Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 71, Ayat: 21-28)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } . ذكر أولاً أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر ، إنما زادهم أموالهم ، وأولادهم خساراً ؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة ، والدنيا في جنب الآخرة كالعدم ، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللُّقمةِ من الحلوى مسمومة ؛ ولذلك قال جماعة : ليس لله على الكافر نعمة ، وإنَّما هي استدراج للعذابِ . قال المفسِّرون : لبث فيهم نوحٌ - عليه السلام - كما أخبر الله تعالى ألف سنةٍ إلاِّ خمسين عاماً داعياً لهم وهم على كفرهم وعصيانهم . قال ابنُ عباس : دعا نوحٌ الأبناءَ بعد الآباءِ ، فكان الآباءُ يأتون بأولادهم إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - ويقولون لأبنائهم : إياكم وأن تطيعوا هذا الشيخ ؛ فيما يأمركم به ، حتى بلغوا سبع قرونٍ ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، ولبث بعد الطوفان ستين عاماً ، حتى كثر الناس وفشوا . قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين ، حكاه الماورديُّ . قوله " وولده " قرأ أهل " المدينة " و " الشام " وعاصم : " وَوَلَدُه " بفتح اللام والواو . والباقون : " وَوُلْدُهُ " بضم الواو وسكون اللام ، وقد تقدم أنهما لغتان كـ " بَخَل وبُخْل " . قال أبو حاتم : ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح كـ " خَشَب وخُشْب " . وأنشد لحسَّانٍ : [ الكامل ] @ 4882 - يَا بِكْرَ آمنةَ المُباركِ وُلْدُهَا مِنْ وُلدِ مُحْضنةٍ بِسعْدِ الأسْعَدِ @@ قوله : { وَمَكَرُواْ } ، عطف على صلة " من " لأن المتبوعين هم الذين مكروا . { وَقَالُواْ } للإتباع : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } ، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى ، بعد حملها على لفظها في { لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } ، يجوز أن يكون مستأنفاً إخباراً عن الكفار . قوله " كُبَّاراً " ، العامة : على ضم الكاف وتشديد الباء ، وهو بناء مبالغة أبلغ من " كُبَار " بالضم والتخفيف . قال عيسى : وهي لغةٌ يمانية ؛ وأنشد : [ الكامل ] @ 4883 - والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ @@ وقول الآخر : [ الكامل ] @ 4884 - بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ @@ ويقال : رجل طُوَّال ، وجميل ، وحُسَّان ، وعظيم ، وعُظَّام . وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال وحميد ومجاهد : بالضم والتخفيف ، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول . وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً : بكسر الكاف وتخفيف الباء . قال أبو بكر : هو جمع كبير ، كأنه جعل " مَكْراً " ، مكان " ذُنُوب " ، أو " أفاعيل " يعني فلذلك وصفه بالجمع . فصل في المقصود بالمكر في الآية قيل مكرهم : هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح . وقيل : هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا ، والولد ، حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ . وقال الكلبيُّ : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد ، وهذا بعيد ، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة . وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك ، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب ، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر ، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار . قال ابن الخطيب : وإنَّما سماه مكراً لوجهين : الأول : لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة ، لاستمرارهم على عبادتها ؛ لأنها معبود آبائهم ، فلو قبلتم قول نوحٍ لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين ، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة " آلهتكم " وصدفكم عن الدين ؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً . الثاني : أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد ، فلعلهم قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح ؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح [ لا يعطيه شيئاً لأنه فقير ] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح ، وهو مثل مكر فرعون إذ قال : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [ الزخرف : 51 ] ، وقوله { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [ الزخرف : 52 ، 53 ] . قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } [ نوح : 23 ] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ، إن قيل : إن هذه الأسماء لأصنام ، وألا يكون إن قيل : إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون . وقرأ نافع : " وُدّاً " بضم الواو ، والباقون : بفتحها . وأنشد بالوجهين قول الشاعر : [ البسيط ] @ 4885 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لاَ يَحِلُّ لَنَا لَهْوُ النِّساءِ ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 4886 - فَحيَّاكَ وُدُّ مَنْ هداكَ لعِسِّهِ وخُوص بأعْلَى ذِي فَضالة هجِّه @@ قال القرطبي : قال الليث : " وَدٌّ " - بفتح الواو - صنم كان لقوم نوح ، و " وُدّ " - بالضم - صنم لقريش ، وبه سمي عمرو بن عبد ود . وفي الصحاح : " والوَدُّ " بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد ، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال . والود في قول امرىء القيس : [ الرمل ] @ 4887 - تُظْهِرُ الوَدَّ إذَا مَا أشْجَذتْ وتُواريهِ إذَا ما تَشْتَكِرْ @@ قال ابن دريدٍ : هو اسم جبلٍ . و " ود " : صنم كان لقوم نوح - عليه الصلاة والسلام - ثم صار لكلب ، وكان بدومةِ الجَندلِ ، ومنه سموا بعبد ودّ . قوله : { وَلاَ يَغُوثُ وَيَعُوقَ } . قرأهما العامة بغير تنوين ، فإن كانا عربيين : فالمنع من الصرف للعلمية والوزن ، وإن كانا أعجميين : فالعجمة والعلمية . وقرأ الأعمش : " ولا يغوثاً ويعوقاً " مصروفين . قال ابن عطية : " وذلك وهم ، لأن التعريف لازم ووزن الفعل " . انتهى . قال شهاب الدين : وليس بوهم لأمرين : أحدهما : أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف " سَلاسِل " . والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً ، وهي لغة حكاها الكسائي ، ونقل أبو الفضل : الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي ، ثم قال : جعلهما " فعولاً " ، فلذلك صرفهما ، فأما في العامة : فإنهما صفتان من الغوثِ والعوقِ . قال شهاب الدين : " وهذا كلامٌ مشكلٌ ، أما قوله : " فعولاً " فليس بصحيح ، إذ مادة يغث ويعق مفقودة ، وأما قوله : صفتان من الغوث والعوق ، فليس في الصفات ولا في الأسماء " يفعل " والصحيح ما قدمته " . وقال الزمخشريُّ : وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ، ففيهما المنع من الصرف ، ولعله وجد الازدواج ، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات : ودّاً وسواعاً ونسراً ، كما قرىء { وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواجِ . قال أبو حيَّان : كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة . فصل في بيان هذه الأسماء . قال ابن عبَّاس وغيره : وهي أصنامٌ ، وصور كان قوم نوحٍ يعبدونها ، ثم عبدتها العربُ ، وهذا قول الجمهورِ . وقيل : إنَّها للعربِ لم يعبدها غيرهم ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فلذلك خصُّوا بالذكر بعد قوله : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } . وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وعند بنوه : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وكان ود أكبرهم ، وأبرّهم به . قال محمد بن كعب ، كان لآدمَ خمس بنينَ : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عُبَّاداً ، فمات رجل منهم فحزنوا عليه ، فقال الشيطان : أنا أصور لكم مثله ، إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : افعل ، فصوّره في المسجدِ ، من صفر ورصاصٍ ، ثم مات آخرُ ، فصوره حتى ماتوا كلُّهم ، وصوروهم وتناقصت الأشياءِ كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين ، فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئاً ؟ . قالوا : وما نعبدُ ؟ قال آلهتكم وآلهة آبائكم ، ألا ترونها في مصلاكم ؟ فعبدوها من دون الله ، حتى بعث الله نوحاً ، فقالوا : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } الآية . وقال محمد بن كعبٍ أيضاً ومحمد بن قيس : بل كانوا قوماً صالحين ، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيَّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم ؛ ليتذكروا بها اجتهادهم ، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم ، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا : ليت شعرنا ، وما هذه الصورُ التي كان يعبدها آباؤنا ؟ فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر ، فعبدوها فابتدىء عبادة الأوثان من ذلك الوقت . وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشةَ : " أنّ أم حبيبةَ وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أولئِكَ كَانَ إذَا مَاتَ فيهِم الرَّجلُ الصَّالحُ ، بَنَوا على قَبْرهِ مَسْجداً ، ثُمَّ صوَّرُوا فِيْهِ تِلكَ الصُّورَ أولئك شِرارُ الخَلقِ عند اللَّهِ يَوْمَ القِيَامةِ " وذكر الثعلبيُّ عن ابن عباس قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين ، من قوم نوح فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً ، ويسمونها بأسمائهم وهذا بعيدٌ ، لأن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - هو الآمرُ لهم بتركها وذلك يدل على أنَّهم كانوا قبل نوحٍ ، حتى أرسلَ نوحٌ إليهم . وروي عن ابن عباس : أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - كان يحرس جسد آدمَ - عليه الصلاة والسلام - على جبل الهند فيمنع الكافرينَ أن يطوفوا بقبره ، فقال لهم الشيطانُ : إن هؤلاء ، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم ، وإنما هو جسد ، وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به ، فصوَّر لهم هذه الأصنام الخمسة ، وحملهم على عبادتها ، فلمَّا كان أيام الطوفانِ دفنها الطين ، والتراب ، والماء ، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطانُ لمشركي العرب وكانت للعربِ أصنام أخر ، فاللات كانت لقديد ، وأساف ونائلة وهبل ، لأهل مكة . قال الماورديُّ : فما " ود " فهو أول صنم معبود سمي " ودّاً " لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومةِ الجندلِ ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل ؛ وفيه يقول شاعرهم : [ البسيط ] @ 4888 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لا يحلُّ لَنَا لَهْوُ النِّساءِ وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا @@ وأما " سُواع " فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم . وقال ابن الخطيب : " وسُواع لهمدَان " . وأما " يَغُوثُ " فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة . وقال المهدويُّ : لمراد ثم لغطفان . وقال الثعلبيُّ : واتخذت - أعلى وأنعم - وهما من طيىء ، وأهل جرش من مذحج يغوث ، فذهبوا به إلى مراد ، فعبدوه زماناً ، ثُمَّ بَنِي ناجية ، أرادوا نزعه من " أنعم " ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة . ؟ وقال أبو عثمان المهدويُّ : رأيت " يغُوث " وكان من رصاص ، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه ولا يهيجونه ، حتى يبرك بنفسه ، فإذا برك نزلوا ، وقالوا : قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء ، وينزلون حوله . وأما " يعوق " فكان لهمدان ببلخ ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء ، ذكره الماورديُّ . وقال الثعلبيُّ : وأما " يعوق " فكان لكهلان من سبأ ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر ، حتى صار في الهمداني . وفيه يقول غط الهمداني : [ الوافر ] @ 4889 - يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنيَا ويَبْرِي ولا يَبْرِي يعُوقُ ولا يَرِيشُ @@ وقيل : كان " يَعُوق " لمراد ؛ وأما " نَسْر " ، فكان لذي الكلاع من حمير ، في قول قتادة ومقاتل . وقال الواقدي : كان " ودّ " على صورة رجلٍ ، و " سُواع " على صورة امرأة ، و " يَغُوث " على صورة أسد ، و " يعوق " على سورة فرس ، و " نَسْر " على سورة نسر من الطير ، والله أعلم . قوله : { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } ، أي : الرؤساء فهو عطف على قوله : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } ، أو الأصنام ، وجمعهم جمع العقلاءِ ، معاملة لهم معاملة العقلاء لقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] . قوله : { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ } . عطف على قوله : { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } [ على حكاية كلام نوح بعد " قال " وبعد الواو النائبة عنه ، أي قال : إنهم عصوني ] ، وقال : " لا تَزِد " ، أي : قال هذين القولين ، فهما في محل نصب ، قاله الزمخشريُّ . قال : " كقولك : قال زيد نودي للصلاة ، وصلِّ في المسجد يحكي قوليه ، معطوفاً أحدهما على صاحبه " . وقال أبو حيَّان : " ولا تَزِد " معطوف على " قَدْ أضلُّوا " لأنها محكية بـ " قَالَ " مضمرة ، ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة ، بل تعطف خبراً على طلب ، وبالعكس خلافاً لمن اشترط ذلك . فصل في معنى " إلا ضلالاً " معنى قوله : { إِلاَّ ضَلاَلاً } . قال ابن بحر : أي إلا عذاباً ، لقوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] . وقيل : إلاَّ خسراناً . وقيل : إلاَّ فتنة بالمال . قوله : { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ } . " مَا " مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد ، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة ، وجعل " خَطِيئَاتهِم " بدلاً وفيه تعسف . وتقدم الخلاف في قراءة " خَطِيئاتِهِم " في " الأعراف " . وقرأ أبو رجاء : " خطيّاتهم " جمع سلامة إلاَّ أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة . وقال أبو عمرو : قوم كفروا ألف سنةٍ فلم يكن لهم إلاَّ خطيَّات ، يريد أنَّ الخطايا أكثر من الخطيَّات . وقال قوم : خطايا وخطيات ، جمعان مستعملان في القلة ، والكثرة ، واستدلوا بقول الله تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 27 ] . وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 4890 - لَنَا الجَفنَاتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى وأسْيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَمَا @@ وقرأ الجحدريُّ وتروى عن أبيِّ " خطيئتهم " بالإفراد ، والهمز . وقرأ عبد الله " مِنْ خَطيئاتِهم مَا أغْرِقُوا " ، فجعل " ما " المزيدة بين الفعلِ وما يتعلق به . و " من " للسببية تتعلق بـ " أغْرقُوا " . وقال ابنُ عطية : لابتداء الغايةِ ، وليس بواضح . وقرأ العامةُ : " أغرقوا " من " أغرق " . وزيد بن علي : " غُرِّقُوا " بالتشديد . وكلاهما للنقل ، تقول : " أغرقت زيداً في الماء ، وغرَّقته به " . فصل في صحة " عذاب القبر " قال ابن الخطيب : دل قوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق ، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلاَّ بطلت دلالة هذه الفاء ، وأيضاً فقوله " فأدْخِلُوا " يدل على الإخبار عن الماضي ، وهذا إنَّما يصدق لو وقع ذلك ، وقال مقاتل ، والكلبيُّ : معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً ، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ؛ لصدق وقوع وعده كقوله : { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ الأعراف : 44 ] . قال ابن الخطيب : وهذا ترك للظاهر ، من غير دليل ، فإن قيل : إنما تركنا الظاهر لدليل ، وهو أن من مات في الماء ، فإنا نشاهده هناك ، فكيف يمكن أن يقال : إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً ؟ فالجواب : إن هذا الإشكال ، إنَّما جاء لاعتقاد أنَّ الإنسان هو مجموعُ هذا الهيكل ، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره ، مع أنَّه كان صغير الجثَّة في أول عمره ، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان ، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل ، فهذا الإنسانُ عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باقٍ ، من أول عمره إلى الآن ، فلمَ لا يجوز أن يقال : نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب . ونقل القرطبيُّ عن القشيري أنه قال : هذه الآية تدل على عذاب القبرِ ، ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ، كقوله تعالى : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] . وقيل : أشار إلى ما في الخبر من قوله : " البحرُ نارٌ في نارِ " . وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : { أَغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، قال : يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة ، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب . ذكره الثعلبي . وأنشد ابن الأنباري : [ البسيط ] @ 4891 - الخَلْقُ مُجتمِعٌ طَوْراً ومُفْتَرِقٌ والحَادثَاتُ فُنونٌ ذاتُ أطوَارِ لا تَعْجَبنَّ لأضْدادٍ قَد اجْتمَعَتْ فاللَّهُ يَجْمَعُ بينَ المَاءِ والنَّارِ @@ قال المعربون : " فأدخلُوا " يجوز أن يكون من التعببير عن المستقبل بالماضي ، لتحقق وقوعه كقوله : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] ، وأن يكون على بابه ، والمراد عرضهم على النَّار في قبورهم كقوله في آل فرعون : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] . قوله : { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } ، أي : من يدفع عنهم العذاب ، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفاتِ ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] . { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } . قال الزمخشريُّ : " ديَّاراً " من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار وديور ، كقيَّام وقيُّوم ، وهو " فَيْعَال " من الدارة أصله : " ديْوَار " ففعل به ما فعل بأصل " سيِّد وميِّت " ولو كان " فَعَّالاً " لكان " دوَّاراً " انتهى . يعني أنه كان ينبغي أن تصح واوهُ ولا تقلب ياء ، وهذا نظير ما تقدم له من البحث في " مُتَحيِّز " وأن أصله : " مُتَحَيْوز " لا " مُتَفعِّل " إذ كان يلزم أن يكون " متحوِّزاً " لأنه من " الحَوْز " ويقال فيه أيضاً : " دَوَّار " نحو " قيَّام وقوَّام " . وقال مكيٌّ : وأصله " ديْوَار " ثم أدغموا الواو في الياء مثل " ميِّت " أصله " ميْوِت " ثم أدغموا الثاني في الأول ، ويجوز أن يكون أبدلوا من الواو ياء ، ثم أدغموا الياء الأولى في الثانية . قال شهاب الدين : قوله أدغموا الثاني في الأول ، هذا لا يجوز ؛ إذ القاعدة المستقرة في المتقاربين قلب الأول لا الثاني ، ولا يجوز العكسُ إلا شذوذاً أو لضرورة صناعية ، أما الشذوذ فكقوله : { واذَّكَرَ } [ يوسف : 45 ] بالذال المعجمة ، و { فهل من مُذَّكر } [ القمر : 15 ] بالذال المعجمة أيضاً وأما الضرورة الصناعية فنحو : امدح هذا ، لا تقلب الهاء حاء ، لئلا يدغم الأقوى في الأضعف وهذا يعرفه من عانى التصريف ، والديار : نازل الدار ، يقال : ما بالدار ديار ، وقيل : الديار صاحب الدار . وقال البغويُّ : " الدَّيارُ يعني أحداً يدور في الأرض ، فيذهب ويجيء " فعَّال " من الدوران " . فصل في دعاء نوح على قومه لما أيس نوح - عليه الصلاة والسلام - من أتباعهم إياه دعا عليهم . قالت قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكتابِ هَازِم الأحزابِ ، اهْزمهُم وزلْزلهُمْ " . وقيل : سبب دعائه أنَّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفهِ فمرَّ بنوحٍ ، فقال : احذر هذا فإنه يضلك ، فقال : يا أبتِ ، أنزلني فأنزله فرماه فشَجَّه ، فحينئذ غضب ودعا عليهم . وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنَّما قال هذا ، حين أخرج اللَّهُ كلَّ مؤمنٍ من أصلابهم وأرحام نسائهم ، وأعقم أرحام أمهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، وقيل : بسبعين سنة ، فأخبر اللَّهُ نوحاً أنهم لا يؤمنون ، ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، فحنيئذ دعا عليهم نوحٌ ، فأجاب اللَّهُ دعاءَ فأهلكهم كلَّهم ، ولم يكن فيهم صبي وقت العذابِ ، لأن الله تعالى قال : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ } [ الفرقان : 37 ] . ولم يوجد التكذيب من الأطفال . فصل في بيان أنه لا يدعى على كافر معين قال ابن العربي : دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألّبَ عليهم ، وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة فأمَّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء على عُتبةَ وشَيبَةَ وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم . والله أعلم . قوله : { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } . العامة : على فتح الدال على أنه تثنية والد ؛ يريد : أبويه . واسم أبيه : لملك بن متوشلخ ، واسمه أمه : شمخى بنت أنوش ، وكانا مؤمنين . وحكى الماورديُّ : اسم أمه : منجل . وقرأ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - ويحيى بن يعمر والنخعيُّ : ولولدي ، تثنية ولد يعني : ابنيه ساماً وحاماً . وقرأ ابن جبير والجحدري : " ولوالدِي " - بكسر الدال - يعني أباه . فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده ، وخصَّه بالذَّكر لأنه أشرف من الأم ، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى زمن من ولده . قال الكلبيُّ : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن . وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما الصلاة والسلام . قوله { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } . قال ابن عباس رضي الله عنه : أي : مسجدي ومصلاي ، " مُؤمِناً " ، أي : مُصدِّقاً بالله ، فـ " مُؤمِناً " حال ، وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن بهم ، فجعل المسجد سبباً للدعاء بالمغفرة . وقيل : المراد بقوله " بيتي " ، أي : سفينتي . وقال ابن عباس : أي : دخل في ديني . فإن قيل : فعلى هذا يصير قوله : " مُؤمِناً " مكرراً . فالجواب : إنَّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مُؤمناً ، وقد لا يكون مؤمناً ، فالمعنى : ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلبِ . قوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } ، خصَّ نفسه أولاً بالذكر والدعاء ، ثم المتصلين به لأنَّهم أولى ، وأحق بدعائه ، ثم عمَّ المؤمنين ، والمؤمناتِ إلى يوم القيامة ، قاله الضحاك . وقال الكلبيُّ : من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم . وقيل : من قومه ، والأول أظهر ، ثم ختم الكلام مرةً أخرى بالدعاءِ على الكافرين [ فقال : { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } ، أي : هلاكاً ، ودماراً ، والمراد بالظالمين : الكافرين ] فهي عامة في كل كافر ومشرك . وقيل : أراد مشركي قومه ، و " تَبَاراً " مفعول ثاني ، والاستثناءُ مفرغ ، والتبار : كل شيء أهلك فقد تبر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [ الأعراف : 139 ] . وقيل : التَّبارُ الخُسران . قال المفسّرون : فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم . روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورةَ نُوحٍ ، كَانَ مَنَ المُؤمِنْينَ الَّذينَ تُدركُهمْ دَعْوَة نُوحٍ عليْهِ السَّلامُ " .