Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 22-24)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما أخبر تعالى يوسف عما يريد بيوسف عليه الصلاة والسلام بما ختمه بالإخبارعن قدرته ، أتبعه الإعلام بإيجاد ذلك الفعل دلالة على تمام القدرة وشمول العلم فقال : { ولما بلغ أشده } أي مجتمع قواه { آتيناه } أي بعظمتنا { حكماً } أي نبوة أو ملكة يكف بها النفس عن هواها ، من حكمة الفرس ، فلا يقول ولا يفعل إلا أمراً فصلاً تدعو إليه الحكمة ؛ قال الرماني : والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل ، لأن الدليل حكمة من أجل أنه يقود إلى المعرفة { وعلماً } أي تبييناً للشيء على ما هو عليه جزاء له لأنه محسن { وكذلك } أي ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به { نجزي المحسنين * } أي العريقين في الإحسان كلهم الذين رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به فأعلاه ما لم يعل غيره ؛ وعن الحسن : من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله ، والأشد : كمال القوة ، وهو جمع شدة عند سيبوبه مثل نعمة وأنعم ، وقال غيره : جمع شد ؛ قال ابن فارس في المجمل : وبعضهم يقول : لا واحد لها ، ويقال : واحدها شد - انتهى . قيل : وهذا هو القياس نحو ضب وأضب ، وصك وأصك ، وحظ وأحظ ، وضر وأضر ، وشر وأشر قال الرماني : قال الشاعر : @ هل غير أن كثر الأشرّ وأهلكت حرب الملوك أكاثر الأموال @@ انتهى . واختلفوا في حد الأشد فقيل : هو من الحلم ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من عشرين سنة ، وروى غير ذلك ، والمادة تدور على الصعوبة ، وهي ضد الرخاوة ، ويلزمها القوة ، فالشد على العدو منها ، وشد الحبل وغيره : أحكم فتله ، والشديد والمتشدد : البخيل - لصعوبة البذل عليه ، والشدة : صعوبة الزمان ، وشد النهار : ارتفاعه ، وهو قوته ، وشددت فلاناً : قويت يده ودبرت أمره ، وأشد القوم - إذا كانت دوابهم شداداً فهم مشدون ضد مضعفين . ولما أخبر تعالى أن سبب النعمة عليه إحسانه ، أتبعه دليله فقال : { وراودته } أي راجعته الخطاب ودارت عليه بالحيل ، فهو كناية عن المخادعة التي هي لازم معنى راد يرود - إذا جاء وذهب { التي } هي متمكنة منه غاية المكنة بكونه { هو في بيتها } وهو في عنفوان الشباب { عن نفسه } أي مراودة لم تكن لها سبب إلا نفسه ، لأن المراودة لا يمكن أن تتجاورز نفسه إلاّ بعد مخالطتها - كما تقول : كان هذا عن أمره ، وذلك بأن دارت عليه بكل حيلة ونصبت له أشراك الخداع وأقامت حيناً تفتل له في الذروة والغارب ، وذلك لأن مادة " راد " واوية ويائية بجميع تقاليبها السبعة : رود ، ودور ، وورد ، " ودير " وردي ، وريد ، ودري - تدور على الدوران ، وهو الرجوع إلى موضع الابتداء ، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار والرفق والمهلة وإعمال الحيلة وحسن النظر ، وربما يكون عن غير قصد فتأتي منه الحيرة فيلزم الفساد والهلاك ، يقال : دار فلان يدور - إذا مشى على هيئة الخلقة ، والدهر دواري - لدورانه باهله بالرفع والحط ، والدوار : شبه دوران في الرأس ، ودارة القمر معروفة ، والدائرة : الحلقة والدار تجمع العرصة والبناء - لدوران بنائها وللدوران فيها وللذهاب منها والرجوع إليها ، والداري : الملاح الذي يلي الشراع ، وهو القلع - لأنه يديره على عمود المركب ، أو لأنه يلزم دار السفينة ؛ والرائد : الذي يرتاد الكلأ ، أي يذهب ويجيء في طلبه - لمّا لم يكن له مقصد من الأرض معين كأنه يدور فيها ، والذي لا يكذب أهله ، وكل طالب حاجة - قاله ابن دريد . وراودت الرجل : أردته على فعل ؛ ورائد الرحى : يدها ، أي العود الذي تدار به ويقبض عليه الطاحن ، والرياد : اختلاف الإبل في المرعى مقبلة ومدبرة ، ورادت المرأة - إذا اختلفت إلى بيوت جاراتها ، وراد وساده - إذا لم يستقر ، والرود : الطلب والذهاب والمجيء ، وامش على رود - بالضم ، أي مهل ، وتصغيره رويد ، والمرود : الذي يكتحل به ، لأنه يدار في العين ، وحديدة تدور في اللجام ، ومحور البكرة من حديد ، والدير : معروف ، ويقال لرجل إذا كان رأس أصحابه : هو رأس الدير - كأنه من إرادة أصحابه به ، وترديت الرداء وارتديت - كأنه من الإدارة ، والرداء : السيف - لأنه يتقلد به في موضع الردى ، والرديان - محركاً : مشى الحمار بين آريه ومتمعكه ، وراديت فلاناً ، مثل : راودته ، وردت الجارية - إذا رفعت إحدى رجليها وقفزت بواحدة ، لأت مشيها حينئذٍ يشبه الدوران ، والريد - بالكسر : الترب ، لأنه يراودك ، أي يمشي معك من أول زمانك ؛ ومن الإتيان : الورود ، وهو إتيان المورد من ماء وطريق ، والوارد : الصائر إلى الماء للاستقاء منه ، وهو الذي ينزل إلى الماء ليتناول منه ، والورد معروف ، ونور كل شجرة ورد ، لأنه يقصد للشم وغيره ، ويخرج هو منها فهو وارد أي آتٍ ، وهو أيضاً مع ذلك مستدير ، والورد - بالكسر : يوم الحمى إذا أخذت صاحبَها لوقت لأنها تأتيه ، وهو من الدوران أيضاً لأنها تدور في ذلك الوقت بعينه ، وهذا كله يصلح للإقبال ، ومنه : أرنبة واردة ، أي مقبلة على السبلة ، والريد : أنف الجبل - قاله ابن فارس ، وقال ابن دريد : والريد : الحيد الناتىء من الجبل ، والجمع ريود ؛ وفي القاموس : الحيد من الجبل شاخص كأنه جناح ، ويسمى الشجاع الوارد ، لإقباله على كل ما يريده واستعلائه عليه ، والوريدان : عرقان مكتنفا صفحتي العنق مما يلي مقدمة غليظان ، والورد : النصيب من القرآن ، لأنه يقصد بالقراءة ويقبل عليه ويدار عليه ، ودريت الشيء : علمته ، فأنت مقبل عليه وارد إليه ، والدرئة - مهموزة : حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي ، والدرية - مهموزة وغير مهموزة : دابة يستتر بها رامي الصيد فيختله ، فهي من الإقبال والخداع ، وإن بنى فلان أدورا مكاناً ، أي اعتمدوا بالغزو والغارة ، والدريّ : شبيه بمدرى الثور وهو قرنه ، لأنه يقصد به الشيء ويقبل به على مراده فيصلحه به ، وما أدري أين ردي ؟ أي أين ذهب ؟ والإرواد : المهلة في الشيء ؛ وامش رويداً : على مهل ، والرادة والريدة : السهلة من الرياح ، فكأنها تأتي على مهل ؛ ومن الحيرة والفساد والهلاك : ردي الرجل - إذا هللك ، وأرداه الله ، وتردى في هوة : تهور فيها ، ورديته بالحجارة : رميته ، والرداة : الصخرة ، يكسر بها الشيء ، والمرادي : المرامي ؛ ومن حسن النظر : أرديت على الخمسين : زدت ، لأنه يلزم حسن النظر الزيادة ، وأراد الشيء على غيره ، أي ربا عليه ، وسيأتي بيان المهموز من هذه المادة في { سنراود } [ يوسف : 61 ] من هذه السورة إن شاء الله تعالى { وغلقت } أي تغليقاً كثيراً { الأبواب } زيادة في المكنة ، قالوا : وكانت سبعة ؛ والإغلاق : إطباق الباب بما يعسر معه فتحه { وقالت هيت } أي تهيأت وتصنعت { لك } خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري ؛ والمادة - على تقدير إصالة التاء وزيادتها بجميع تقاليبها : يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة - تدور على إرادة امتثال الأمر : هيت لك - مثلثة الآخر وقد يكسر أوله ، أي هلم ، وهيت تهييتاً : صاح ودعاه ، وهات - بكسر التاء أعطني - قال في القاموس ، والمهاياة مفاعلة منه ، والهيت : الغامض من الأرض ، كأنه يدعو ذا الهمة إلى الوقوف على حقيقته ، والتيه - بالكسر : الكبرياء والصلف ، فالتائه داع بالقوة إلى امتثال أمره ، والمفازة ، فإنها تقهر سالكها ، والضلال من المفازة - تسمية للشي باسم موضعه ، ومنه : تها - بمعنى غفل ، ومنه : مضى تهواء من الليل - بالكسر ، أي طائفة ، لأنها محل الغفلة ، أو لأنها تدعو ساهرها إلى النوم ونائمها إلى الانتباه ، هذا على تقدير إصالة التاء ، وأما على تقدير أنها زائدة فهاءَ بنفسه إلى المعالي : رفعها ، فهو يراه أهلاً لأن يمتثل أمرها ، والهوء : الهمة والأمر الماضي ، والهوء أيضاً : الظن ، ويضم ، وهؤت به : فرحت ، ولا يكون ذلك إلاّ لفعل ما يشتهي ، فكأنه امتثل أمرك ، وهوىء إليه - كفرح : همّ ، وهاء كجاء : لبى ، أي امتثل الأمر ، وهاء - بالكسر : هات ، وهاء - كجاء ، أي هاك ، بمعنى خذ ، والهيئة : حال الشيء وكيفيته الداعية إلى تركه أو لزومه ، وتهايؤوا : توافقوا ، وهاء إليه : اشتاق ، فكأنه دعاه إلى رؤيته ، وتهيأ للشيء : أخذ له هيئته ، فكأنه صار قابلاً للأمر ، أو لأن يمتثل أمره ، وهيأه : أصلحه ، والهيء - بالفتح والكسر : الدعاء إلى الطعام والشراب ودعاء الإبل للشرب ، وإيه - بكسر الهمزة : كلمة استزاده واستنطاق ، وبإسكان الهاء : زجر بمعنى حسبك ، وهأهأ : قهقه في ضحكه ، ولا يكون ذلك إلا بمن امتثل مراده . ولما قالت ما قالت وفعلت ما فعلت ، مع ما هي عليه من القدرة في نفسها ولها عليه من التسلط وهو عليه من الحسن والشباب ، كان كأنه قيل : إن هذا لموطن لا يكاد ينجو منه أحد ، فماذا كان منه ؟ فقيل : { قال } أي يوسف مستعملاً للحكم بالعلم { معاذ } أي أعوذ من هذا الأمر معاذ { الله } أي ألزم حصن الذي له صفات الكمال وهو محيط بكل شيء علماً وقدرة ، وملجأة الذي ينبغي الاعتصام به واللجاء إليه ؛ ثم علل ذلك بقوله : { إنه } أي الله { ربي } أي موجدي ومدبري والمحسن إليّ في كل أمر ، فأنا أرجو إحسانه في هذا { أحسن مثواي } بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه ، فإن خالفت أمر ربي فخنت مَن جعلني موضعاً للأمانة كنت ظالماً واضعاً للشيء في غير موضعه ، وهذا التقدير - مع كونه أليق بالصالحين المراقبين - أحسن ، لأنه يستلزم نصح العزيز ، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى . ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول : وإذا كان ظلماً كان ماذا ؟ قال ما تقديره : إني إذن لا أفلح ، وعلله بقوله : { أنه لا يفلح } أي لا يظفر بمراده أصلاً { الظالمون * } أي العريقون في الظلم - وهو وضع الشيء في غير موضعه - الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل ، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه ، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء ، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح . ولما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ إذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية ، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك : { ولقد همت به } أي أوقعت الهم ، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته ، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها { وهمَّ بها } كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب { لولا أن رءآ } أي بعين قلبه { برهان ربه } الذي آتاه إياه من الحكم والعلم ، أي لهمّ بها ، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين ، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى ، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب ، فلولا المراقبة لهمّ بها التوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً ، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء ، وأن السجن أحب إليه من ذلك ، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } [ يوسف : 25 ] - الآية ، من مطلق الإرادة ، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد " لولا " في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب ، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله ، وهذا مثل قوله تعالى { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } [ القصص : 10 ] أي لأبدت به ، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت ، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب " لولا " المحذوف بما لا دليل عليه من سابق الكلام ولا لاحقه - نبه على ذلك الإمام أبو حيان ، وسبقه إلى ذلك الإمام الرازي وقال : إن هذا قول المحققين من المفسرين ، وأشبع في إقامة الدلائل على هذا بما يطرب الأسماع ، وقدم ما يدل على جواب الشرط ليكون أول ما يقرع السمع ما يدل على أنه كان في غاية القدرة على الفعل ، وأنه ما منعه منه إلاّ العلم بالله ، فكأنه قيل : إن هذا التثبيت عظيم ، فقيل إشارة إلى أنه لازم له كما هو شأن العصمة : { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر { لنصرف عنه السوء } أي الهمّ بالزنا وغيره { والفحشاء } أي الزنا وغيره ، فكأنه قيل : لِمَ فعل به هذا ؟ فقيل { إنه من عبادنا } أي الذين عظمناهم بما لنا من العظمة { المخلصين * } أي هو في عداد الذين هم خير صرف ، لا يخالطهم غش ، ومن ذريتهم أيضاً ، وهذا مع قول إبليس { لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين } [ ص : 83 ] شهادة من إبليس أن يوسف عليه الصلاة والسلام بريء من الهمّ في هذه الواقعة ؛ قال الإمام : فمن نسبه إلى الهمّ إن كان من أتباع دين الله فليقبل شهادة الله ، وإن كان من أتباع إبليس وجنوده فليقبل شهادة إبليس بطهارته ، قال : ولعلهم يقولون : كنا تلامذة إبليس ثم زدنا عليه - كما قيل :