Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 80, Ayat: 33-42)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } : وهي الصَّيحةُ التي تصخُّ الآذان ، أي : تصمها لشدة وقعتها . وقيل : هي مأخوذة من صَخّهُ بالحجر أي : صَكَّهُ به . وقال الزمخشري : " صخَّ لحديثه مثل أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخَّة مجازاً ؛ لأن النَّاس يصخُّون لها " . وقال ابن العربي : الصاخَّة : التي تورث الصَّممَ ، وإنَّها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ] @ 5114 - أصمَّنِـي سِـرُّهُمْ أيَّـام فُرقتِهِـمْ فَهـل سَمِعتُـمْ بِسـرِّ يُـورِثُ الصَّمَمَا @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 5115 - أصَمَّ بِكَ النَّاعِي وإنْ كَانَ أسْمَعَا … @@ وجواب " إذا " محذوف ، يدل عليه قوله : " لكُلِّ امرئٍ مِنهُمْ يومئذٍ شأنٌ يُغنِيهِ " . والتقدير : فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه . فصل في تعلق الآية لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، والإنفاق مما امتن به عليهم . وقال ابنُ الخطيب : لمَّا ذكر تعالى هذه الأشياء ، وكان المقصود منها أمور ثلاثة : أولها : الدلائل الدالة على التوحيد . وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة والمعاد . وثالثها : أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان ، لا يليق بالعاقل أن يتمرَّد عن طاعته ، وأن يتكبَّر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكِّد لهذه الأغراض ، وهو شرح [ أهوالِ الآخرةِ ] ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف ، فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل ، والإيمان بها ، والإعراض عن الكفر ، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبُّر على الناس ، وإلى إظهار التواضع فقال تعالى : { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } يعني : صيحة القيامةِ ، وهي النفخة الأخيرةُ ، تصخُّ الأسماع أي : تصمُّها ، فلا تسمع إلا ما يدعى به الأحياء . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا وهِيَ مُصِيخَةٌ يوْمَ الجُمعَةِ شفقاً مِنَ السَّاعَةِ إلاَّ الجنِّ والإنسَ " . قوله : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ } بدل من " إذا " ، ولا يجوز أن يكون " يغنيه " عاملاً ، في " إذا " ، ولا في " يوم " ؛ لأنه صفة لـ " شأن " ولا يتقدم معمول الصِّفة على موصوفها . والعامة على " يغنيه " من الإغناءِ . وابن محيصن والزهري ، وابنُ أبي عبلة وحميدٌ ، وابن السميفع : " يعنيه " بفتح الياء والعين المهملة من قولهم : عناني في الأمر ، أي : قصدني . فصل في معنى الآية قوله : " يَفِرُّ " ، أي : يهرب في يوم مجيء الصاخَّةِ ، " مَنْ أخِيْهِ " أي : من مُوالاةِ أخيهِ ، ومُكالمتهِ لأنه مشتغل بنفسه ، لقوله بعده : { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ، أي : يشغلهُ عن غيره . وقيل : إنَّما يفرّ حذراً من مطالبتهم إياه بالتبعات ، يقول الأخُ : ما واسيتنِي بمالك ، والأبوان يقولان : قصرت في برنَا ، والصاحبة تقول : أطمعتني الحرامَ ، والبنون يقولون : ما علمتنا . وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ، ولا يغنون عنه شيئاً ، لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } [ الدخان : 41 ] . وقال عبد الله بن طاهر : يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم ، وقلّة حيلتهم . وذكر الضحاك عن ابن عباس ، قال : يفر قابيلُ من أخيه هابيل ، ويفرُّ النبي من أمِّه ، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه ، ونوحٌ من ابنه ، ولوطٌ من امرأتهِ ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ . قال ابنُ الخطيب : المراد : أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا ، ويستجيرُ بهم ، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة ، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل : { يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ } ، بل من أبويه ، فإنهما أقرب من الأخوين ، بل من الصَّاحبة والولد ؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين . ثم لمَّا ذكر الفِرارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى : { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } . قال ابن قتيبة : " يغنيه " أي : يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال : أغْنِ عنِّي وَجْهَكَ ، أي : اصرفه . وقال أهل المعاني : إنَّ ذلك الهم الذي حصل له قد ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر ، فصار شبيهاً بالغني في أنه ملك شيئاً كثيراً . قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } . لما ذكر تعالى حال يوم القيامة في الهول بيَّن أن المكلفين فيه على قسمين : سعداء ، وأشقياء ، فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } أي : مضيئة مشرقة ، وقد علمت ما لها من الفوز ، والنعيم ، من أسفر الصبح : إذا أضاء ، وهي وجوه المؤمنين " ضاحكةٌ " أي : مسرورة فرحة . قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب { مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي : بما آتاها الله تعالى من الكرامة . وقال عطاءُ الخراسانيُّ : " مسْفِرةٌ " من طول ما اغبرت في سبيل الله . وقال الضحاكُ : من آثار الوضوء . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : من قيامِ اللَّيل ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " مَنْ كَثُرتْ صلاتُه باللَّيلِ حسُنَ وجههُ بالنَّهارِ " . قوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } . قال المبرد : " الغَبَرةُ " الغبارُ ، والقترةُ : سوادٌ كالدُّخان . وقال أبو عبيدة : القترُ في كلام العرب : الغبارُ ، جمع القترة ؛ قال الفرزدقُ : [ البسيط ] @ 5116 - مُتَوجٌ بِرداءِ المُلكِ يَتْبعهُ مَوْجٌ تَرى فَوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا @@ وفي عطفه على الغبرة ما يرد هذا إلا أن يقال : اختلف اللفظ فحسن العطف ، كقوله : [ الوافر ] @ 5117 - … … كَذِبـًا ومَيْنَـا @@ وقوله : [ الطويل ] @ 5118 - … … النَّـأيُ والبُعْـدُ @@ وهو خلاف الأصل ، وفي الحديث : " إنَّ البَهَائِمَ إذَا صَارتْ تُراباً يَوْمَ القِيَامَةِ حُولَ ذلِكَ التُّرابُ في وُجوهِ الكُفَّارِ " . وقال زيدُ بن أسلمَ : القترةُ : ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرةُ : ما انحطت إلى الأرض ، والغُبَار والعبرةُ واحدٌ . قال ابن عباس : " تَرْهَقُهَا " أي : تغشاها ، " قَتَرةٌ " أي : كسوفٌ وسواد . وعنه - أيضاً - : ذلَّةٌ وشدَّةٌ . وقيل : تَرهقُهَا ، أي : تدركها عن قُرب ، كقولك : رَهقَتْهُ الخيل إذا أدركته مسرعة ، والرَّهْقُ : عجلة الهلاك ، القترةُ : سواد كالدُّخان ، ولا يرى أوحشُ من اجتماع الغبار والسواد في الوجه ، كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت ، فجمع الله - تعالى - في وجوههم بين السواد ، والغبرة ، كما جمعوا بين الكفر ، والفجور ، والله أعلم . والعامة : على فتح التاء في " قَتَرة " ، وأسكنها ابن أبي عبلة . قوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ } : جمع كافِر ، " الفَجرَةُ " : جمع فَاجِر ، وهو الكاذبُ المُفتَرِي على الله تعالى . وقيل : الفَاسقُ : يقال : فَجَرَ فُجُوراً ، أي : فسَقَ ، وفَجرَ : أي : كذبَ . وأصله الميل ، والفاجر المائل . روى الثعلبي عن أبيٍّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَة { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ ووجْههُ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ " .