Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 5-7)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } الآية . قال الليثُ " يقال سلختُ الشهر : إذا خرجت منه " . و " الانسلاخُ " هنا من أحسن الاستعارات ، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم ، فقال : " يقال : أهْللنا شهر كذا ، أي : دخلنا فيه ، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ " ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 2744 - إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي @@ والألف واللام في " الأشهر " يجوز أن تكون للعهد ، والمراد بها : الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] ، والعربُ إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره ؛ أو بلفظه مُعرَّفاً بـ " أل " ، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : " رأيت رجلاً ، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل " لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية ، فإنَّ " الأشهر " قد وصفت بـ " الحُرُم " ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة ، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة ، فلا تكون " أل " للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين . قالوا : المرادُ بالأشهر الحرم : الأربعة ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . وقال مجاهدٌ وابن إسحاق : " هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً " . وقيل لها حرم : لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم . فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم ، واللهُ تعالى يقول : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } . قيل : لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم . قوله { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } . اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء : أولها : قوله : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ . وثانيها : " وَخُذُوهُمْ " أي : أسروهم . وثالثها : " وَٱحْصُرُوهُمْ " والحصر : المنع ، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا ، قاله ابن عباس . وقال الفرَّاءُ " امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام " . ورابعها : قوله { وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } . في انتصاب " كل " وجهان : أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف المكاني . قال الزجاج " نحو : ذهبت مذهباً " . وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة ؛ في نحو : صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس ، وبعضها يسمع ، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة : [ الكامل ] @ 2745 - لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ @@ وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً ، لا على الظرف ، لأنه ظرف مكان مختص . قال أبو حيَّان " إنه ينتصبُ على الظرف ؛ لأنَّ معنى " واقعُدُوا " لا يراد به حقيقةُ القعود ، وإنما يراد : ارصدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة ، ومتى اتفقا في المادة لفظاً ، أو معنًى ، وصل إليه بنفسه ، تقول : جلست مجلس القاضي ، وقعدت مجلس القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل " . والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو " على " ، أي : على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ ، وجعله مثل قول الآخر : [ الطويل ] @ 2746 - تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي @@ وهذا لا ينقاس ، بل يقتصر فيه على السَّماع ، كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف : 16 ] ، أي : على صراطك ، اتفق الكل على تقدير " على " ، وقال بعضهم : هو على تقدير الباء ، أي : بكل مرصد ، نقله أبو البقاء ، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى " في " فينبغي أن تقدَّر " في " لأنَّ المعنى عليها ؛ وجعله نظير قول الشاعر : [ الوافر ] @ 2747 - نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَيْئاً ونُرخِصُهُ إذا نَضِجَ القُدورُ @@ و " المَرصدُ " مفعل من : رصَدَه يَرصُدُه ، أي : رقَبَهُ يَرْقُبُه ، وهو يصلُح للزَّمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطُّفيل : [ الكامل ] @ 2748 - ولقدْ عَلمْتَ ومَا إخالُكَ نَاسِياً أنَّ المنيَّة للْفَتَى بالمَرْصَدِ @@ والمِرْصَادُ : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمرصد : يقع على الرَّاصد ، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على " المرصُودِ " . وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يحتمل كلَّ ذلك ؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر ، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ . ومعنى الآية : اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ : الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد : كونُوا لهم رصداً ، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا . قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم ، ويدخلوا مكَّة " إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ " لمن تاب " رَحيمٌ " به . واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإذا لم توجد الثلاثة ، فإباحة الدَّم بحالها . قال الحسينُ بن الفضلِ : " هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء " . قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } الآية . روى ابن عباس : أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله ، أو لحاجة أخرى ، فهل نقتل ؟ فقال عليٌّ - رضي الله عنه - : " لا " لأنَّ الله قال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } أي : فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ . فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين ، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم ، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم ، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه ، بل يطالب إمَّا بالإسلام ، وإمَّا بالقتل ، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة ، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة ، أو طالباً لاستماع القرآن ، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله . قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ } كقوله { إِنِ ٱمْرُؤٌ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور . قال ابنُ الخطيب : " أَحَدٌ " مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ ، وتقديره : " وإن استجارك أحد ، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء ، لأنَّ " إنْ " من عوامل الفعل لا تدخل على غيره " . قوله " حتَّى يسمَعَ " يجوز أن تكون هنا للغاية ، وأن تكون للتَّعليلِ ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله " فَأجِرهُ " ، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا ؟ وفيه غموضٌ ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق " حتَّى " بقوله " استجاركَ " ، أو بقوله " فأجرهُ " إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ ، حتَّى يسمع كلام الله . والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور ، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع ، وأعملنا الأوَّل مثلاً ، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر ، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ " حتَّى " تجرُّ المضمر ، و " حتَّى " لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله : [ الوافر ] @ 2749 - فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ @@ وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر ؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه ، ويكون كقولك : فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ ، أي : فرحْتُ به ، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني ، وقوله : " كَلاَمَ ٱللَّهِ " من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها ، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ ، و " مَأْمنَهُ " يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : مكان أمنه ، وأن يكون مصدراً ، أي : ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ . فصل في المراد من الآية معنى الآية : وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، ليسمع