Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 11-16)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } . لمَّا بيَّن تعالى حال من لا يرقبُ في الله إلاًّ ولا ذمَّةً ، وينقض العَهْدَ ، ويتعدَّى ما حُدّ له . بيَّن بعده أنهم إن تابوا ، وأقاموا الصَّلاة ، وآتوا الزكاة ، فهم : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } . فإن قيل : المعلق على الشيء بكلمة " إنْ " عدم عند عدم ذلك الشيء ، فهذا يقتضي أنَّهُ متى لم توجد هذه الثلاثة ، ولا تحصل الأخوة في الدِّين ، وهو مُشْكلٌ ؛ لأنَّه ربَّما كان فقيراً ، أو كان غنيّاً ، لكن قبل انقضاءِ الحول ، لا تلزمه الزكاة . فالجوابُ : أنَّه قد تقدَّم في تفسير قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] أن المعلق على الشَّيء بكلمة " إن " لا يلزم منه عدم ذلك الشَّيء ، كذلك ههنا ، ومن النَّاس من قال : إنَّ المعلق على الشَّيء بكلمة " إنْ " عدم عند عدم ذلك الشيء ، فهاهنا قال : المؤاخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً ، فإنَّ الله شرطها في إثبات المؤاخاة ، ومنْ لمْ يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه ؛ وجب عليه أن يقرَّ بحكمها فإذا أقرَّ بهذا الحكم دخل في الشَّرط الذي به تجبُ الأخوة . قوله : فإِخوَانُكُم خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم ، والجملةُ الاسمية في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط ، وفِي الدِّينِ متعلِّقٌ بـ " إخْوانُكُمْ " لِمَا فيه من معنى الفعل . فصل قال أبو حاتم " قال أهل البصرة أجمعون : الإخوة في النَّسبِ ، والإخوان في الصَّداقة " . وهذا غلطٌ ، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء إخوة ، وإخوان ، قال الله تعالى { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ولم يَعْنِ النَّسبَ ، وقال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } [ النور : 61 ] وهذا في النسب . قال ابن عبَّاسٍ : " حرمت هذه الآية دماء أهل القبلةِ " ومعنى قوله : " فَإِخْوَانُكُمْ " أي : فهم إخوانكم " فِي ٱلدِّينِ " لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، قال ابنُ مسعودٍ " أمرتم بالصَّلاةِ والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له " . وروى أبو هريرة قال : لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر ، وكفر من كفر من العرب فقال عمرُ : كيف تقاتل النَّاس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتَّى يقُولُوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، فمَنْ قَالهَا فقد عَصَمَ منِّي مالهُ ونَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّها وحِسابُهُ على اللهِ " فقال : والله لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ، قال عمر : " فوالله ما هو إلاَّ أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحقّ " . قوله { وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قال الزمخشريُّ : وهذا اعتراض واقع بين الكلامين ، والمقصود : الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها . قوله { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم } نقضوا عهودهم ، " الأيمان " جمع " يمين " بمعنى : الحلف . " مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ " عقدهم . يعني : مشركي قريش . قال الأكثرون : المرادُ : نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : المرادُ : حمل العهد على الإسلام ، ويؤيدهُ قراءة من قرأ " وإن نكثُوا إيمانَهُم " بكسر الهمزة والأول أولى ، للقراءة المشهورة ؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد ، وقوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : عابوه ، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد . قوله : { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ } أي : متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " أئِمَّة " بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ، ولا ألف بينهما . والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما ، من غير إدخال ألف بينهما ، وهشام كذلك ، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً ، هذا هو المشهور بين القراء السبعة ، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى ، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه ، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة ، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما ، أي : بين الهمزة والياء . فأمَّا قراءةُ التحقيق ، وبينَ بينَ ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين ، كأبي علي الفارسي ، وتابعيه ، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه ، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف ، وقرءوا بياء خفيفة الكسر ، نَصُّوا على ذلك في كتبهم ، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ ، وهؤلاء الجماعة ؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل ، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة . والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً ، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين ، قال : " فإن قلت : كيف لفظ " أئمة " ؟ قلت : بهمزة بعدها همزةُ بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين ، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون ، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ " . قال أبُو حيَّان : " وذلك دَأبه في تلحين المقرئين ، وكيف يكون لحناً ، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير ، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ " ؟ قال شهابُ الدِّين : " لايُنقَمُ على الزمخشريِّ شيءٌ ، فإنه إنَّما قال : إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها ، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره ، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه ، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين ، لا الإبدال المحض ، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين ، لا للقراء ، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة " . وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ ، فقال : " ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين ، كما جعلت همزةُ " أئذا " ؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة ، وهناك أصليةٌ ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً ، لانفتاح ما قبلها ، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل " . قال شهابُ الدِّين " قوله " منقولةٌ " لا يُفيد ؛ لأنَّ النقل هنا لازم ، فهو كالأصل ، وقوله " ولوْ خُفِّفَتْ على القياس " إلى آخره ، لا يُفيد أيضاً ؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة " . ووزن " أئِمَّة " " أفْعِلة " ، لأنَّها جمع " إمام " كـ " حمار وأحْمِرة " والأصل : " أأمِمَة " فالتقى ميمان ، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها ، وهو الهمزة الثانية ، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة ، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء ، وغيرهم يحقق ، أو يسهِّل بين بين ، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين ، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق ، كما قرأ هشام ، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة . قوله : " لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ " قرأ ابنُ عامر " لا أيمان " بكسر الهمزة ، وهو مصدرُ آمَن يُؤمن إيمانً . هل هو من الأمان ؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان : أحدهما : أنهم لا يؤمنون في أنفسهم ، أي : لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم ، ولا سبيل إلى ذلك . والثاني : الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له ، أو من التصديق أي : إنَّهم لا إسلام لهم ، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل ، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف . وقرأ الباقون بالفتح ، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث ، وقد أُجمع على فتح الثَّانية ، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ ؛ وهذا كقول الآخر : [ الطويل ] @ 2769 - وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ @@ وبذلك قال الشَّافعي ، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً ، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ . فصل في المراد من الآية معنى الآية : قاتلوا الكفار بأسرهم ، وإنَّما خصَّ الأئمة ، والسَّادة بالذِّكر ، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة . قال ابنُ عبَّاسٍ : " نزلت في أبي سفيان بن حربٍ ، والحارث بن هشام ، وسهل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ ، والذين نقضُوا العهد ، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول " ، وقال مجاهدٌ " هم أهل فارس والروم " وقال حذيفة بن اليمان " ما قُوتل أهل هذه الآية ، ولم يأت أهلها بعد " . { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا عهود لهم . ثم قال : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } وهو متعلق بقوله : { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ } أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر . قوله تعالى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ } لما قال { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ } أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم ، فقال { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ } نقضُوا عهودهم ، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة ، { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ } من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة . وقيل : المراد من المدينة ، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل ، وقيل : بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج ، وهو نقيضُ العهدِ ، وإعانة أعدائه ، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه . وقوله : { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ } إمَّا بالفعل ، وإمَّا بالعزم عليه ، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه ، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشياء ، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد ، فكيف إذا اجتمعت ؟ أحدها : نكثهم العهد . والثاني : أنهم همُّوا بإخراج الرسول ، وهذا من أوكد موجبات القتال . والثالث : قوله { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : بالقتال يوم بدر ؛ لأنَّهم حين سلم العير ، قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه . وقال ناسٌ من المفسِّرين : أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسنُ : لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك ؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة . وقوله : " أَوَّلَ مرَّةٍ " نصبٌ على ظرف الزَّمانِ ، وأصلها المصدر من " مَرَّ يَمُرُّ ، كما تقدم [ الأنعام : 94 ] . قوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } الجلالةُ مبتدأ ، وفي الخبر أوجهٌ : أحدها : أنَّهُ " أحَقُّ " ، و " أن تخْشَوْهُ " على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، والتقدير : فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم . الثاني : أَنَّ " أَحَقُّ " خبر مقدم ، و " أَن تَخْشَوهُ " مبتدأ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الجلالة . الثالث : أنَّ " أَحَقُّ " مبتدأ ، و " أن تَخْشَوهُ " خبره ، والجملة أيضاً خبر الجلالة ، قاله ابن عطية ، وحسن الابتداء بالنكرة ، لأنها أفعل تفضيل ، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه . الرابع : أنَّ " أن تخشوه " في محلِّ نصبٍ ، أو جرٍّ ، بعد إسقاطِ الخافضِ ، إذ التقدير : أحقُّ بأن تخشوه ، وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } شرطٌ حذف جوابه ، أو قُدِّم على حسب الخلاف [ الأنفال : 1 ] . فصل هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه : الأول : أنَّ تقرير الموجبات القويَّة ، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية . الثاني : أنَّك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك ؛ فكأنك تحرضه على القتال ، أي : لا تخف منه . والثالث : قوله { فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } أي : إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه ، لكونه في غاية القدرة ، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل ، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة ، والذم اللازم في الدُّنيا . والرابع : قوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } أي : إن كنتم موقنين بالإيمان ، وجب عليكم القتال ، أي : إنكم إن لم تقدموا على القتال ، وجب أن لا تكونوا مؤمنين . فصل حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا : " إذا قلت : ألا تفعل كذا ، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده ، وإذا قلت : ألست تفعل ، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده ، والفرقُ بينهما أنَّ " لا " ينفى بها المستقبل ، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل ، و " ليس " إنما تستعمل لنفي الحال ، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال " . فصل نقل عن ابن عباس أنه قال قوله : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً } ترغيب في فتح مكَّة وقوله : { قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ } أي : عهدهم ، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة ، كما تقدم . وقال الحسنُ " لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك ؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة " . فصل قال الأصم " دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال ، لقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات " . قال القاضي " إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ، ولا مُقصراً فيه ، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال ، لا يصح أيضاً ، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد ، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع " . فصل قال القرطبيُّ " استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين ، إذ هو كافر ، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به ، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين ، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله ، واستقامة فروعه " قال ابنُ المنذر : " أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل " . قال القرطبيُّ : " وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك ، لقوله تعالى : { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } [ التوبة : 13 ] الآية ، فأمر بقتلهم وقتالهم ، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة : يستتابُ ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث " . فصل [ إذا حارب الذميُّ انتقض عهده ، وكان ماله وولده فيئاً معه ] . فصل قال القرطبيُّ : " أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذِّمة ، أو عرَّض ، أو استخفَّ بقدره ، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل ؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا ، لقوله تعالى : { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم } الآية ، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة : لا يقتلُ ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم ، ولكن يؤدَّب " . فصل قال القرطبي : " اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم اسلم تقية من القتل ، فقيل : يسقطُ القتل بإسلامه ، وهو المشهور من المذاهب ؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله . بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب ، قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وقيل : لا يسقط الإسلام قتله ، قاله في العتبية " . قوله تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } الآية . اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى : " ألاَ تُقاتِلُونَ " وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد ، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت ؟ . أولها : قوله : { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } وسمى ذلك عذاباً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين ، إن شاءَ في الدُّنيا ، وإن شاء في الآخرة ، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً ، والأسر أخرى ، واغتنام الأموال ثالثاً . فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف قال ههنا : { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } ؟ . فالجواب : المراد من قوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] عذاب الاستئصال والمراد من قوله : { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } عذاب القتل والحرب ، والفرق بين البابين : أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب ، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب ، أمَّا عذابُ القتل ، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب . فصل احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله : { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } فإنَّ المراد من هذا العذاب ، القتل والأسر ، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، يدخله في الوجود على أيدي العبادِ . وأجاب الجبائيُّ عنه فقال : لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار ، ولجاز أن يقال : إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار ، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم ، لأنَّه تعالى خالق لذلك ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة ، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد ، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه ، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير . وأجيب : بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك ، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام ، ثم إنا لا نقول : يا خالق الأبوال والعذرات ، ويا مكون الخنافس ، والديدان ، فكذا ههنا ، وأيضاً : أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح ، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره ، ثمَّ لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط ، ويا دافع الموانع عنها . وأما قوله : المراد إذن الإقدارُ ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره ، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر ، والدَّليل القاهر من جانبنا ، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة ، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى . وثانيها : قوله : " ويُخْزِهِمْ " أي : يذلهم بالأسر والقهر ، قال الواحديُّ " إنهم بعد قتلكم إيَّاهم " وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة ، وهذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا . وثالثها : قوله : " وينصُرْكُم عليْهِمْ " أي : لمَّا حصل لهم الخزي ، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [ بسبب ] كونهم قاهرين . فإن قيل : لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر ، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً . فالجوابُ : ليس الأمر كذلك ؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر ، فلمَّا قال : " وينصُرْكم عليْهِمْ " دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر . ورابعها : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } . قرأ الجمهور بياء الغيبة ، رَدّاً على اسم الله تعالى ، وقرأ زيد بن علي " نشف " بالنُّون ، وهو التفات حسن ، وقال : " قَوْمٍ مُؤمنينَ " شهادة للمخاطبين بالإيمان ، فهو من باب الالتفات ، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر ، حيث لم يقل " صدوركم " . والمعنى : ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم . ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه ، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه ، فإنَّهُ يعظم سروره به ، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس ، وثبات العزيمة . وقال مجاهدٌ والسديُّ " أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله ، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم " . وخامسها : قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم . فإن قيل : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } معناه أنه يشفي من ألم الغَيْظِ ، وهذا هو عين إذهاب الغيظ ، فكان قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } تكراراً . فالجوابُ : أنَّه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح ، فكانوا في زحمة الانتظار ، كما قيل : الانتظار الموت الأحمرُ ، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار ، فظهر الفرق بين قوله : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وبين قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة ، وهي التَّشفي ، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر فيها وجدان المال ، والفوز بالمطاعم والمشارب ؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة ، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم . وقرأ الجمهور : " ويُذْهب " بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ : " أذْهَبَ " ، و " غَيْظَ " مفعول به وقرىء " ويَذْهَب " بفتح الياء والهاء ، جعله مضارعاً لـ " ذَهَبَ " ، و " غيظُ " فاعل به وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً ، ولم ينسقْه على المجزم قبله ، كما قَرَءُوا " ويتوبُ " بالرفع عند الجمهور . قوله : { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } قرأ الجمهور بالرَّفع ، وقرأ زيدُ بنُ علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد ، وعيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية ويعقوب " ويتُوبَ " بالنَّصب ، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ ، وكذلك وقع ، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون ، كأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو وغيرهم . قال الزجاج : وأبُو الفتح : وهذا أمرٌ موجودٌ ، سواءٌ قوتلوا ، أمْ لمْ يقاتلوا ، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في : " قَاتِلُوهم " . يعنيان بالشَّرط : ما فُهِمَ من الجملة الأمرية . قالوا : ونظيره : { فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ } [ الشورى : 24 ] وتمَّ الكلامُ ههنا ، ثم استأنف فقال : { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [ الشورى : 24 ] وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى ، وفي توجيه ذلك غموضٌ ، فقال بعضهم : إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة ، قاله الأصمُّ . فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله ، ويتُبْ عليكم من تلك الكراهة لقتالهم ، وقال آخرون - في توجيه ذلك - : إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام ، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم ، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة . وقال ابنُ عطية - في توجيه ذلك - : " يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله ، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون ، وكمالٌ لإيمانكم ، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال " . قال أبُو حيان " وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار ، والمعنى : على من يشاء من الكفار ، لأنَّ قتال الكفارِ ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير ، ألا ترى إلى فتح مكَّة ، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون ، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً ، كـ : ابن أبي سرح ، ومن تقدم ذكره ، وغيرهم " فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار ، أي : يُسْلمُ من يشاء منهم ، والمرادُ بالتَّوبة هنا : الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين ، ثمَّ قال { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } عليم بكل ما يفعل في ملكه " حَكِيمٌ " مصيب في أحكامه وأفعاله . قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } الآية . قال الفراء : " أمْ " من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ، ولو أريد به الابتداء لكان بـ " الألف " أو بـ " هل " . فصل هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل : هذا خطابٌ للمنافقين ، وقيل : للمؤمنين الذي شق عليهم القتال ، فقال : أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد ، ولا تمتحنوا ، ليظهر الصادق من الكاذب ، " ولمَّا يعلم اللهُ " أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم ، وذكر العلم والمراد منه : المعلوم ، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم ، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله ، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده . قوله { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة ، لعطفها عليها ، أي : الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا . الثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل : " جَاهدُوا " أي : جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً . و : " وَليجَةً " مفعول ، و " مِن دُونِ اللهِ " إمَّا مفعول ثان ، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير ، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ ، إن كان على بابه ، والوليجة : فَعِيلة ، مِن الوُلُوج ، وهُو الدُّخُولُ ، و " الوَليجَةُ " من يداخلك في باطن أمورك ، وقال أبو عبيدة : " كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ ، والرجل في القوم وليس منهم ، يقال له وليجة " ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ ، للمفردِ ، والمثنى ، والمجموع ، وقد يجمعُ على " ولاَئِج " ووُلُج ، كـ : صحيفة ، وصحائف ، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي : [ الطويل ] @ 2770 - ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ @@ فصل معنى الآية : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } بطانة ، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم . وقال قتادةُ : " وَليجةً " خيانة . وقال الضَّحَّاك . " خديعة " . والمقصودُ من ذكر هذا الشَّرط : أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً ، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره ، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ ، والنفاقِ ، والتَّودُّدِ إلى الكفار . والمقصودُ : بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط ، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ ، ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع . قوله : { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ الحسنُ " بِمَا يَعْملُون " بالغيبةِ على الالتفات ؛ وبها قرأ يقعوبُ في رواية سلاَّم ، أي : عالم بنياتهم ، وأغراضهم ، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ . قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن ، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة ، كما قال { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [ فصلت : 30 ] ، قال : ولمَّا فرض القتالُ ، تميَّز المنافقُ من غيره ، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ .