Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 20-20)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ } . العامة : على ضم " اللام " من " ثلثي " وهو الأصل ، كالربع والسدس . وقرأ هشام : بإسكانها تخفيفاً . قوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } ، قرأ الكوفيون وابن كثير : بنصبهما ، والباقون ، بجرهما . وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى . فالنصبُ : نسق على " أدْنَى " ؛ لأنه بمعنى وقت أدنى ، أي : أقرب ، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان ، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم ، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل ، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلاً ، لأن الزمان لم يقم فيه ، فيكون الثلث ، وشيئاً من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : " إلاَّ قَلِيلاً " . وأما قوله : " ونصفهُ " فهو مطابق لقوله : " ولا نِصْفهُ " ، وأما قوله : " وثُلثهُ " فإنَّ قوله : { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } قد ينتهى النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل ، وأما قوله : { أَو زِدْ عَلَيْهِ } فإنَّه إذا زاد على النصف قليلاً كان الوقت أقل من الثلثين . فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل ، ويكون قوله تعالى : { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } شرطاً لمبهم ما دل عليه قوله : { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } ، وعلى قراءة النصب : فسر الحسن " تحصُوهُ " بمعنى تطيقوه ، وأما قراءة الجر : فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم ، وقد أوضح هذا كله الزمخشري ، فقال : وقرىء : " نصفه وثلثه " بالنصب ، على أنك تقوم أقل من الثلثين ، وتقوم النصف والثلث ، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص وهو الثلث ، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين . وقرىء بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث ، وهو مطابق للتخيير بين النصف ، وهو أدنى من الثلثين ، والثلث ، وهو أدنى من النصف ، والربع وهو أدنى من الثلث ، وهو الوجه الأخير ، انتهى . يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات . وقال أبو عبد الله الفارسي : وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة ، وثلثه تارة ، وأقل من النصف ، والثلث تارة ، فيصح المعنى . فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة قال القرطبي : هذه الآية تفسير لقوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } أو زد عليه - كما تقدم - وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم ، ومعنى قوله تعالى : " تَقُومُ " أي : تصلي ، و " أدْنَى " ، أي : أقل . وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام : " ثلثي " بإسكان اللام ، و " نصفه وثلثه " بالخفض : قراءة العامة - كما تقدم - ، عطفاً على " ثلثي " والمعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ، ومن نصفه ، وثلثه ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه ، وهو لا تحصونه ؟ ! وأما قراءة النصف عطفاً على " أدنى " ، والتقدير : تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه . قال الفراءُ : وهو أشبه بالصوابِ ؛ لأنه قال : أقلّ من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة . قال القشيريُّ : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه ، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى قريب من الثلث ، ويحتمل أنَّهُم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم ، وقيل : إنَّما فرض عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع . قال القرطبيُّ : " وهَذَا تَحكُّمٌ " . قوله : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } . رفع بالعطف على الضمير في " تقُومُ " ، وجوز ذلك الفصل بالظرف ، وما عطف عليه . قوله : { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ } . قال الزمخشريُّ : " تقديم اسم الله - عز وجل - مبتدأ مبنياً عليه " يقدر " هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير " . ونازعه أبو حيَّان في ذلك ، وقال : " لو قيل : زيدٌ يحفظ القرآن ، لم يدل ذلك على اختصاصه " . وقيل : الاختصاص في الآية مفهوم من السياق ، والمعنى : ليعلم مقادير الليل ، والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري ، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ . قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، " أنْ لَنْ " و " أنْ سَيكُون " كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي ، وحرف التنفيس . والمعنى : علم أن لن تطيقُوا معرفة حقائق ذلك ، والقيام به ، أي : أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته . وقيل : المعنى : لن تطيقوا قيام الليل ، والأصح الأول ، لأن قيام الليل ما فرض كله قط . قال مقاتل وغيره : لما نزل { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [ المزمل : 2 - 4 ] شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل ، من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء ، وانتفخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فخفف الله عليهم ، وقال : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، أي : علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً ، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم . قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، أي : فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به . وقيل : " فتَابَ علَيْكمْ " من فرض القيام أو عن عجزكم ، وأصل التوبة الرجوع - كما تقدم - فالمعنى : رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى إيسار ، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري ، فخفف عنهم ذلك التحري . وقيل : معنى قوله : { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } ، أي : يخلقهما مقدرين ، كقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] . قال ابنُ العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف . قوله : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } . قيل : المراد نفس القراءةِ ، أي : فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم . قال السديُّ : مائة آية . وقال الحسنُ : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن . وقال كعبٌ : من قرأ في ليلةٍ مائة آيةٍ كتب من القانتين . وقال سعيد بن جبير : خمسون آية . قال القرطبي : قول كعب أصح ، " لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ قَامَ بِعشْرِ آيَاتٍ لمْ يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ ، ومَنْ قَامَ بِمائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتيْنَ ، ومَنْ قَامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقنطرينَ " خرجه أبو داود الطيالسي . وروى أنس بن مالك قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ قَرَأ خَمْسينَ آيةً فِي يَومٍ أوْ فِي ليْلةٍ لَمْ يُكتَبْ مَنَ الغَافليْنَ ، ومَنْ قَرَأ مِائةَ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتينَ ، ومَنْ قَرَأ مائَتَي آيةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ القرآنُ إلى يَوْمِ القيامة ، ومن قرأ خَمْسمائةِ آيةٍ كُتِبَ لَهُ قِنطارٌ مِنَ الأجْرِ " . فقوله : " مَنَ المقُنَطرِيْنَ " ، أي : أعطي قنطاراً من الأجر . وجاء في الحديث : " أن القنطار : ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض " . وقال أبو عبيدة : القناطيرُ ، واحدها قنطار ، ولا تجد العرب تعرف وزنه ، ولا واحد للقنطار من لفظه . وقال ثعلب : المعمول عليه عند العربِ أنه أربعة آلافِ دينارٍ ، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار . وقيل : إن القنطار : ملء جلد ثور ذهباً . وقيل : ثمانون ألفاً . وقيل : هي جملة كثيرة مجهولة من المال ، نقله ابن الأثير . وقيل : المعنى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } ، أي : فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآناً ، قال تعالى : { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] ، أي : صلاة الفجر . قال ابن العربي : " والأول أصح ، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول " . قال القرطبيُّ : " الأول أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيءِ ببعض ما هو من أعماله " . فصل في بيان أن الآية ناسخة قال بعض العلماءِ : قوله تعالى { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف ، والزيادة عليه ، ثم يحتمل قول الله - عز وجل - { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } معنيين : أحدهما : أن يكون فرضاً ثانياً لأنه أزيل به فرض غيره . والآخر : أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره ، وذلك بقول الله - تعالى - : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، فاحتمل قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] أي : تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه . قال الشافعيُّ : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس . فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة قال القشيريُّ : والمشهورُ أنَّ نسخ قيامِ الليل كان في حق الأمةِ ، وبقيت الفريضةُ في حق النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنما النسخ : التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى : { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [ البقرة : 196 ] ، فالهدي لا بد منه ، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي ، وعلىهذا فقال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ، وهو مذهب الحسنِ . قال الشافعيُّ : بل نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلاً ، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته ، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً ، فقوله تعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، معناه : اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم . وقال قوم : إنَّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه ، وقوله : { نَافِلَةً لَكَ } محمول على حقيقة النفل ، ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ } [ الإسراء : 78 ] الآية ، وقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } [ الروم : 17 ] الآية ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع . وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة كما أن فرضية الصلاة ، وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلْلَّيْلَ } [ المزمل : 1 - 2 ] فهي عامة له ولغيره . وقد قيل : إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرةِ ، ونسخت بالمدينة لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ، وإنما فرض القتال بالمدينة ، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] . وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نسخ قول الله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } ، وجوب قيام الليل فصل في علة تخفيف قيام الليل قوله : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } بيَّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليه قيام الليل ، ويشق عليه أن تفوته الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفَّف الله عن الكل لأجل هؤلاء . وقال ابن الخطيب : لمَّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء ، يعني المريض ، والمسافر ، والمجاهد ، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة ، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } [ المزمل : 7 ] فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عليه الصلاة والسلام . و " أن " في قوله : " أنْ سيَكونُ " مخففة من الثقيلة ، أي : علم أنه سيكون . قوله : " وآخَرُونَ " عطف على " مَرْضَى " ، أي : علم أن سيوجد منكم قوم مرضى ، وقوم آخرون مسافرون ، فـ " يَضْربُونَ " نعت لـ " آخَرُونَ " وكذلك " يَبْتَغُونَ " ، ويجوز أن يكون " يبتغون " حالاً من فاعل " يَضْرِبُونَ " ، و " آخَرُونَ " عطف على " آخَرُونَ " و " يُقَاتلُونَ " صفته . فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين ، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه ، وعياله ، والإحسان ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله . قال - عليه الصلاة والسلام - : " " مَا مِنْ جَالبٍ يَجلبُ طَعاماً مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ ، فيَبيعُهُ بِسْعرٍ يَومِهِ إلاَّ كانتْ مَنزِلتُهُ عنْدَ اللَّهِ تعالى مَنْزلةَ الشُّهداءِ " ثُمَّ قَرَأ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } " . وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } . وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبتي رحْلي ، أبتغي من فضل الله ، ضارباً في الأرض . وقال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله . قوله : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، أي : صلُّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل ، ما تيسَّر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم . وقال عبد الله بن عمرو : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَا عَبْدَ اللَّه ، لا تكُنْ مِثْلَ فُلانِ كَانَ يقُومُ اللَّيْلَ ، فتركَ قِيامَ اللَّيْلِ " ولو كان فرضاً ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم . فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته إذا ثبت أنَّ قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } ، { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة . فقال مالك والشافعيُّ : فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت ، وعنه ثلاث آياتٍ لأنها أقل سورة ، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة . قال الماورديُّ : فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولاً على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد ، وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ، ودلائل التوحيد أن يحفظه ؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب ، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه . وفي قدر الواجب أقوال : الأول : قال الضحاكُ : جميع القرآن ، لأن الله تعالى يسره على عباده . الثاني : قال جويبر : ثلث القرآن . الثالث : قال السديُّ : مائتا آية . الرابع : قال ابن عباسٍ : مائة آية . الخامس : قال أبو خالد الكناني : ثلاث آياتٍ كأقصر سورة . قوله { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } ، يعني الخمس المفروضة ، وهي الخمس لوقتها ، { وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } الواجبة في أموالكم . قاله عكرمة وقتادة ، وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر ، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك ، وقيل : صدقة التطوع . وقيل : كل فعل خير . وقال ابن عباسٍ : طاعة الله الإخلاص . قوله : { وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } . القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيب وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن ، النفقة على الأهل ، وقيل : صلةُ الرَّحمِ ، وقرى الضيف ، وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله . قوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } تقدم بيانه في سورة " البقرة " . قوله : { هُوَ خَيْراً } ، العامة على نصب الخير مفعولاً ثانياً ، و " هُوَ " إما تأكيد للمفعول الأول ، أو فصل . وجوَّز أبو البقاء : أن يكون بدلاً ، وهو غلط ، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال : إياه . وقرأ أبو السمال وابن السميقع : " خير " على أن يكون " هو " مبتدأ ، و " خير " خبره ، والجملة مفعول ثان لـ " تَجِدُوه " . قال أبو زيد : هي لغة تميم ، يرفعون ما بعد الفصل . وأنشد سيبويه : [ الطويل ] @ 4943 - تَحِنُّ إلى لَيْلَى وأنْتَ تَرَكْتَها وكُنْتَ عَليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ @@ والقَوَافِي مرفوعةٌ ، ويروى : " أقدرا " بالنصب . [ وقال الزمخشريُّ : وهو فصل ] ، وجاز ، وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن " أفعل من " أشبه في امتناعه من حرف التعريف ، المعرفة . قال شهاب الدين : " هذا هو المشهورُ ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات " . وقال القرطبي : " ونصب " خيراً ، وأعظم " على المفعول الثاني : لـ " تَجِدُوهُ " و " هُوَ " فصل عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين ، لا محلَّ له من الإعراب ، و " أجْراً " تمييز " . فصل في معنى الآية المعنى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً } من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت . قاله ابن عباس . وقال الزجاجُ : ( خير لكم من متاع الدنيا ) . قوله : { وَأَعْظَمَ أَجْراً } ، قال أبو هريرة : يعني الجنَّة ، ويحتمل أن يكون " أعظم أجْراً " لإعطائه بالحسنة عشراً { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } أي سلوه المغفرة لذنوبكم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما كان عل التوبة رحيم لكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير وقيل : غفور لمن لم يصرّ على الذنوب . وقال مقاتل : غفور لجميع الذنوب لأن قوله " غَفُورٌ " يتناول التائب والمصر ، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده ، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل . وأيضاً : غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجبِ ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح . روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُوْرَةَ يا أيُّهَا المُزَّمِّل رُفِعَ عنهُ العُسْرُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ " والله أعلم .