Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 74, Ayat: 49-56)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } عن القرآن ، أي : فما لأهل " مكة " قد أعرضوا وولَّوا . قال مقاتل : معرضين عن القرآن من وجهين : أحدهما : الجحود والإنكار . والثاني : ترك العمل بما فيه . وقيل : المراد بالتذكرة : العظة بالقرآن ، وغيره من المواعظ . و " مُعرِضيْنَ " حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن " ما " الاستفهامية ، وقد تقدم أن مثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة وقد تقدم بحث حسن . و " عن التذكرة " متعلق به . قال القرطبي : " وفي " اللام " معنى الفعل ، فانتصاب الحال على معنى الفعل " . قال ابن الخطيب : " هو كقولك : ما لك قائماً " . قوله : { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ } ، هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من الضمير في الجار ، وتكون بدلاً من " معرضين " . قاله أبو البقاء . يعني : أنها كالمشتملة عليها ، وأن تكون حالاً من الضمير في " معرضين " فيكون حالاً متداخلة . وقرأ العامة : حُمُر - بضم الميم - ، والأعمش : بإسكانها . وقرأ نافع وابن عامر : " مُسْتَنْفَرَةٌ " - بفتح الفاء - على أنه اسم مفعول ، أي : نفَّرها القنَّاص . والباقون : بالكسر ، بمعنى نافرة . يقال : استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب ، وسخر واستسخر ؛ قال الشاعر : [ الكامل ] . @ 4974 - إمْسِكْ حِماركَ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ فِي إثرِ أحْمرةٍ عَمدْنَ لِغُرَّبِ @@ وقال الزمخشري : " وكأنها تطلب النِّفار في نفوسها ، في جمعها له وحملها عليه " . فأبقى السِّين على بابها من الطلب ، وهو معنى حسنٌ . قال أبو علي الفارسي : " الكسر في " مستنفرة " أولى لقوله : " فرَّت " للتناسب ، لأنه يدل على أنها استنفرت ، ويدل على صحة ذلك ماروى محمد بن سلام قال : سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت : كأنهم حمرٌ ماذا ؟ فقال : مستنفرة طردها قسورة ، فقلت : إنما هي فرَّت من قسورة ، فقال : أفرت ؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفِرة إذاً " انتهى . يعني : أنها مع قوله طرد ، تناسب الفتح ، لأنها اسم مفعول ، فلما أخبر بأن التلاوة " فرّت من قسورة " رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة . والقَسْورة : قيل : الصَّائد ، أي : نفرت وهربت من قسورة ، أي : من الصائد . وقيل : الرُّماة يرمُونها . وقيل : هو اسم جمع لا واحد له . وقال بعض أهل اللغة : إن " القَسْوَرة " : الرامي ، وجمعه : القساورة . ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان : " القسورة " وهم الرماة والصيَّادون ، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة : [ الطويل ] @ 4975 - إذَا مَا هَتفْنَا هَتْفةً في نَديِّنَا أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ @@ وقيل : " القسورة " : الأسد . قاله أبو هريرة ، وابن عباس أيضاً رضي الله عنه . قال ابن عرفة : من القسْرِ بمعنى القهْرِ ، أي : أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع ؛ ومنه قول الشاعر : [ الرجز ] @ 4876 - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ @@ أي : الأسد ، إلا أن ابن عباس أنكره ، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب ، وإنما القسورة : عصبُ الرجال ؛ وأنشد : [ الرجز ] @ 4977 - يَا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره @@ وقيل : القَسْورةُ : ظُلمَة الليل ، قال ابن الأعرابي : وهو قول عكرمة . وعن ابن عباس : ركز الناس ؛ أي حسُّهم وأصواتهم . وعنه أيضاً : { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } أي : من حبال الصيادين ، وعنه أيضاً : القسورة بلسان " الحَبَشَةَ " الأسد ، وخالفه عكرمة فقال : الأسد بلسان " الحبشة " : عَنْبَسة ، وبلسان " الحبشة " : الرُّماة ، وبلسان " فارس " : شير ، وبلسان " النَّبْط " : أريا . وقيل : هو أوَّل سواد الليل ، ولا يقال لآخر سواد الليل : قسورة . فصل في المراد بالحمر المستنفرة قال ابن عباس : كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم حمر مستنفرة ، قال ابن عباس : أراد الحمر الوحشية . قال الزمخشري : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش ، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء . قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } ، أي : يُعطى كُتُباً مفتوحةً ، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد ، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : " من رب العالمين " ، إلى فلان ابن فلان ، ونُؤمر فيه باتباعك ، ونظيره : { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] . وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار . وقال مطرٌ الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل . وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك . قال ابن الخطيب : وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل . وقيل المعنى : أن يذكر بذكرٍ جميلٍ ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً ، فقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك ؟ ! قوله : " مُنشَّرة " . العامة : على التشديد ، من " نشَّرهُ " بالتضعيف . وابن جبير : " مُنْشرَةٌ " بالتخفيف ، و " نشَّر ، وأنشر " بمنزلة " نزّل وأنزَل " : والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من " صحُف " . وابن جبير : على تسكينها . قال أبو حيان : " والمحفوظ في الصحيفة والثوب : " نشَر " مخففاً ثلاثياً ، وهذا مردود بالقرآن المتواتر " . وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير : " من أنشرت ، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان ، أو بمعنى منشورة ، مثل : أحمدت الرجل ، أو بمعنى : أنشر الله الميِّت أي : أحياه : فكأنه أحياها فيها بذكره " . قوله : { كَلاَّ } ، أي : ليس يكون ذلك . وقيل : حقّاً ، والأول أجود ، لأنه ردٌّ لقولهم . ثم قال : { بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } أي : لا أعطيهم ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمُّل اغتراراً بالدنيا ؛ فإنه لمَّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحَّة النبوةِ فطلبُ الزيادة يكون عبثاً . قوله : { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } . أي : حقّاً أنَّ القرآن عظة . وقيل : هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة { إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } بليغة { فمن شاء ذكره } أي : اتعظ به ، وجعله نصب عينه . والضمير في " إنه ، وذكره " للتذكرة في قوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } وإنما ذُكِّرا ؛ لأنهما في معنى الذِّكر والقرآن . وقيل : الضمير في " إنه " للقرآن أو الوعيد . قوله : { وَمَا يَذْكُرُونَ } . قرأ نافع : بالخطاب ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون : بالغيبة حملاً على ما تقدم من قوله : " كُل امرىءٍ " ولم يُؤثِرُوا الالتفات . وقراءة الخطاب ، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم . وأما قراءة الغيبة فهي اختبار أبي عبيد لقوله تعالى : { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ } واتفقواعلى تخفيفها . قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } ، بمعنى إلاَّ وقت مشيئته ، لا أن ينوب عن الزمان ، بل على حذف مضاف . قالت المعتزلة : بل معناه : إلا أن يقدرهم الله - تعالى - على الذِّكر ويُهمَّهم إليه . وأجيبوا : بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقاً ، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة ، فيلزم أنه متى حصلت المشيئةُ أن يحصلَ الذِّكرُ مطلقاً ، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصُلِ المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريَّة ترك للظاهر . قوله تعالى : { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } ، أي : حقيقٌ بأن يتَّقيه عبادُه ويخَافُوا عِقابه فيُؤمِنوا ويُطِيعُوا ، وحقيقٌ بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا . روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى : { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } قال : قال الله تعالى : " أنَّا أهْلُ أنْ أُتَّقَى فَمَن اتَّقَى فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إلهاً فَأنَا أهْل أنْ أغْفِرَ لَهُ " . وقال بعض المفسرين : أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر ، وأهل المغفرة أيضاً للذنوب الصغائر . روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } أعْطِيَ من الأجْرِ عَشْرَ حَسناتٍ بعَددِ من صَدَّقَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّبه بـ " مكة " " والله أعلم .