Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-3)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } في " هل " هذه وجهان : أحدهما : أنها على بابها من الاستفهام المحض ، أي : هو ممن يسال لغرابته أأتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكورة . كذا قاله أبو حيان . وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام : والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير , وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث فلا بد أن يقول : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه ، فيقال له : من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه ، كيف يمتنع عليه بعثه ، وإحياؤه بعد موته ، وهو معنى قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] أي : فهلا تذكرون ، فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن قادراً على إعادته بعد موته وعدمه انتهى . فقد جعلها لاستفهام التقرير لا للاستفهام المحض ، وهذا هو الذي يجب أن يكون ؛ لأن الاستفهام لا يرد من الباري - تعالى - على هذا النحو وما أشبهه . والثاني : قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة وحكي أيضاً عن سيبويه : أنها بمعنى " قد " قال الفرَّاء : " هل " تكون جحداً وتكون خبراً ، فهذا من الخبر ؛ لأنك تقول : هل أعطيتك ؟ تقرره : بأنك أعطيته ، والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا ؟ . وقال الزمخشري : " هل " بمعنى " قد " في الاستفهام خاصة ، والأصل : " أهل " ؛ بدليل قوله : [ البسيط ] @ 5019 - سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِشدَّتِنَا أهَلْ رَأوْنَا بوَادِي القِفِّ ذِي الأكَمِ ؟ @@ فالمعنى : أقد أتى ، على التقرير والتقريب جميعاً ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب " حين من الدهر لم يكن " فيه { شَيْئاً مَّذْكُوراً } أي : شيئاً منسيّاً غير مذكور انتهى . فقوله " على التقرير " يعني المفهوم من الاستفهام ، وهو الذي فهمه مكي من نفس " هل " لا تكون بمعنى " قد " إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم ، أو تقريراً كالآية الكريمة . فلو قلت : هل جاء زيد ، يعني : قد قام ، من غير استفهام لم يجز . وغيره قد جعلها بمعنى " قد " من غير هذا القَيْدِ . وبعضهم لا يجيز ذلك ألبتة ويتأول البيت المتقدم على أنه مما جمع فيه بين حرفي معنى للتأكيد ، وحسن ذلك اختلاف لفظهما ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 5020 - فأصْبَحْـنَ لا يَسْألنَنِـي عَـنْ بِمَـا بِـهِ @@ فالباء بمعنى " عن " وهي مؤكدة لها ، وإذا كانوا قد أكدوا مع اتفاق اللفظ ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 5021 - فَـلاَ - والـلَّـهِ - لا يُلْفَـى لِمَـا بِـي ولا لِلمَـا بِهِـمْ أبَـداً دَوَاءُ @@ فلأن يؤكد مع اختلافه أحرى ، ولم يذكر الزمخشري غير كونها بمعنى " قد " ، وبقي على الزمخشري قيد آخر ، وهو أن يقول : في الجمل الفعلية ، لأنه متى دخلت " هل " على جملة اسمية استحال كونها بمعنى " قد " لأن " قد " مختصة بالأفعال . قال شهاب الدين : وعندي أن هذا لا يرد لأنه تقرر أن " قد " لا تباشر الأسماء . فصل في المراد بالإنسان المذكور في الآية قال قتادة والثوري وعكرمة والشعبي : إن المراد بالإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - وهو مروي عن ابن عباس . وقيل : المراد بالإنسان : بنو آدم لقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } . فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا فيكون نظم الآية أحسن . وقوله : { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } قال ابن عباس في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة ، ثم نفخ فيه الروح . وحكى الماوردي عن ابن عباس - رضي الله عنه - : أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره . وقال الحسن : خلق الله تبارك وتعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البر والبحر في الأيام الست التي خلق الله - تعالى - فيها السماوات والأرض ، وآخر ما خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - فهو كقوله تعالى : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } . فإن قيل : إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً ، والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً { حينٌ من الدَّهْرِ } مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً . فالجواب : أن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ، ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ، ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان ، ومن قال : إن الإنسان هوالنَّفس الناطقة ، وأنها موجودة قبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل ، واعلم أنَّ الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث ، وإذا كان كذلك فلا بد من محدث قادر . قوله : " لم يكن " في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان , أي هل أتى عليه حين في هذه الحال . والثاني : أنها في موضع رفع نعتاً لـ " حين " بعد نعت ، وعلى هذا فالعائد محذوف ، تقديره : حين لم يكن فيه شيئاً مذكوراً . والأول أظهر لفظاً ومعنى . فصل في تفسير الآية روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } : لا في السماء ولا في الأرض . وقيل : كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يعرف ولا يذكر ، ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً . قاله الفراء وقطرب وثعلب . وقال يحيى بن سلام : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق حيواناً بعده ، ومن قال : إنَّ المراد من الإنسان الجنس من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام - فالمراد بالحين تسعة أشهر مدة الحمل في بطن أمه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } إذ كان مضغة وعلقة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له . وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما قرأ هذه الآية : ليتها تمَّت فلا نبتلى ، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى ، أولاده ، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقرأ : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال : ليتها تمّت . قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } . يعني ابن آدم من غير خلاف " من نُطْفَة " أي : من ماء يقطر وهو المنيّ ، وكل ماء قليل في وعاء ، فهو نطفة ؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه : [ الرجز ] @ 5022 - مَا لِـي أرَاكِ تَكْرَهِيـنَ الجَنَّـهْ هَـلْ أنْـتِ إلاَّ نُطفـةٌ فِـي شَنِّـه ؟ @@ وجمعها : نطف ونطاف . قوله : " أمْشَاجٍ " : نعت لـ " نُطْفَةٍ " ووقع الجمع نعتاً لمفرد ؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى : { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } [ الرحمن : 76 ] أو جعل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع . وقال الزمخشري : " نُطْفةٍ أمشاج " كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي الفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ، ويقال : نطفة مشج ؛ قال الشماخ : [ الوافر ] @ 5023 - طَـوتْ أحْشَـاءَ مُرْتِجَـةٍ لوقـتٍ عَلـى مَشـجٍ سُلالتُـهُ مَهِيـنُ @@ ولا يصح في " أمْشَاجٍ " أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما . فقد منع أن يكون " أمشاج " جمع " مشج " بالكسر . قال أبو حيان : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن " أفعالاً " لا يكون مفرداً . قال سيبويه : وليس في الكلام " أفْعَال " إلا أن يكسر عيله اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بـ " أفعال " تأولوه انتهى . قال شهاب الدين : هو لم يجعل " أفعالاً " مفرداً ، إنما قال : يوصف به المفرد ، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة ، وكل قطعة من البرد برداً ، فوصفوهما بالجمع . وقال أبو حيان : " الأمشاج " : الأخلاط ، وأحدها " مَشَج " بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال ، أو مشيج كشريف وأشراف . قاله ابن العربي ؛ وقال رؤبة [ الرجز ] @ 5024 - يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ @@ وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير : [ الوافر ] @ 5025 - كَـأنَّ الرِّيـشَ والفُوقيْـنِ مِنْـهُ خِـلافُ النَّصْـلِ سيـطَ بِـهِ مشيـجُ @@ ويقال : مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط ، فمشيج كـ " خليط " ، وممشوج كـ " مخلوط " انتهى . فجوز أن يكون جمعاً لـ " مشيج " كعدل ، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك . وقال الزمخشري : " ومشجه ومزجه بمعنى ، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ " . وقال القرطبي : ويقال : مشجت هذا بهذا أي : خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلواط وخليط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، وهو دم الحيض ، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها ، فاختلطت النُّطفة بالدم . وقال الفراء : أمشاج : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة . روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : الأمشاج في الحمرة ، والبياض في الحمرة ، وعنه أيضاً قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق ، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة . قال القرطبي : " وقد روي هذا مرفوعاً ؛ ذكره البزار " . وعن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم ، ونحوه . قال قتادة : هي أطوار الخلق : طوراً نطفة ، وطوراً علقة ، وطوراً مضغة ، وطوراً عظاماً ، ثم يكسو العظام لحماً . قال ابن الخطيب : وقيل : إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والتقدير : من نطفة ذات أمشاج ، فحذف المضاف وتم الكلام . قوله : " نبتليه " . يجوز في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها حال من فاعل خلقنا ، أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له . والثاني : أنها حال من الإنسان ، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال ، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى " نبتليه " نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف ؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف . وقال الزمخشري : " ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال ، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة " . قال شهاب الدين : " وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم " . وقال بعضهم : في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل : إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه ، أي : جعلنا له ذلك للابتلاء ، وهذا لا حاجة إليه . فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه قوله : " نبتليه " : لنبتليه ، كقولك : " جئتك أقضي حقك ، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا " ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] أي : لتستكثر . ومعنى : " نبتليه " نختبره ، وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار ، وفيما يختبر به وجهان : أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشر . والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء . وقيل : " نَبْتَلِيه " نكلّفه بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل رحمه الله . وقيل : نكلفه ؛ ليكون مأموراً بالطاعة ، ومنهياً عن المعاصي . وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } . والمعنى : إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان ، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز ، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، والمعنى : جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وقد يراد بالسميع المطيع ، كقوله : " سَمْعاً وطَاعَة " ، وبالبصير : العالم ، يقال : لفلان بصر في هذا الأمر . وقيل : المراد بالسمع والبصر : الحاسَّتان المعروفتان ، والله - تعالى - خصهما بالذكر ؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما . قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أي : بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر . وقال مجاهد : السبيل هنا خروجه من الرحم . وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله . فصل في ان العقل متأخر عن الحواس قال ابن الخطيب : أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال ، قال : والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس ، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل . قال الفراء : هذا يتعدى بنفسه وباللام . قوله : { إِمَّا شَاكِراً } . نصب على الحال ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه حال من مفعول " هَدَيْنَاهُ " أي : هديناه مبيناً له كلتا حالتيه . قال أبو البقاء : وقيل : وهي حال مقدرة . قال شهاب الدين : لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين . والثاني : أنه حال من " السبيل " على المجاز . قال الزمخشري : " ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً ، وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً " . والعامة على كسر همزة " إما " وهي المرادفة لـ " أو " وقد تقدم خلاف النحويين فيها . ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا : " إن " الشرطية زيدت بعدها " ما " ثم قال : " وهذا لا يجيزه البصريون ؛ لأن " إن " الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 6 ] ، ولا يصح إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب " شاكر " ، وأيضاً لا دليل على الفعل " انتهى . قال شهاب الدين : لا نسلم أنه يلزم رفع " شاكراً " مع إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب " شاكراً " تقديره : إنا خلقناه شاكراً فشكوراً ، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً . وقرأ أبو السمال ، وأبو العجاج : بفتحها ، وفيه وجهان : أحدهما : أنها العاطفة وأنها لغة ، وبعضهم فتح الهمزة ؛ وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ] @ 5026 - تُنفِّخُهَـا أمَّـا شِمـالٌ عَـرِيَّـةٌ وأمَّـا صَبَـا جُنـحِ العَشِـيِّ هَبُـوبُ @@ بفتح الهمزة . ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء ؛ قال [ البسيط ] @ 5027 - أيْمَـا إلَـى جَنَّـةٍ أيْمَـا إلـى نَـارِ @@ وحذف الواو بينهما . والثاني : أنها " إما " التفصيلية وجوابها مقدر . قال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً فبتوفيقنا ، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى ، ولم يذكر غيره . فصل في الكلام على الآية قال ابن الخطيب بعد حكايته أن " شاكراً وكفوراً " حالان : إنّ المعنى : كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان . وقيل : وانتصب " شاكراً وكفوراً " بإضمار " كان " والتقدير : سواء كان شاكراً أو كان كفوراً . وقيل : معناه إن هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً ، أي يتميز شكره من كفره ، وطاعته من معصيته كقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك : " قد نصحت لك إن شئت فاقبل ، وإن شئت قاترك " فتحذف الفاء ، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد ، أي : إنا هديناه السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . وقيل : حالان من السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر . وقيل : حالان من السبيل ، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز . قال ابن الخطيب : وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة . وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون " إما " في هذه الآية كما في قوله تعالى : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] والتقدير : إنا هديناه السبيل ، ثم جعلناه تارة شاكراً ، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة ، قالت المعتزلة : هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } [ الإنسان : 4 ] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه ، ولما بطل هذا التأويل الأول ، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين ، سواء آمن أو كفر ، وبهذا بطل قول المجبرة . وأجيب : بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان ، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين ، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز ايضاً أن يخلق الكفر فيه ، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد ، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هوالحق ، وبطل تأويل المعتزلة . فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور قال القرطبي : " جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر ، وإثباتاً لها في الكفر ؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة ، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه ، حكاه الماوردي " .