Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 1-2)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ بسم الله } الحق الذي كل ما عداه باطل { الرحمن } الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته { الرحيم } الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية { المر } . لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات والأرض مع الإعراض ، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال : { تلك } أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب { آيات } والآية : الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة { الكتاب } المنزل إليك { و } جميع { الذي } . ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز ، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على كل عاقل ، وكان ما تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيماً ، بني للمفعول قوله : { أنزل إليك } كائن { من ربك } فثبت حينئذ قطعاً أنه هو { الحق } أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة ، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره ، فهو أبعد شيء عن قولهم : إن وعده بالبعث سحر ، فوجب لثبوت حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به { ولكن أكثر الناس } أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم ، { لا يؤمنون * } أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله ، بل يقولون : إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنه تخييل ليست معاينة - كما قلنا { وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين } [ يوسف : 103 ] فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة ، هذا التقدير محتمل ، ولكن الذي يدل عليه ظاهر قوله تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق } [ الرعد : 19 ] أن { الذي } مبتدأ ، و { من ربك } صلة { أنزل } والخبر { الحق } والمقصود من هذه السورة هذه الآية ، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه ، وذلك لأنه لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين ، عطف الكلام إلى تفصيل أول سورة البقرة ، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها ، ويلتحم بذلك وصف المصدقين بذلك - كما ستقف عليه . وقال الإمام أبو جعفر بن زبير رحمه الله في برهانه : هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام { وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } [ يوسف : 105 - 106 - 107 - 108 ] فبيان آي السماوات في قوله { الله الذي رفع السماوات بغير عند ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } وبيان آي الأرض في قوله : { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } فهذه آي السماوات والأرض ، وقد زيدت بياناً في مواضع ، ثم في قوله تعالى : { يغشى الّيل النهار } ما يكون من الآيات عنهن ، لأن الظلمة عن جرم الأرض ، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية ، ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى : { وفي الأرض قطع متجاورات } [ الرعد : 4 ] إلى قوله : { لقوم يعقلون } [ الرعد : 4 ] . ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية ، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد ، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد المادة " يسقى " بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى : { وفي الأرض قطع متجاورات } الآية بقوله { وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد } ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار ، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } [ الرعد : 6 ] الآية ، ثم أتبع ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } [ الرعد : 7 ] ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال { الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام } الآيات إلى قوله : { وما لكم من دونه من وال } ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } [ الرعد : 12 ] ، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال : { ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } [ الرعد : 31 ] والمراد : لكان هذا القرآن { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] والتنبيه بعظيم هذه الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض ، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه ، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } [ الرعد : 31 ] فهو من نحو { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم } [ الجاثية : 3 ] أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم " من عرف نفسه عرف ربه " فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض ، ثم ذكر القرآن وما يحتمل ، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات . وأما قوله تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف : 106 ] فقد أشار إليه قوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب } وقوله تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى { وقليل ما هم } [ ص : 24 ] والمقول فيهم { أولئك هم المؤمنون حقاً } [ الأنفال : 4 ] ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم ، وإليهم الإشارة بقوله : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف : 106 ] قال عليه الصلاة والسلام " الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل " فهذا بيان ما أجمل في قوله { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وأما قوله تعالى : { أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } [ يوسف : 107 ] فما عجل لهم من ذلك في قوله : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله } القاطع دابرهم ، والمستأصل لأمرهم ، وأما قوله تعالى : { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة } [ يوسف : 108 ] الآية ، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام بينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين - كما تقدم ، ثم قد تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى : { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } [ الرعد : 20 ] إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً ، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم { إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } [ الرعد : 38 ] ، { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } [ الرعد : 40 ] { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً } [ الرعد : 43 ] ، والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف ، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات ؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام - انتهى . فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات ، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله : { وكأين من آية } من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات ، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار - على أنه قادر على كل شيء ، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة ، والدالة - بما للتعبير عنها من الإعجاز - على كونها من عند الله ، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل ، فقال : { الله } أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال وحده { الذي رفع السماوات } بعد إيجادها من عدم - كما أنتم بذلك مقرون ؛ والرفع : وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع ، كائنة { بغير عمد } جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود ، والعمود : جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل ، وأصله منع الميل { ترونها } أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم ، هذا على أن { ترونها } صفة ، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال : ما دليل أنها بغير عمد ؟ فقيل : المشاهدة التي لا أجلى منها . ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها ، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر ، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال : { ثم استوى على العرش } قال الرازي في لوامع البرهان : وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه ، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته ، فقال تعالى : { ذو العرش } كما قال { ذو الجلال } و " ذو " كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ ، وقال الرماني : والاستواء : الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان ، وأصله : استوى التدبير ، كما أن أصل القيام الانتصاب ، ثم يقال : قائم بالتدبير - انتهى . وعبر بـ " ثم " لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع ، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك ، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم ، أي لم يكن لهم مدافع ، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً ، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم { وسخر } أي ذلل تذليلاً عظيماً { الشمس } أي التي هي آية النهار { والقمر } أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد ، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة ، إذا لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه ، ولا كذلك زيد وعمرو . والتسخير : التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان { كل } أي من الكوكبين { يجري } . ولما كان السياق للتدبير ، علم أن المراد بجريهما لذلك ، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول ، ويتغير النبات وتضبط الأوقات ، وكلما كان التدبير أسرع ، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم ، فكان الموضع للام لا لإلى ، فعلل بقوله : { لأجل } أي لأجل اختصاصه بأجل { مسمى } هذي أجلها سنة ، وذاك أجله شهر ؛ والأجل : الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه . ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام ، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة ، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة : { يدبر الأمر } أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض ، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها ، لا يشغله شأن عن شأن ، مع أن هذا العالم - من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى - محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه ، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد . ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه ، قال { يفصل الآيات } أي التي برز إلى الوجود تدبيرها ، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته ، المشتملة عليها مبدعاته ، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها ، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم ، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار ، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها ، وإلا فكانت على نسق واحد ، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله : { وكأين من آية في السماوات والأرض } فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك . ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة ، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة ، علل بقوله : { لعلكم بلقاء ربكم } أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما يحتاجه التربية { توقنون * } أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة ، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك .