى - حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا [ خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ، فأي حكمة دعته إلى خلقهم ؟ ] . فالجواب إذا علمنا أنه تعالى حكيم ، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة ، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك ، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة . قوله : { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } . أي : خلقها يقيناً لا ريب فيه . وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي : خلقها للحق ، وهو أن يجزي الذي أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . قوله : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } . قرأ العامة : بضم صاد " صُوركم " ، وهو القياس في فعله . وقرأ زيد بن علي والأعمش ، وأبو رزين : بكسرها ، وليس بقياس وهو عكس لُحَى - بالضم - والقياس " لِحى " بالكسر . فصل معنى " وَصَوَّركُمْ " يعني آدم - عليه الصلاة والسلام - خلقه بيده كرامة له . قاله مقاتل . وقيل : جميع الخلائق ، وقد مضى معنى التصوير ، وأنه التخطيط والتشكيل . فإن قيل : كيف أحسن صوركم ؟ . قيل : بأن جعلهم أحسن الحيوان كلِّه وأبهاه صورة ، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصُّور ، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب كما قال - عزَّ وجلَّ - : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] كما يأتي إن شاء الله تعالى . قال ابن الخطيب : فإن قيل : قد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الخِلقة سمج الصورة ؟ . فالجواب : لا سماجة لأن الحسن في المعاني ، وهو على طبقات ومراتب ، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه ، فهو داخل في خير الحسن غير خارج عن حده . قوله { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } . أي : المرجع ، فيجازي كلاًّ بعمله . قال ابن الخطيب : فإن قيل : قوله تعالى : { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } يوهم الانتقال من جانب إلى جانب ، وذلك على الله تعالى مُحال ؟ . فالجواب : أن ذلك الوهْمَ بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفسه بمعزل عن حقيقة الانتقال إذا كان المنتقل منزهاً عن الجانب والجهة . قوله : { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } . تقدم نظيره . قال ابن الخطيب : إنه - تعالى - نبَّه بعلمه ما في السماوات وما في الأرض ، ثم بعلمه ما يسرونه وما يعلنونه ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض ألبتة . ونظيره قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [ سبأ : 3 ] . وقرأ العامّة : بتاء الخطاب في الحرفين . وروي عن أبي عمرو وعاصم : بياء الغيبة ، فيحتمل الالتفات وتحمل الإخبار عن الغائبين . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } فهو عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء .