Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 33-33)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّ الذي حرَّموه ليس بحرام بيَّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات ، فحرَّم أولاً الفواحش ، وثانيها الإثم ، واختلفُوا في الفَرْقِ بينهما ، فقيل : الفواحشُ : عبارة عن الكبَائر ؛ لأنَّ قبحها قد تَفَاحَشَ أي : تزايد ، والإثم عبارة عن الصغائر ، والمعنى : أنَّهُ حرَّم الكبائِرَ والصَّغائِرَ . وطعن القاضي في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال : الزِّنَا والسرقة والكفر ليس بإثْمٍ ، وهو بعيد ، وأقلُّ الفواحش ما يجب فيه الحدُّ ، والإثم ما لا حدّ فيه . وقيل : الفاحِشَةُ اسم للكبيرةِ ، والإثمُ اسم لمطلق الذَّنْبِ سواء كان صغيراً أو كبيراً ، وفائدته : أنَّهُ لمَّا حرّم الكبيرة أردفه بِتَحْرِيمِ مطلق الذَّنْبِ ، لئلاَّ يتوهم أنَّ التحريم مقصورٌ على الكبيرة ، وهذا اختيار القاضي . وقيل : إنَّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللُّغَةِ اسماً لكلِّ ما يتفاحش وتزايدُ في أمر من الأمور ، إلاَّ أنَّهُ في العُرْفِ مخصوصٌ بالزِّنَا ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى في الزنا : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، ولأنَّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلاَّ ذلك . وإذا قيل : فلانٌ فحاشٌ ، فُهم منه أنَّهُ يشْتِمُ النَّاسَ بألفاظ الوِقَاع ؛ فوجب حمل لفظ الفاحِشَةِ على الزِّنَا ، فعلى هذا يكون { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : الذي يقع منها علانية ، و " مَا بَطَنَ " أي : الذي يقع منها سرّاً على وجه العشق والمحبَّة . وقيل : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : المُلامسة والمُعَانقة ، و " مَا بَطَنَ " الدُّخول ، وقد تقدَّم الكلام فيه في آخر السُّورة قبلها . وما " الإثم " فالظاهر أنَّهُ الذَّنب . وقيل : هو الخمرُ ، قاله المفضلُ ، وأنشد القائل في ذلك : [ الطويل ] @ 2455 - نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أنْ نَقْرَبَ الزِّنَا وأنْ نَشْرَبَ الإثْمَ الذي يُوجِبُ الوِزْرَا @@ وأنشد الأصمعي : [ الطويل ] @ 2456 - وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ كأنِّي شَرِبْتُ الإثْمَ أو مَسَّنِي خَبَلْ @@ قال : وقد يسمى الخمر إثماً ؛ وأنشد القائلُ : [ الوافر ] @ 2457 - شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ @@ ويروى عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - والحسنِ البصري [ أنهما ] قالا : " الإثم : الخمر " . قال الحسنُ : " وتصديق ذلك قوله : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] ، والذي قاله الحُذَّاق : أنَّ الإثم ليس من أسماء الخَمْرِ " . قال ابن الأنباري : " الإثمُ : لا يكون اسماً للخمر ؛ لأنَّ العرب لم تسمِّ الخمر إثماً ، لا في جاهليّة ، ولا في الإسلامِ ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك ؛ لأنَّ الخمر سبب الإثم ، بل هي معظمه ، فإنَّهَا مؤجّجة للفتن ، وكيف يكونُ ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السُّورةِ حلالاً ؛ لأن هذه السُّورة مكيَّة ، وتحريم الخمر إنَّمَا كان في " المَدِينَةِ " بعد " أحد " ، وقد شربها جماعةٌ من الصَّحابة يوم " أحدٍ " فماتوا شُهَدَاء ، وهي في أجوافهم . وأمّا ما أنشده الأصمعيُّ من قوله : @ 2458 - شَرِبْتُ الإثْمَ … … @@ نصواعلى أنه مصنوع ، وأما غيره فاللَّهُ أعلم " . وقال بعضُ المفسِّرين : " الإثم : الذّنب والمعصية " . وقال الضحاكُ - رحمه الله - : " الإثمُ : هو الذَّنْبُ الذي لا حدَّ فيه " . قوله : { وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } : اعلم أنَّ الذَّين قالوا : المراد بـ " الفواحش " جميع الكبائر ، وبـ " الإثم " جميع الذُّنوب قالوا : إن البغي والشرك لا بد وأن يدخلا تحت الفواحش ، وتحت الإثم ، وإنَّمَا خصّهما الله - تعالى - بالذِّكر تنبيهاً على أنَّهُما أقبح أنواع الذُّنُوب ، كما في قوله تبارك وتعالى : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . وفي قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 8 ] . وأمَّا الذين خصُّوا الفاحشةَ بالزِّنَا ، والإثمَ بالخَمْرِ قالوا : البغي والشرك غير داخلين تَحْتَ الفواحِش والإثم ، وإنَّمَا البغي لا يستعملُ إلا في الإقْدَامِ على الغير نفساً ، أو مالاً أو عِرْضاً ، وقد يراد البغي على سلطان الوقت . فإن قيل : البغيُ لا يكون إلا بغير الحقِّ ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أنَّ قوله تعالى " بِغَيْرِ الحقِّ " حال ، وهي حال مؤكدة ؛ لأنَّ البَغْيَ لا يكون إلاَّ بغير الحق . والثاني : أنَّهُ مثل قوله تبارك وتعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الأنعام : 151 ] ، والمعنى : لا تُقدمُوا على إيذاءِ النَّاسِ بالقَتْلِ والقهر ، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغياً . وقوله : " وأنْ تُشْرِكُوا " منصوب المحلِّ نسقاً على مفعول " حرَّم " أي : وحرّم إشراككم عليكم ، ومفعول الإشراك { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وقد تقدَّم بيانه في " الأنعام " ، تهكَّم بهم ؛ لأنَّهُ لا يجوز أن ينزل برهاناً أن يُشْرَكَ به غيره . قوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ } نسقٌ على ما قبله أي : وحرّم قولكم عليه من غير علم ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في هذه السُّورة عند قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] . فإن قيل : كلمة " إنَّمَا " تفيدُ الحَصْرَ ، إنَّمَا حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر ، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء ؟ فالجواب : إنْ قُلْنَا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبَائِرِ ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذُّنوب فيه ، وإن حملنا الفَاحِشَة على الزِّنَا ، والإثم على الخمر فنقول : الجنايات محصورةٌ في خمسة : أحدها : الجنايات على الإنسانيَّة ، فهذا إنَّما يحصل بالزِّنَا ، وهو المراد بقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ } . وثانيها : الجنايات على العقول ، وهي شُرْبُ الخمر ، وإليه الإشارة بقوله " والإثْم " . وثالثها ورابعها : الجنايات على النُّفوس والأموال ، وإليه الإشارة بقوله : { وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } . وخامسها : الجناية على الأديان ، وهي من وجهين : أحدهما : الطَّعْنُ في توحيد الله تبارك وتعالى . والثاني : الطعن في أحكامه ، وإليه الإشارةُ بقوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . فلما كانت الجنايات هذه الأشياء ، وكانت البواقي كالفروع والتَّوابع ، لا جرم كان ذكرها جارٍ مجرى ذكر الكُلِّ ، فأدخل فيها كلمة " إنَّمَا " المفيدة للحصر . فإن قيل : الفَاحِشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقديرُ الآية الكريمة : إنَّمَا حرَّمَ ربي المحرمات ، وهو كلام خال عن الفائدة ؟ فالجوابُ ، كون الفعل فَاحِشة إنَّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النَّهي عنه فسقط السُّؤال .