Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 163-166)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } الآية . المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم ؛ لأنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - قد علمها من قبل الله تعالى ، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء : الأول : المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقْدَمُوا على هذا الذنب القبيح تَنْبِيهاً لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد - عليه الصلاة والسلام - . والثاني : أنَّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذا وكذا ؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفةِ تلك الواقعة وغير غافل عنها . ولمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أمياً لم يعلم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثمَّ إنَّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، كان ذلك جارياً مجرى المعجزة . قوله : " عَنِ القَرْيَةِ " لا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ ، أي : عن خبر القرية ، وهذا المحذوفُ هو النَّاصِبُ لهذا الظرف وهو قوله " إذْ يَعْدُون " . وقيل : هو منصوب بـ " حَاضِرَة " . قال أبُو البقاءِ : وجوَّزَ ذلك أنها كانت موجودةً في ذلك الوقت ثم خربت . وقدر الزمخشريُّ : المُضاف " أهل " أي : عن أهل القرية ، وجعل الظرف بدلاً من " أهل " المحذوف فإنَّهُ قال : " إذْ يَعْدُون " بدل من القرية ، والمرادُ بالقرية : أهلُها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت ، وهو من بدل الاشتمال . قال أبُو حيَّان وهذا لا يجوزُ ؛ لأن " إذْ " من الظُّرُوف التي لا تتصرَّفُ ، ولا يدخل عليها حرفُ جر ، وجعلها بدلاً يجَوِّزُ دخول " عن " عليها ؛ لأنَّ البدل هو على نِيَّةِ تكرار العامل ولو أَدْخَلْتَ " عن " عليها لم يجز ، وإِنَّما يتصرَّفُ فيها بأن تُضيف إليها بعض الظُّروف الزَّمانية نحو : يوم إذ كان كذا ، وأمَّا قول من ذهب إلى أنَّها تكونُ مفعولةً بـ " اذكر " فقولُ مَنْ عَجَزَ عن عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً . وقال الحوفيُّ : " إذ " متعلقةٌ بـ " سَلْهم " . قال أبُو حيان : وهذا لا يتصوَّر ، لأن " إذْ " لما مضى ، و " سَلْهم " مستقبلٌ ، لو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى ؛ لأنَّ العادين - وهم أهل القريةِ - مفقودون فلا يمكن سُؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين . وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك " يَعَدُّون " بفتح العين وتشديد الدَّالِ ، وهذه تُشبه قراءة نافع في قوله { لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ } [ النساء : 154 ] والأصل : تَعْتَدوا ، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها . وقُرىء " يُعِدُّونَ " بضمِّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من : أعَدَّ يُعِدُّ إعداداً إذ هَيَّأ آلاته ، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادةِ ، فيتركونها ويُهَيِّئُونَ آلاتِ الصَّيد . فصل معنى الآية : واسْأل مُحَمَّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي : بقرية ، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى : { ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 196 ] . قال ابنُ عباس ، وأكثر المفسرين : هي قرية يقال لها : أيْلَة بين مَدْيَن والطُّورِ على شاطىء البحر . وقيل : مدين . وقال الزُّهري : هي طبرية الشَّامِ ، والعرب تسمِّي ] المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء مَا رَأيْتُ قرويين أفصَحَ من الحسين والحجَّاج يعني رجلين من أهل المدنِ ، و { يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ } يتجاوزون حد اللَّه فيه ، وهو اصيطادهم في يوم السَّبت وقد نُهُوا عنه ، والسَّبْتُ : مصدر سَبَتَ اليهود إذَا عظَّمت سُنَّتَهَا ، إذا تركوا العمل في سبتهم ، وسُبِتَ الرجل سُباتاً إذا أخذه ذلك ، وهو مثل الخرس ، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السَّبت ، واليهود دخلوا في السبت ، وهو اليوم المعروفُ ، وهو من الرَّاحةِ والقطع ، ويجمع على أسْبُت وسُبُوت وأسبات ، وفي الخبر عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم " من احْتَجَمَ يوْمَ السَّبْتِ فأصَابَهُ مرضٌ لا يلُومنَّ إلاَّ نَفْسَهُ " . قال القرطبي : قال علماؤنا : لأنَّ الدَّمَ يجمد يوم السبت ، فإذا مددته لتستخرجه لم يَجْرِ وعَادَ بَرَصاً . قوله : " إذْ تَأتيهم " العامل فيه " تَعْدون " أي : إذَا عَدَوا إذ أتَتْهُمْ ؛ لأنَّ الظَّرْفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيِّ . وقال الزمخشريُّ : و " إذ تَأتيهم " بدلٌ من " إذ يَعْدُونَ " بدل بعد بدل ، يعني : أنه بدلٌ ثانٍ من القريةِ على ما تقدَّم عنه ، وقد تقدَّم ردُّ أبي حيان عليه فيعود هنا . و " حِيتَان " جمع " حُوت " ، وإنَّما أبدلَت الواوُ يَاءً ، لسكونها وانكِسَارِ ما قبلها ، ومثلُهُ نُون ونِينَان والنُّونُ : الحُوتُ . قوله " شُرَّعاً " حالٌ من " حِيتَانُهُمْ " وشُرَّعٌ : جمعُ شارع . وقرأ عمر بن عبد العزيز : " يَوْمَ إسباتهم " وهو مصدر " أسبت " إذا دخل في السَّبْت . وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى بن عمر " لا يَسْبُتُونَ " . وقرأ عليٌّ والحسنُ وعاصمٌ بخلاف عنه " لا يُسْبِتُونَ " بضم الياء وكسر الباء ، من أسْبَت ، أي : دخل في السبت . وقُرىء : " يُسْبَتُونَ " بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول ، نقلها الزمخشريُّ عن الحسن . قال : أي لا يُدَار عليهم السبت ولا يؤمَرُونَ بأن يَسْبِتُوا ، والعاملُ في : " يوْمَ لا يَسْبِتُونَ " قوله : " لا تَأتيهمْ " أي : لا تأتيهم يوم لا يَسْبِتُونَ ، وهذا يَدُلُّ على جواز تقديم معمول المنفي بـ " لا " عليها وقد تقدم فيه ثلاث مذاهب : الجواز مطلقاً كهذه الآية ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أوْ لا فيجوز . ومعنى شُرَّعاً أي ظاهرة على الماء كثيرة . من شرع فهو شارع ، ودار شارعة أي : قريبة من الطريق ، ونجوم شارعة أي : دنت من المغيب ، وعلى هذا فالحيتان كانت تَدْنُو من القرية بحيث يمكنهم صيدها . وقال الضَّحَّاكُ : متتابعة . فصل قال ابنُ عباس ومجاهد : إنَّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه ، واختاروا السبت ، فابتلاهم الله به ، وحرم عليهم الصَّيْدَ ، وأمروا بتعظيمه ، فإذا كان يوم السَّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها ، فإذا انقضى السَّبت ذهبت عنهم ، ولم تعد إلاَّ في السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم اللَّه به . فقوله { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي لا يَفْعَلُونَ السبت ، يقال : سَبَتَ يَسْبِتُ إذا عظم السبت . والمعنى : يَدْخُلُونَ في السَّبْتِ ، كما يقال : أجْمَعْنَا وأظهرنَا وأشْهَرْنَا ، أي : دخلنا في الجمعة ، والظهر ، والشهر . كما يقال : أصبحنا أي : دخلنا في الصباح . قوله : " كَذلِكَ نَبْلُوهُم " . ذكر الزجاجُ ، وابن الأنباريِّ في هذه الكاف ومجرورها وجهين : أحدهما : قال الزَّجَّاج : أي : مثل هذا الاختبار الشَّديد نختبرهم ، فموضع الكاف نصبٌ بـ " نَبْلُوهُم " . قال ابن الأنباري : ذلك إشارةٌ إلى ما بعده ، يريد : نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان ، وينقطع الكلام عند قوله " لا تَأتيهمْ " . الوجه الثاني : قال الزجاج ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكون : ويَوْمَ لا يَسبتُون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شُرَّعاً ، ويكون " نَبْلُوهُم " مستأنفاً . قال أبو بكر : وعلى هذا الوجه كذلك راجعةٌُ إلى الشُّرُوع في قوله تعالى : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } والتقدير : ويَوْمَ لا يسبتُونَ لا تأتيهم كذلك الإتيانِ بالشّروع ، وموضعُ الكاف على هذا نَصْبٌ بالإتيان على الحالِ ، أي : لا تأتي مثل ذلك الإتيان . قوله : " بِمَا كَانُوا " الباءُ سببيةٌ و " ما " مصدريةٌ ، أي : نَبْلُوهم بسبب فسقهم ، ويضعُفُ أن تكون بمعنى " الذي " لتكَلُّفِ حذفِ العائد على التدريج . وقد ذكر مكي هنا مسألةً مختلفاً فيها بين النُّحاةِ ، لا تعلُّق لها بهذا الموضع . فقال : وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول : اليوم السَّبْتُ ، واليوم الجُمعَةُ فتنصب اليوم على الظَّرْفِ ، وترفع مع سائر الأيام فتقول : اليومُ الأحدُ واليومُ الأربعاءُ لأنَّهُ لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع . قال شهابُ الدِّين : هذه المسألة فيها خلافٌ بين النَّحويين ، فالجمهورُ كما ذكر يوجبون الرفع ؛ لأنَّه بمنزلة قولك : اليومُ الأولُ ، اليومُ الثاني . وأجاز الفراء وهشام النَّصبَ ، قالا : لأنَّ اليوم بمنزلة : الآن وليست هذه المسألةُ مختصَّةً بالجمعة والسبت بل الضابطُ فيها : أنه إذا ذُكر " اليوم " مع ما يتضمن عملاً أو حدثاً جاز الرفع والنصب نحو قولك : اليوم العيد ، اليوم الفطر ، اليوم الأضحى . كأنك قلت : اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية . فصل قال المفسِّرُون : وسْوَسَ لهم الشَّيطان وقال : إنَّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنَّما نهاكم عن الأكْلِ فاصطَادُوا . وقيل : وسوس إليهم أنَّكُمْ إنَّمَا نُهِيتُم عن الأخذ فاتَّخِذُوا حِيَاضاً على شاطىء البَحْرِ ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحدِ ، ففعلوا ذلك زماناً ، ثمَّ تَجَرَّءُوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلاَّ قد أحِلَّ لنا ، فأحذوا ، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم ، وبعضهم فعل ، ولم ينته ، وبعضهم سكت وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } [ الأعراف : 164 ] فلمَّا لم يَنْتَهُوا قال النَّاهُونَ لا نُسَاكِنُكُمْ ، فقسموا القرية بجدارٍ ، للمسلمين باب ، وللمعتدين بابٌ ، ولعنهم داودُ ، فأصبح النَّاهُونَ ذات يوم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم شأناً ، لعلّ الخمر غلبتهم ، فعلوا الجدار ، فإذا هم قِرَدَةٌ . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ الحيل في تحليل الأمور الَّتي حرمها الشارع محرمةٌ ؛ كالغيبة ، ونكاح المحلِّل ، وما أشبههما من الحيلِ ، ودلَّت على أنَّه تعالى لا يجب عليه رعايةُ الصَّلاح والإصلاح لا في الدِّين ولا في الدنيا ؛ لأنَّهُ تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السَّبْتِ مما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصَّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية ، فلمَّا فعل علمنا أن رعاية الصَّلاح لا تجب على الله تعالى . قوله : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } . اختلفوا في الذين قالوا هذا القول . فقيل : كانوا من الفرقة الهالكة ؛ لأنَّهُم لمَّا قيل لهم : انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب ؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنَّ اللَّهَ ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } . فقال النَّاهُونَ { مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ } أي موعظتنا { مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ } ، والأصحُّ أنها من قول الفرقة السَّاكتة جواباً للنَّاهية ، قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ … مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ } . ومعناه : أنَّ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عُذراً إلى اللَّهِ . " ولعلَّهُم يتَّقُون " أي : يتَّقُوا اللَّهَ ويتركوا المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال : " ولعلَّكُم تتَّقُونَ " . " مَعْذِرَةً " قرأ العامَّةُ : " مَعْذِرَةٌ " رفعاً على أنه خبر ابتداء مضمر ، أي : موعظتنا معذرة . وقرأ حفصٌ عن عاصم ، وزيد بن علي ، وعيسى بنُ عمر ، وطلحةُ بنُ مصرف : " مَعْذِرَةً " نصباً وفيها ثلاثةُ أوجه : أظهرها : أنَّهَا منصوبةٌ على المفعول من أجله ، أي : " وعَظْنَاهُم لأجل المعذرة " . وقال سيبويه : ولو قال رجلٌ لرجلٍ : معذرةً إلى الله وإليك من كذا ، لنصب . الثَّاني : أنَّها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها ، تقديره : نَعْتَذِرُ مَعْذرةً . الثالث : أن ينصب انتصابَ المفعول به ؛ لأن المعذرةَ تتضمَّنُ كلاماً ، والمفردُ الثالث : والمفردُ المتضمِّنُ لكلام إذا وقع بعد القولِ نُصِبَ نصب المفعول به ، كـ " قلت خطبة " . وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ . قال : لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً . ولكنهم قيل لهم : لِمَ تَعِظُونَ ؟ " فَقَالُوا " موعظتنا معذرةً . والمَعْذِرَةُ : اسمُ مصدر وهو العذر . وقال الأزهري : إنَّها بمعنى الاعتذارِ ، والعذرُ : التَّنصلُ من الذَّنبِ . قوله : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و " ما " موصولةٌ بمعنى " الذي " أي : فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون . قال ابنُ عطيَّة : ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر . قال أبُو حيان : ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان . قال شهابُ الدِّين : يعني ابنُ عطية بقوله : " الذِّكرُ نفسُهُ " أي : نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال : فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به ، وبقوله : " مَا كان فيه الذِّكر " نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر ؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل " ما " بمعنى " الذي " قال : إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئن المتغايرين . فصل النِّسيان يطلق على السَّاهي ، والعامد التَّارك لقوله : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : تركوه عن قصد ، ومنه قوله تعالى : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] . فصل المعنى : فلمَّا تركوا ما وعظوا به ، { أنجَينا الذين ينهونَ عن السُّوءِ وأخذنَا الذين ظلمُوا } أي الذين أقدموا على المعصية . واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة . فنقل عن ابن عبَّاسٍ : أنَّهُ توقَّف فيهم ، ونقل عنه : هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية ، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، ثم نسكت ، ولا نقول شيئاً . وقال الحسنُ : نجت الفرقتانِ ، وهلكت العاصية ، لأنهم لما قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ } دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار ، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم ؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظِ . فإن قيل : إن ترك الوعظِ معصية ، والنَّهي عنه أيضاً معصية ؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله : { وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } . فالجوابُ : هذا غير لازمٍ ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية ، ولو قام به البعضُ سقط عن الباقين . وروي عن ابن عبَّاس أنه قال : أسمعُ الله يقول : { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة ؟ قال عكرمةُ : قلت له : جعلني اللَّهُ فداك ، ألا تراهم قد أنكروا ، وكرهوا ما هم عليه وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي ورضي به ، وأمر لي ببردين فكسانيهما ؛ وقال : نَجتِ السَّاكتةُ ، وهذا قول يمان بن رباب ، والحسن ، وابن زيد . قوله : " بعذابٍ بئيسٍ " . أي : شديد . قرا نافعٌ ، وأبو جعفر ، وشيبةٌ بيْسٍ بياء ساكنة ، وابن عامر بهمزة ساكنة . وفيهما أربعة أوجه : أحدها : أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " أنهاكم عن قيل وقال " بالإعراب والحكاية ، وكذا قولهم : " مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ " ، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً كـ : نِضْو ونِقْض . والثاني : أنَّهُ وصف وضع على فعل كـ : حِلْف . الثالث : أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة ، فخفَّفَ الهمزة ؛ فالتقت ياءان ، ثم كسر الياء إتباعاً ، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ ، فحذفت الياء المكسورة ؛ فصار اللَّفظُ " بِيْسٍ " وهو تخريج الكسائيِّ . الرابع : أن أصله بَئِس بوزن " كَتِف " ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة ، ثمَّ أبدلت يا كـ : بِيرٍ وذِيبٍ . وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً ، وأن تكون وصفاً كـ : حِلْف . وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء ، وهمزة مفتوحتين ، وهو صفةٌ على فَيْعَل كـ : ضَيْغَم ، وصَيْرَف ، وصَيْقَل ، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ . وقرأ امرؤُ القيسِ : [ الرجز ] @ 2602 - كِلاهُمَا كَانَ رَئِيساً بَيْئَسا يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا @@ وقرأ باقي السبعة " بَئِيسٍ " بزنه " رَئِيسٍ " وفيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ وصفٌ على " فَعِيلٍ " كـ : شَدِيدٍ ، وهو للمبالغة وأصله فاعل . والثاني : أنه مصدرٌ وصف به أي : بعذابٍ ذي بأس بَئِيس ، فـ " بَئِيسٍ " مصدر مثل : النكير والقدير ، ومثل ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني : [ مجزوء الكامل ] @ 2603 - حَنَقاً عليَّ ولا أرَى لِيَ مِنْهُمَا شَرًّا بَئِيسا @@ وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء . وقرأ يعقوبُ القارىء " بَئِسَ " بوزن " شَهِدَ " ، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ ، وزيد بن علي . وقرأ نصرُ بنُ عاصم " بَأسَ " بوزن " ضَرَبَ " فعلاً ماضياً . وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار " بَأس " فعلاً ماضياً ، وأصله " بَئِس " بكسر الهمزة ، فسكَّنَهَا تخفيفاً كـ : شَهْدَ في قوله : [ الرجز ] @ 2604 - لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ @@ وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ ، والهمز همزاً خفيفاً ، ولم يُبَيَّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ ؟ وقرأ طلحة وخارجة عن نافع " بَيْسٍ " بفتح الباء ، وسكون الياء مثل : كَيْلٍ ، وأصله " بَيْئَس " مثل : ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً ، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف كـ : مَيْت في : مَيِّت . وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية " بَيْئِسٍ " كقراءة أبي بكر عنه ، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة ، وهذه قد ردَّها النَّاسُ ؛ لأن " فَيْعِلاً " بكسر العين في المعتلِّ ، كما أن " فَيْعَلاً " بفتحها في الصحيح كـ : سَيِّد وضَيْغَم ، على أنه قد شذّ " صَيْقِل " بالكسر ، و " عَيَّل " بالفتح . وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه " بَأسٍ " بفتح الباء والهمزة وجر السِّين ، بزنة " جَبَلٍ " . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف " بَئِسٍ " مثل كبد وحذر . قال عبيد الله بن قيس : [ المديد ] @ 2605 - لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ @@ وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة . قالوا : قلب الياء همزةً وأدغمها في مثلها . ورويت هذه عن الأعمش أيضاً . وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة ، والهمزة مشددة ، فعلاً ماضياً ، كـ " شَمَّرَ " ، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة ، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ كـ : " رَئِيسٍ " ، إلاَّ أنهم كسروا الباء ، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو : بِعِير ، وشِعِير ، وشِهيد ، سواء أكان اسماً أم صفة . وقرأ الحسن والأعمش " بِئْيَسٍ " بياء مكسورة ، ثم همزة ساكنة ، ثم يا مفتوحة ، بزنة " حِذْيَم " ، و " عِثْيَر " . وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو : بِئْسَ الرجل زيدٌ . ورُويت عن أبي بكر . وقرأ الحسن أيضاً كذلك ، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة ، وتخريجها كالتي قبلها ، وهي مرويةٌ عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ : مررت برجلٍ بِئْسَ ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل ، أو بئس رجلاً . قال النَّحَّاس : وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون : إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت ، أي : ونعمت الخصلة ، والتقدير : بِئْسَ العذابُ . قال شهابُ الدِّينِ : أبو حاتم معذورٌ في القراءة ، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور ، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه ، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتْ ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل " نِعْمَتْ " هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام . قال أبُو حيَّان : فهذه اثنتانِ وعشرون قراءةً ، وضبطُها بالتَّلخيص : أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ ، ورباعَّيتَهُ ، فالثُّلاثي اسماً : بِئْسٍ ، وَبِيْسٍ ، وبَيْسٍ ، وبَأْسٍ ، وبَأَسٍ ، وبَئِسٍ ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ ، وبَئِسَ ، وبَأَسَ ، وبَأْسَ ، وبَيِسَ . والرباعية اسماً : بَيْئَسٍ ، وبِيْئِسٍ ، وبَيْئِسٍ ، وبَيِّسٍ ، وبَئِيْسٍ ، وبِئَيْسٍ ، وبِئْيِسٍ ، وبِئْيَسٍ ، وفعلاً : بَأَّسَ . وقد زا أبو البقاء أربع قراءات أخر : بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة . قال : وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء ، وبَيَسٍ بفتحهما . قال : وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت ، ولم تقلب الياء ألفاً ، لأنَّ حركتها عارضةٌ . وبَأْيَسٍ بفتح الباء ، وسكون الهمزة وفتح الياء . قال : وهو بعيد إذ ليس في الكلام " فَعْيَل " وبَيْآس على فَيْعَال . وهو غريب . قوله تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } الآية . قال ابنُ عباسٍ " أبَوْا أن يرجعوا عن المعصية " والعُتو : هو الإباء والعصيان . فإن قيل : إذا عتوا عمَّا نُهُوا عنه فقد أطاعوا ؛ لأنَّهُم أبوا عمَّا نُهُوا عنه ، وليس المراد ذلك . فالجواب : ليس المراد أنهم أبوا عن النهي ، بل أبوا عن امثتال ما أمروا به . وقوله : { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } . قال بعضهم ليس المراد منه القول ؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك . قال : وفيه دلالة على أن قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] هو بمعنى الفعل لا الكلام . وقال الزجاج أمِرُوا بأن يكُونُوا كذلك بقول سمع ، فيكون أبلغ . قال ابنُ الخطيب : وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد ؛ لأنَّ المأمور بالفعل يجبُ أن يكون قادراً عليه ، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة . فصل قال ابنُ عبَّاسٍ : أصبح القوم قردةً خاسئين ؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيَّام تراهم النَّاس ثمَّ هلكوا ، ونقل عن ابن عبَّاسٍ : أن شباب القوم صاروا قردة ، والشُّيُوخ خنازير ، وهذا خلاف الظَّاهر .