كلام الله " فأجرهُ " ، وأمنه " حتَّى يسمع كلام الله " فيما له وعليه من الثواب والعقاب . " ثُمَّ أَبلغهُ مأمنهُ " أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه ، وهو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك ، وقدرت عليه فاقتله . { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } ، لا يعلمون دين الله وتوحيده ، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله . قال الحسنُ " هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة " . فصل قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ ، والمؤمنُ ، والزنديقُ ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، ثمَّ من المعلوم بالضرورة ، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة ، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف ، إمَّا أن يكون معاً ، أو على الترتيب ، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم ؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب ، فلو حصلت معاً ، لما حصل الانتظام ، فلم يحصل الكلام ، وإن حصلت متعاقبةً ؛ لزم أن ينقضي المتقدم ، ويحدث المتأخر ، وذلك يوجب الحدوث ، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم : إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ ؛ لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله { كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] إلا إلى هذه الحروف والأصوات . وقال آخرون : ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، وثبت أن كلام الله قديمٌ ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات . وقال ابنُ فورك : " إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى " . وأنكروا عليه هذا القول ؛ لأنَّ الكلام القديم ، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات ، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها . والأول قول الزجاج ، وهو باطلٌ ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء . والثاني باطلٌ ، لأنَّا على هذا التقدير ، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها ، فسقط هذا الكلام . والجواب عن كلام المعتزلة : أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم ؛ لأنَّ كلام الله ، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً ، بل تلك الحروف والأصوات انقضت ، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان ، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم . فصل قال الفقهاءُ : إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ ، كان مَغْنُوماً مع ماله ، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي ، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام ، أو دخل لتجارة ، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون ، فأمانهما شبهة أمان ؛ فيجب تبليغه مأمنه ، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً ، فالرسالة أمانٌ ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام ، ولماله أمان ، فأمان ماله أمان له . { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } الآية . في خبر " يكون " ثلاثةُ أوجهٍ : أظهرها : أنَّهُ " كيف " ، و " عَهْدٌ " اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم ، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام ، وهو الاستفهامُ ، بمعنى الاستنكار ، كقولك : كيف يُسْتفتَى مثلك ؟ أي : لا ينبغي أن يستفتى . و " للمشركين " على هذا يتعلق إمَّا بـ " يكُونُ " ، عند من يجيزُ في " كانَ " أن تعمل في الظَّرف وشبهه ، وإمَّا بمحذوفٍ ، على أنَّها صفةٌ لـ " عَهْدٌ " ، في الأصلِ ، فلمَّا قُدِّمتْ نصبت حالاً ، و " عِند " يجوز أن تكون متعلقةً بـ " يكون " أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ " عَهْدٌ " أو متعلقة بنفس " عَهْدٌ " لأنه مصدرٌ . والثاني : أن يكون الخبرُ " للمشركين " ، و " عند " على هذا فيها الأوجه المتقدمة ، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به " للمُشركين " . والثالث : أن يكون الخبرُ " عِندَ اللهِ " ، و " للمُشركينَ " على هذا إمَّا تبيين ، وإمَّا متعلقٌ بـ " يكون " عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من " عَهْدٌ " . وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر ، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ ، " كَيْفَ " على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ ، أو بالحال ، كما تقدَّم تحقيقه في : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] . ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً ، بمعنى : كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء بـ " إلاَّ " ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله : @ 2750 - فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ كثيرٌ ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ @@ أي : ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ ، وفي الآية محذوفٌ تقديره : كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد . قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } في الاستثناء وجهان : أحدهما : أنَّهُ منقطعٌ ، أي : لكن الذين عاهدتم ، فإنَّ حكمهم كيت وكيت . والثاني : أنَّهُ متَّصلٌ ، وفيه حينئذٍ احتمالان : أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ . والثاني : أنه مجرورٌ على البدل منهم ؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ ، أي : ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا ، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، والجملةُ من قوله " فَمَا ٱسْتَقَامُواْ " خبره . فصل معنى الآية : أي : لا يكون لهم عهد عند الله ، ولا عند رسوله وهم يغدرون ، وينقضون العهد ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . قال ابنُ عباسٍ : " هُمْ قُريْش " . وقال قتادة " هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبيةِ " . قال تعالى : { فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ } أي : على العهد { فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } [ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ] ونقضوا العهد ، وأعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم ، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا ، فأسلموا قبل الأربعة أشهر . وقال السدي والكلبي وابن إسحاق : إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ ، وبنو مدلج من ضمرة ، وبنو الديل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش ، وبنو الديل من بكرٍ ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة ، وهذا القول أقرب إلى الصواب ؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة ؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى : { فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } . وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 4 ] كما نقصكم قريش ، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة ، وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله " فَمَا ٱسْتَقَامُواْ " يجوزُ في " ما " أن تكون مصدرية ظرفيةً ، وهي محلِّ نصب على ذلك أي : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، ويجوزُ أن تكون شرطيةً ، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان : أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني ، والتقدير : أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله : { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] . والثاني : أنها في محلِّ رفع بالابتداء ، وفي الخبر الأقوال المشهورة ، و " فاستقيمُوا لهُم " جواب الشرط ، وقد نحا إليه الحوفيُّ ، ويحتاجُ إلى حذف عائد ، أي : أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في " ما " المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة ، وأنشد على ذلك : [ الطويل ] @ 2751 - فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا @@ ولا دليل فيه ، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ . قال أبُو البقاءِ : " ولا يجوز أن تكون نافيةً ، لفساد المعنى ، إذ يصير المعنى استقيموا لهم ؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم " . ثم قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي : من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده .