Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 168-170)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } الآية . هذه الآية تدلُّ على أن المراد بقوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 167 ] جملة اليهود ، ومعنى " قَطَّعناهُم " أي : فرقناهم في الأرض ، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا أرض مسكونة إلاَّ وفيها منهم أمة ، وهذا هو الغالبُ . وقوله : " أمَماً " إمَّا حالٌ من مفعول " قطَّعْنَاهُم " ، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ " قطَّع " تضمَّن معنى : صَيَّر . و " مِنْهُمُ الصَّالحُون " صفة لـ " أمم " . وقال أبو البقاء : " أو بدل منه ، أي : من أمم " . يعني : أنَّهُ حالٌ من مفعول : " قطَّعناهُمْ " أي : فرَّقناهُم حال كونهم منهم الصَّالحون . قيل : المرادُ بـ " الصَّالحينَ " الذين كانوا في زمن موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - ؛ لأنَّهُ كان فيهم قوم يهدون بالحق . وقال قتادةُ : هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصِّين . وقال ابنُ عباس ومجاهد : هم الذين آمنوا بالنَّبيِّ صلى الله الله عليه وسلم كـ : عبد الله بن سلام وغيره . وقوله : { وَمِنهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ } أي : من أقام على اليهوديِّةِ . فإن قيل : لم لا يجُوزُ أن يكون قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ } من يكون صالحاً إلاَّ أنَّ صلاحَهُ دون صلاح الأولين ؛ لأنَّهُ أقرب إلى الظاهرِ ؟ فالجوابُ : أن قوله بعد ذلك : " لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ " يدُل على أنَّ المراد من ثَبَتَ على اليَهُوديَّةِ . قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } " منهم " خبرٌ مقدم ، و " دُون ذلك " : نَعْتٌ لِمنعُوتٍ محذوف هو المبتدأ ، والتقدير : ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك . قال الزمخشري : معناه : ومنهم ناسٌ منحطُّون عن الصَّلاح ، ونحوه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] . بمعنى : مَا منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ معلومٌ . يعني في كونه حذف الموصوفُ وأقيم الجملة الوصفية مقامهُ ، كما قام مقامه الظرفُ الوصفيُّ ، والتفصيل بـ " مِنْ " يجوزُ فيه حذفُ الموصوف وإقامةُ الصِّفة مقامه كقولهم : منَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ . ؟ وقال ابنُ عطيَّة : فإن أريدَ بالصَّلاح الإيمانُ فـ " دُونَ " بمعنى " غير " يُراد به الكفرة . قال أبُو حيان : إن أراد أنَّ دُونَ ترادفُ " غيراً " ، فليس بصحيحٍ ، وإن أراد أنَّهُ يلزم أنَّ من كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح ، وذلك إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح وإمَّا أن يُشار به إلى الجماعة ، فإن أشير به إلى الصلاح ؛ فلا بد من حذفِ مضاف ، ليصحَّ المعنى ، تقديره : ومنهم دُون أهل ذلك الصلاح ، ليعتدلَ التقسيم ، وإن أُشير به إلى الجماعة ، أي : ومنهم دون أولئك الصالحين ، فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ ؛ لاعتدال التقسيم بدونه . وقال أبو البقاء : دُون ذلِكَ ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] وفيه نظر من حيث إن " دُونَ " ليس بخبر . قوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ } أي : عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسناتِ ، وهي : النِّعمُ والخصبُ ، والعافيةُ ، والسَّيِّئاتِ وهي الجدب ، والشَّدائدُ . قال أهل المعاني : وكُلُّ واحدةٍ من الحسناتِ والسيئاتِ تدعُو إلى الطَّاعة ، أمَّا النعم فللترغيب ، وأمَّا النِّقَمُ فللترهيب . { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } : لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعةِ ربِّهم . قوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَابَ } الآية . الخَلَف والخَلْف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنًى واحد ؟ أي : يُطلقُ كل منهما على القرن الذي يَخْلُف غيره صالحاً أو طالحاً ، أو أنَّ السَّاكن اللام في الطَّالح ، والمفتوح في الصَّالح ؟ خلافٌ مشهور بين اللُّغويين . قال الفرَّاءُ : يُقال للقرنِ " خَلْف " يعني ساكناً ولمن استخلفته : خَلَفاً ، يعني : متحرك اللاَّم . وقال الزجاج : الخلفُ ما أخلْفَ عليك بدلاً مِمَّا أخذ منك ؛ فلهذا السبب يقالُ للقرنِ يجيء بعد القرنِ " خَلْفٌ " . وقال ثعلبُ : النَّاسُ كلُّهم يقولون " خَلَفُ صدْقٍ " للصَّالح ، و " خَلْفُ سوء " للطَّالح ؛ وأنشد : [ الكامل ] @ 2606 - ذَهَبَ الذينَ يُعَاشُ في أكْنافِهِمْ وبقيتُ في خلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ @@ وقالوا في المثل : سَكَتَ ألفاً ونطق خَلْفاً ويُعْزَى هذا إلى الفرَّاءِ ؛ وأنشد : [ المنسرح ] @ 2607 - خَلَّفْتَ خَلْفاً ولمْ تدعْ خَلَفَا لَيْتَ بِهِمْ كانَ لا بِكَ التَّلَفَا @@ وقال بعضهم : قد يجيء في الرَّديء " خَلَفَ " بالفتح ، وفي الجيد " خَلْف " بالسُّكُون ، فمن مجيء الأول قوله : [ المتقارب ] @ 2608 - … إلى ذلِك الخَلَفِ الأعوَرِ @@ _ _ ومن مجيء الثاني قول حسان : [ الطويل ] @ 2609 - لَنَا القدَمُ الأولى عليْهِمْ وخَلْفُنَا لأوَّلِنَا في طاعةِ اللَّهِ تَابِعُ @@ وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله : [ الرجز ] @ 2610 - إنَّا وَجدْنَا خَلْفنَا بِئْسَ الخَلَفْ عَبْداً إذا ما نَاءَ بالحِمْلِ خَضَفْ @@ فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء . ولهذا قال النَّضْرُ : يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء ، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة ، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح ، و " الخَلْف " بالسُّكون فيه وجهان ، أحدهما : أنَّهُ مصدر ، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث ، وعليه ما تقدَّم من قوله : @ 2611 - إنَّا وَجَدْنَا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ @@ وإمَّا اسم جمع " خالِف " كـ : رَكْب لراكب ، وتَجْر لِتَاجِرٍ . قاله ابنُ الأنباري : ورَدُّه عليه ، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد ، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله ، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي : فَسَدَ . يقال : خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفاً وخُلُوفاً ، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث " لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم " . وقوله : " وَرِثُوا " في محل رفع نعتاً لـ " خَلْف " ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا . وقرأ الحسنُ البصري : وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيّاً لما لم يُسَمَّ فاعله ، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ ، ويجوز أن يكون : يَأخُذُونَ مستأنفاً أخبر عنهم بذلك . وقوله : عَرَضَ هذَا الأدْنَى . قال أبُو عبيدٍ : جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء . يقال : " الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ " . وأما العَرْض بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين ، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض ، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً . والمعنى : حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا ، والمرادُ منه : التَّخسيس والتَّحقير ، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب ؛ لأنَّهُ عاجل قريب ، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها . وتقدَّم الكلامُ عليه . قوله ويَقُولُونَ نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه ، وسَيُغْفَرُ معموله ، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان : أحدهما الجَارُّ بعده وهو " لَنَا " والثاني : أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي : سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى . قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ } هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان : أظهرهما : أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب . والثاني : أنَّ الواوَ للحال ، وما بعدها منصوبٌ عليها . قال الزمخشري : الواو للحال ، أي : يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين ، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى . وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة ، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة : فيجوز مع عدم التوبة ، لأنَّ الفاعل مختار . والعَرَض - بفتح الراء - ما لا ثبات له ، ومنه استعار المتكلمون : العَرَض المقابل للجوهر . وقال أبو عبيدة : العَرَضُ - بالفتح - جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين . كما تقدَّم . قال المفسِّرون : المراد بالكلامِ : الإخبارُ عن إصرارهم على الذُّنُوبِ . وقال الحسنُ : هذا إخبارٌ عن حِرصِهِمْ على الدُّنْيا ، وأنهم " يستمتعون " منها . ثم قال تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ ٱلْكِتَابِ } أي : التَّوراة : { أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } والمرادُ منعهم عن تحريف الكتاب ، وتغيير الشَّرائع ، لأجل أخذ الرشوةِ . قوله : { أَن لاَّ يِقُولُواْ } فيه أربعةُ أوجه : أحدها : أنَّ محله رفع على البدل من " مِيثَاقُ " ؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب . والثاني : أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ . والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله . قال الزمخشريُّ : وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان : " ألاَّ يقُولُوا " مفعولاً من أجله ومعناه : لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة : " من ارتكب ذَنْباً عَظِيماً فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة " ، و " أنْ " على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية . الرابع : أنَّ " أنْ " مفسرة لـ " مِيثَاقُ الكتابِ " ؛ لأنَّهُ بمعنى القولِ ، و " لا " ناهية ، وما بعدها مجزوم بها ، وعلى الأقوال المتقدِّمة " لا " نافية ، والفعلُ منصوبٌ بـ " أنْ " المصدرية و " الحَقَّ " يجوز أن يكون مفعولاً به ، وأن يكون مصدراً ، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ ؛ لأنَّهُ مذكورٌ فيه . قوله : " ودَرَسُوا " فيه ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ : وهو كونُه معطوفاً على قوله : " ألَمْ يُؤخَذْ " ؛ لأنَّهُ تقرير . فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ، نظيره قوله تعالى : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] معناه : قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ . والثاني : أنَّهُ معطوف على " وَرِثُوا " . قال أبُو البقاءِ : ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره . الثالث : أنه على إضمار " قَدْ " والتقدير : وقد درسوا . فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية ، أي : يقولون : سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل : " يَأخُذُوهُ " أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض . وقرأ الجحدري : أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ ، وهو التفاتٌ حسنٌ . وقرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ ، والأصلُ : تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف { فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقد تقدم . ثم قال تعالى : { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة " أفلا تَعْقِلُونَ " . وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة . وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ ، والباقون بالغيبة ، فالخطابُ يحتمل وجهين : أحدهما : أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد . والثاني : أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ ، أي : أفلا تعقلون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم . وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر ، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة ، وقراءة الخطاب للباقين . قوله : " والَّذينَ يُمَسِّكُون " : فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ ، وفي خبره حينئذ وجهان : أحدهما : الجملة من قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } وفي الرَّابط حينئذ أقوال : أحدها : أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : المُصْلحين منهم ، وهذا على قواعد جمهور البصريين ، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ " ألْ " قائمةٌ مقام الضمير ، تقديره : أجْرَ مَصْلحيهمْ ؛ كقوله : { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [ النازعات : 41 ] أي : مَأواهُ ، وقوله { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ ص : 50 ] أي : أبوابُها ، وقوله : { فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } [ الروم : 3 ] أي : أرضهم ، إلى غير ذلك . والثاني : أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه ، نحو : زيد قام أبو عبد الله ، وهو رأي الأخفش ، وهذا كما يُجيزه في الموصول ، نحو : أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ . الثالث : أنَّ الرَّابط هو العموم في " المُصْلحينَ " قاله أبُو البقاء . قال : " وإن شئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير " . قال شهاب الدين : العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة ؛ وعليه قول الشاعر : [ الطويل ] @ 2612 - ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ سَبِيلٌ ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا @@ ومنه : نعم الرجلُ زيدٌ ، على أحد الأوجه : والوجه الثاني - من وجهي الخبر - : أنَّهُ محذوف ، تقديره : والذين يمسكون مأجورون ، أو مثابُونَ ونحوه . وقوله تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } جملة اعتراضية ، قاله الحوفيُّ . ولا ضرورة تدعو إليه . الثاني من وجْهَيْ " الذينَ يُمَسِّكُون " : أنَّه محل جر نسقاً على : " الَّذين يَتَّقُونَ " أي : والدّار الآخرةُ خير للمتقين ، وللمتمسكين ، قاله الزمخشريُّ . إلاَّ أنه قال : ويكون قوله : { إنَّا لا نُضيعُ } اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ ، فكان ينبغي أن يقول : ويكون على هذا مستأنفاً . وقرأ العامَّةُ " يُمَسِّكُونَ " بالتشديد مِنْ " مَسَّك " بمعنى " تَمَسَّكَ " حكاه أهلُ التصريف أي : إنَّ : " فَعَّلَ " بمعنى " تفَعَّل " ، وعلى هذا فالباءُ للآلة ، كهي في " تَمَسَّكْتُ بالحبل " . يقال : مَسَّكْتُ بالشَّيء ، وتَمَسَّكْتُ ، واسْتَمْسَكْتُ به ، وامتسَكْتُ به . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية " يُمْسِكُونَ " بسكون الميم وتخفيف السين من " أمْسَكَ " وهما لغتان يقال : مَسَكْتُ ، وأمْسَكْتُ . وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله : [ البسيط ] @ 2613 - ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ @@ ولكن " أمْسَك " مُتعدٍّ . قال تعالى : { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ } [ الحج : 65 ] فعلى هذا مفعوله محذوف ، تقديره : يُمسِكون دينهم وأعمالهم بالكتاب ، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ ، أي : لأوامره ونواهيه . وحجة عاصم قوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 229 ] ، وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] ، وقوله : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] . قال الواحديُّ : والتشديدُ أقوى ؛ لأنَّ التشديد للكثرة ، وههنا أريد به الكثرة ؛ ولأنَّهُ يقال : أمسكته ، وقَلَّمَا يقال : أمسكت به . وقرأ عبد الله والأعمش : " اسْتَمْسَكُوا " ، وأبي : " تَمَسَّكُوا " على الماضي ، وهو جيّد لقوله تعالى : { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى . فصل أراد والذين يعملون بما في الكتاب . قال مجاهدٌ : هم المؤمنون من أهل الكتاب كـ : عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى ، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلةً . وقال عطاء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أجرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } أي : لا نضيع أجرهم ، كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] . فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر ؟ فالجوابُ : أفردها لعلو مرتبتها ، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان .