Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 72, Ayat: 20-24)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِنَّمَآ أَدْعُواْ } ، قرأ عاصم وحمزةُ : بلفظ الأمر التفاتاً ، أي : قل يا محمد ، والباقون : " قال " إخباراً عن " عبد الله " وهو محمد صلى الله عليه وسلم . قال الجحدريُّ : وهي في المصحف كذلك . وقد تقدم لذلك نظائر في " قل سبحان ربي " آخر " الإسراء " ، وكذا في أول " الأنبياء " وآخرها ، وآخر " المؤمنون " . قال المفسرون : سبب نزولِ هذه الآية أنَّ كفار قريش قالوا له : إنَّك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا ونحن نجيرك ، فنزلت . قوله : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدًا } . قرأ الأعرج : " رُشُداً " - بضمتين - . وجعل الضر عبارة عن الغي ؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته ، فأقام المسبب مقام السبب ، والأصل : لا أملك غياً ، ولا رشداً ، فذكر الأهم . وقيل : بل في الكلام حذف ، والأصل : لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه . فصل في معنى الآية المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق لكم خيراً . وقيل : { لا أملك لكم ضرّاً } ، أي : كفراً " ولا رَشداً " أي : هُدَى ، أي : إنما عليَّ التبليغ . وقيل : الضَّرُّ : العذاب ، والرشدُ : النعيم ، وهو الأول بعينه . وقيل : الضرُّ : الموت ، والرشد الحياة . قوله : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } ، أي : لن يدفع عني عذابه أحدٌ إن استحفظته وذلك أنهم قالوا : اترك ما تدعو إليه ، ونحن نجيرُك . وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : انطلقتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجُون فخطَّ علينا خطّاً ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وِرْدان : أنا أزجلهم عنك ، فقال : { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } ، ذكره الماورديُّ رحمة الله عليه ، قال : ويحتمل معنيين : أحدهما : لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد . الثاني : لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحدٌ ، { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي : ملجأ الجأ إليه ، قاله قتادة ، وعنه نصيراً ومولى . وقال السدي : حِرْزاً ، وقال الكلبيُّ : مدخلاً في الأرض مثل السِّرب ، وقيل : مذهباً ولا مسلكاً ، حكاه ابن شجرة ؛ قال الشاعر : [ البسيط ] @ 4914 - يَا لَهْفَ نَفْسِي ولَهْفِي غَيْرُ مُجْزيَةٍ عَنِّي ومَا مِنْ قضَاءِ اللَّهِ مُلتَحَدُ @@ و " مُلتَحَداً " مفعول " أحد " لأنها بمعنى " أصيب " قوله { إِلاَّ بَلاَغاً } ، فيه وجوه : أحدها : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن إن بلغت عن الله رحمتي ، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } . لأنه لا يكون من دون الله - عز وجل - وبعنايته وتوفيقه . والثاني : أنَّه متصل ، وتأويله ، أن الإجارة مستعارة للبلاغ ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى ، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني ، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين : أحدهما : أن يكون بدلاً من " مُلتحَداً " لأن الكلام غير موجب ، وهذا اختيار الزَّجاجِ . والثاني : أنه منصوب على الاستثناء . الثالث : أنه مستثنى منقطع من قوله { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً } . قال قتادة : أي : لا أملك إلا بلاغاً إليكم ، وقرره الزمخشري ، فقال : أي : لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله ، وقيل : { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ } جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاسطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع . الرابع : أنَّ الكلام ليس استثناء ، بل شرطاً ، والأصل : " إن لا " فـ " إنْ " شرطية وفعلها محذوفٌ ، لدلالة مصدره ، والكلام الأول عليه ، و " لا " نافية ، والتقدير : " إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ " . وجعلوا هذا كقول الآخر : [ الوافر ] @ 4915 - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ @@ أي : وإن لا تطلقها يعلُ ، فحذف الشرط ونفى الجواب ، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين : أحدهما : أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً . والثاني : أنَّه حذف الجزءان هنا ، أعني الشرط والجزاء . فيكون كقول الشاعر : [ الرجز ] @ 4916 - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وإنْ كَانَ فَقيراً مُعدماً ، قالتْ : وإنْ @@ أي قالت : وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته . وقد يقال : إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه ، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه . وقال الحسنُ : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ } . فإن فيه النجاة والأمان . قوله { مِّنَ ٱللَّهِ } . فيه وجهان : أحدهما : أن " مِنْ " بمعنى " عَنْ " لأن " بلغ " يتعدى بها ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ألاَ بلَّغُوا عنِّي " . والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " بلاغ " . قال الزمخشري : " مِنْ " ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة " مِنْ " في قوله تعالى { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] ، بمعنى : " بلاغاً كائناً من اللَّهِ " . قوله { وَرِسَالاَتِهِ } . فيه وجهان : أحدهما : أنها منصوبة نسقاً على " بلاغاً " ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره . والثاني : أنها مجرورة نسقاً على الجلالة ، أي : إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته ، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر ، ويجوز في جعله " مِنْ " بمعنى " عَنْ " ، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم . قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، في التوحيد ، والعبادة { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } ، العامة : على كسر " إن " جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء . قال الواحديُّ : " إن " مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء . ولذلك حمل سيبويه قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [ البقرة : 126 ] { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره : فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم ، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم . قال ابن خالويه : " سمعت ابن مجاهد يقول : لم يقرأ به أحدٌ ، وهو لحنٌ ، لأنه بعد فاء الشرط ، قال : سمعتُ ابن الأنباري يقول : هو صواب ، ومعناه : فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم " . قال شهاب الدين : ابن مجاهد ، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها ، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] في " الأنعام " ، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية . قول " خالدينَ " . حالٌ من الهاء في " له " ، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى " مِنْ " فلذلك جمع ؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ ، ثم جمع المعنى . فصل في رد كلام المعتزلة استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصراة يخلدون في النار ؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات ، وأيضاً : فقوله " أبداً " ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ . والجوابُ : أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله ، والرسالة ، ثم قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال ، أو نقول : هذه الصورة لا بد وأن تندرج في العموم ، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم ، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة ، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب ، أو نقول : إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة ، ومعنى ، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب ، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك ، أو نقول : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ } إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر ، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ } متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي . فإن قيل : يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل ، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل . قلنا : يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه . فصل في أن الأمر للوجوب دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ طه : 93 ] ، { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ } [ التحريم : 6 ] ، { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] . والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } . قوله : { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تعلق حتى ، وجعل ما بعده غاية له ؟ . قلت : بقوله : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ، ويستقلون عددهم { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من بوم بدر ، وإظهار الله عليهم ، أو من يوم القيامة { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذٍ { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً } . قال : ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار ، واستقلالهم لعددهم ، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه ، حتى إذا رأوا ما يوعدون ، قال المشركون : متى هذا الوعد ؟ إنكاراً له . فقال : " قُلْ " : إنه كائن لا ريب فيه . قال أبو حيان : قوله : بم تعلق ، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها حرف ابتداءٍ ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج ، وابن درستويه ، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح ، وأما تقديره : أنها تتعلق بقوله : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف ، فقال : تقديره : دعهم حتَّى إذا رأوا . وقال التبريزي : جاز أن يكون غاية لمحذوف ، ولم يبيِّن ما هو . وقال أبو حيان : " والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار ، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فيسعلمون " . قوله : { مَنْ أَضْعَفُ } . يجوز في " مَنْ " أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء ، و " أضْعَفُ " خبره ، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم قبلها . وأن تكون موصولة ، و " أضعف " خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو أضعف ، والجملة صلة وعائدٌ وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز ، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان . قال القرطبي : " حتى " هنا مبتدأ ، أي " حتى أذا رأوا ما يوعدون " من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا ، وهو القتل يوم بدر { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً } . و " مَنْ " يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم ، بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي أهم أم المؤمنون ؟ و " أقَلُّ عَداداً " معطوف .