Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 20-22)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما هددهم بأمور الآخرة ، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله : { أولئك } أي البعداء عن حضرة الرحمة { لم يكونوا } أي بوجه من الوجوه { معجزين } وأشار إلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله : { في الأرض } أي ما كان الإعجاز - وهو الامتناع من مراد الله - لهم ولا هو في قدرتهم ، لأن قدره على جميع الممكنات على حد سواء . ولما نفى التعذر بأنفسهم ، نفاه من جهة غيرهم فقال : { وما كان لهم } ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جداً ، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال : { من دون الله } أي الملك الأعظم ، وأغرق في النفي بقوله : { من أوليآء } أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب ، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل : ماذا يفعل بهم ؟ فقيل : { يضاعف } أي يفعل فيه فعل من يناظر آخر في الزيادة ، وبناه للمفعول لأن المرجع وجود المضاعفة مطلقاً { لهم العذاب } أي بما كانوا يضاعفون المعاصي ؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعاً وبصراً فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه ، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال : { ما كانوا } أي بما لهم من فساد الجبلات { يستطيعون السمع } أي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فما كانوا يسمعون { وما كانوا } يستطيعون ، الإبصار فما كانوا { يبصرون } حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار ، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصف بعدم الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له : هذا مما لا أستطيع أن أسمعه ، وتكون المضاعفة بالكفر والصد ، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص وأنكأ من نفي السمع لأنهم قد يحملونه على الإجابة ، وأما نفي البصر فغير منفك عن النقص سواء كان للعين أو للقلب ، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك ، وإن خرجت عليه استوى الأمران ، وصار نفي الاستطاعة أولاً دالاًّ على نفيها ثانياً ، ونفي الإبصار يدل على نفي السمع أولاً . ولما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر ، ثبت أنهم لا شيء فقال : { أولئك } أي البعداء البغضاء { الذين خسروآ أنفسهم } أي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر ؛ ولما كان العاجز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطاً بعد العجز ، نفى ذلك بقوله عائداً إلى نفي النفع ممن عذرهم أولاً على أحسن وجه : { وضل عنهم ما كانوا } أي كوناً جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه { يفترون } أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة ، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس ، فلذلك قال : { لا جرم } أي لا شك { أنهم } أي هؤلاء الذي بالغوا في إنكار الآخرة { في الآخرة } ولما كان المقام جديراً بالمبالغة في وصفهم بالخسارة ، أعاد الضمير فقال : { هم } أي خاصة { الأخسرون } أي الأكثرون خسراناً من كل من يمكن وصفه بالخسران ؛ والإعجاز : الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه ؛ والمضاعفة : الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر ؛ والاستطاعة : قوة ينطاع بها الجوارح للفعل ؛ وأما " لا جرم " فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها ، قال الرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه ما حاصله : والغالب بعد { لا جرم } الفتح ، أي في { أن } ، فـ { لا } إما رد الكلام السابق - على ما هو مذهب الخليل - أو زائدة كما في { لا أقسم } لأن في جرم معنى القسم ، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع " لا " ، وجعلها سيبويه فعلاً بمعنى حق ، فـ " أن " " فاعله " ، وقيل : " جرم " بمعنى حق ، وهو اسم لا و " أنهم " خبره ؛ وقال الكسائي معناها : لا صد ولا منع ؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة ، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصناماً تنفعهم ، وجرم - فعل ماض بمعنى كسب وفاعله مضمر معبر به عن فعلهم ، و { أنهم } مفعولة ؛ وقال الفراهي : كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ، لأنه يروي عن العرب " لا جرم " - يعني بضم ثم سكون ، والفعل - يعني هكذا ، والفعل - يعني محركاً ، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد والبخل ؛ والجرم : القطع ، أي لا قطع من هذا كما أنه لا بد بمعنى لا قطع ، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم ، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم ، فيقال : لا جرم لآتينك ، ولا جرم أنك قائم ، فمن فتح فللنظر إلى أصل { لا جرم } كما نقول : لا بد أن نفعل كذا وأنك تفعل ، أي من أن ومن أنك تفعل ، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في { لا جرم } - انتهى . فتفسيره لها بالقطع نظر منه إلى أن مادة " جرم " بخصوصها دائرة على القطع ، والأصنع تفسيرها بالظن نظراً إلى ما تدور عليه المادة من حيث هي - بأي ترتيب كان - من جرم وجمر ورجم ورمج ومجر ومرج ، وإنما جعلتها كذلك لأنهم قالوا جرم النخل : خرصها ، وأجمر النخل أيضاً : خرصها ، ورجم - إذا ظن ، والمجر : العقل ، ويلزم الظن اتقاد الذهن ومنه جمرة النار ، والجرم - للأرض الشديدة الجر ، ويلزم الظن أيضاً اجتماع الفكر ، ومنه الجمرة للقلبية وكل ما شاكلها في الجمع ، ومنه الجرم بالكسر وهو الجسد فإنه بالنظر إلى جميعه ، والصوت أو جهارته فإنه يجمع فيه الحلق لقطعه ، ويلزم الاجتماع أيضاً العظمة ، ومنه أجرم - إذا عظم ، والجمير كأمير : مجتمع القوم ، ومن الجمع الرياء والعقل ، فينشأ منه الصفاء ، ومنه { مارج من نار } أي لا دخان فيه ، ومنه أجرم لونه : صفا ، ومن الاجتماع المجر - بالتحريك ، وهو أن يملأ بطنه من الماء ولم يرو ، والكسب ، جرم لأهله - إذا كسب ، ومنه الذنب فإنه كسب خاص ، ويمكن أن يكون من القطع لأنه يقطع صاحبه عن الخير ، ويلزم الاجتماع أيضاً الاستتار ومنه أجمرت الليلة - استتر فيها الهلال ، والمجر لما في بطون الحوامل من الإبل والغنم ، أو يجعل هذا مما يلزم نفس الظن من الخفاء ، ومن الاجتماع الضمور ، أجمر الخيل : أضمرها ، وشاة مجمرة : مهزولة ، ويلزم الاجتماع الصلابة والتمام ، ومنه حول مجرم كمعظم : تام ، فينشأ الافتراق ، ومنه تجرم الليل : ذهب ، وابنا جمير كأمير : الليل والنهار ، أو يكون ذلك من لوازم القطع كما يأتي ؛ ومن الاجتماع الرجم الذي هو الخليل والنديم ، ويلزم الظن الفصل بين الأشياء ، ومنه جرام النخل لصرامها ؛ والجمرة : الحصاة ، فيلزم مطلق الرمي فينشأ الرمي بالجمار ، وهي الحجارة فينشأ القتل للمرجوم ، وهو يرجع أيضاً إلى نفس القطع ، فإنه قطع النفس عما كانت عليه ، ويلزم الفصل القذف والعيب ؛ والرماج كسحاب : كعوب الرمح لانفصال بعضها عن بعض ، والرمج بالفتح وهو إلقاء الطير ذرقه ، ويلزم الظن المبالغة في النظر فتأتي المبالغة في الكلام والعزيمة ، ومنه المرجام للماد عنقه في السير من الإبل ، وأجمر : أسرع في السير ، وقد يلزم الظن الحيرة ، ومنه حديث مرجم كمعظم : لا يوقف على حقيقته ، فيلزم حينئذٍ الذنب والفساد والقلق والاضطراب ، ومنه أمرج العهد : لم يف به ، أي جعله مارجاً مزلزلاً ، وعلى الاضطراب تدور مادة " مرج " بخصوص هذا الترتيب ، أو الترميج : إفساد سطور بعد كتبتها ، ويلزم الظن الاختلاط ، ومنه الجرم للون لأنه لا يخلو عن شوب ، وأجرم الدم به : لصق ، والإجرام : متاع الراعي ، أو هي من الكسب ، والجرام كرمان : السمك ؛ والمرج : موضع الرعي ، وقد علم من هذا أن جميع تصاريف المادة تدور على الاضطراب وهو بين في غير العقل ، وأما فيه فإنه يقدر العقل يكون اضطراب الرأي لأن العاقل كلما أنعم النظر انفتح له ما كان مغلقاً فيعدل إليه ، فإذا ظهر هذا ظهر أن معنى " لا جرم " أنهم لا ظن ولا اضطراب في أنهم ، ويكون نفي الظن في مثل هذا السياق نفياً لجميع ما يقابله إلاّ العلم الذي هو بمعنى القطع كما إذا قيل : لا شك في كذا ولا ريب ، فاتضح أن تفسيرهم لها بـ " حقاً " تفسير معنى لمجموع الكلمتين لأنه إذا نفي في مثل هذا السياق الظن ثبت اليقين والقطع ، وإليه يرجع تفسير سيبويه لا حق لأنه يريد - والله أعلم - أن لا صلة ، وموضوعها في الأصل النفي ، فهي نافية لضد ما دخلت عليه ، فكأنه قيل : حق وثبت أنهم كذا وانتفى كل ما يضاده ، فهذا وجه كونها صلة مؤكدة ، وقريب من ذلك ما قيل في " إنما " نحو إنما زيد قائم ، أي أن زيداً قائم ، ما هو إلاّ كذلك ، فقد بان أن النافي مثل ذلك مؤكد - والله الموفق .