Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 1-7)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ بسم الله } الواحد الأحد الجامع لما شتت من بدد { الرحمن } الذي جمع خلقه في رحمة البيان { الرحيم * } الذي خص الأبرار بما أباحهم الرضوان . لما ختم التي قبلها بعنوان الكتاب ، ابتدأ هذه بشرح ذلك العنوان ، وأوله وصفه بأنه جامع والخير كله في الجمع والشر كله في الفرقة ، فقال تعالى : { الر تلك } أي هذه الآيات العالية المقام ، النفسية المرام { آيات الكتاب } أي الكامل غاية الكمال الذي لا كتاب على الحقيقة غيره ، الجامع لجمع ما يقوم به الوجود من الخيرات ، القاطع في قضائه من غير شك ولا تردد ، الغالب بأحكامه القاهرة في وعده ووعيده وأحكامه في إعجازه لجميع من يعانده . ولما كان الغالب في هذه السورة القطع الذي هو من لوازم الكتاب قدمه ، وذلك أنه قطع بأمر الأجل والملائكة ، وحفظ الكتاب والرمي بالشهب ، وكفاية المستهزئين ، فكان كما قال سبحانه { و } آيات { قرآن } أي قرآن جامع ناشر مفصل واصل ، إذ التنوين للتعظيم { مبين * } لجميع ما يجمع الهمم على الله فيوصل إلى السعادة ، وهذه الإبانة - التي لم تدع لبساً - هو متصف بها ، مع كونه جامعاً للأصول ناشراً للفروع لا خلل فيه يدخل منه عليه ، ولا فصم يؤتى منه إليه ، فأعجب لأمر حاوٍ لجميع وفرق وفصل ووصل : والإبانة : إظهار المعنى للنفس بما يميزه عن غيره ، لأن أصل الإبانة الفصل : فهذا شرح كونه بلاغاً ، فمقصود هذه السورة اعتقاد كون القرآن بلاغاً جامعاً للأمور الموصلة إلى الله ، مغنياً عن جميع الأسباب ، فلا ينبغي الالتفات إلى شيء سواه { ذرهم يأكلوا } ، { لا تمدن عينيك } { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وكان الجمع بين الوصفين الدال كل منهما على الجمع إشارة إلى الرد عليهم في جعلهم القرآن عضين ، وأن قولهم شديد المباعدة لمعناه . مع أن المفهومين - مع تصادقهما على شيء واحد - متغايران ، فالكتاب : ما يدون في الطروس ، والقرآن : ما يقرأ باللسان ، فكأن الأول إشارة إلى حفظه في الطروس بالكتابة ، والثاني إلى حفظه في الصدور بالدراسة ، وسيأتي قوله { وإنا له لحافظون } مؤيداً لذلك ، وكل من مادتي كتب وقرأ بجميع التقاليب تدور على الجمع . أما " كتب " - وتنقلب إلى كبت وتبك وبكت وبتك - فقال في المجمل : كتبت الكتاب أكتبه وهو من الجمع ، والكتاب أيضاً : الدواة - تسمية للشيء باسم ما هو آلته ، والمكتب - كمعظم : العنقود أكل بعض ما فيه - تشبيهاً له بالمكتوب ، والكتيبة : الجيش والجماعة المستحيزة من الخيل إذا أغارت من المائة إلى الألف - انتهى . وكتبت البغلة - إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة ؛ وقال القزاز : وأصله - أي الكتاب - ضمك الشيء إلى الشيء ، فكأنه سمي بذلك لضم الحروف بعضها إلى بعض ، كتبت المزادة - إذا خرزتها ، يعني : فضممت بعضها إلى بعض . والكتبة - بالضم : السير يخرز به ، وما يكتب به حياء الناقة لئلا ينزي عليها ، والإكتاب : شد رأس القربة ، والكتيبة : جماعة تكتبوا ، أي تجمعوا ، وتكتب الرجل - بتقديم الموحدة - إذا تقبض ، ومنه الكتاب - بضم الكاف وتخفيف التاء الفوقانية لسهم صغير يتعلم به الصبيان الرمي - كذا قال القزاز إنه مخفف ، وفي القاموس : وزنه كرمان - وزاد أنه مدور الرأس ، وكتبت الناقة تكتيباً : صررتها ، واكتتب بطنه : أمسك ، والمكتوتب : الممتلىء والمنتفخ ؛ ويلزم الجمع القطع والغلبة التي هي من لوازم القدرة ، فمن القطع : الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر ؛ والبتك : القطع ولذلك قيل للسيف : باتك ، أي قاطع ، ومن الغلبة والقدرة : الكتاب بمعنى القدر ، قال ابن الأعرابي : والكاتب عندهم العالم ، وقال القزاز : والكاتب : الحافظ ، وهذان يرجعان أيضاً إلى نفس الجمع - لجمع الحافظ المحفوظ والعالم المعلوم ؛ وكبت الله العدو - بتقديم الموحدة : صرفه ذليلاً ، وهو من تكبت الرجل - إذا تقبض ، وعبارة القزاز : كبت أعداءه : ردهم بغيظهم ، أي فانقمعوا وانجمعوا عما كانوا انتشروا له ، وكبت الرجل - إذا صرعه على وجهه ، وبكته تبكيتاً - إذا أنبّه أو ضربه بعصى أو سيف ونحوهما ، لما يلزمه من تصاغر نفسه وتقبضها . وأما قرأ ، مهموزاً - وينقلب إلى رقأ ، وأرق ، وأقر ، وغير مهموز يائياً وتراكيبه خمسة : قري ، وقير ، ورقي ، وريق ، وواوياً وتراكيبه ستة : قرو ، وقور ، ورقو ، وروق ، ووقر ، وورق - فهو للجمع أيضاً ، ويلزمه الإمساك ، وربما كان عنه الانتشار ، فمن الجمع : قرأت القرآن ، أي تلوته فجعلت بعض حروفه وكلماته وآياته تالياً لبعض متصلاً به مجموعاً معه ، ويلزم القراءة النسك ، ومنه القارىء والمتقرىء والقراء - كرمان . أي الناسك ، ويلزم عنه الفقه ، ولذا قيل : تقرأ - إذا تفقه ، وهو من الجمع نفسه أيضاً لأن الناسك جمع النسك إلى القراءة وانجمع همه ، والفقيه جمع الفقه إليها ؛ قال في المجمل : والقرآن من القرء وهو الجمع ، أي وزناً ومعنى ، وفي القاموس : وقرأ عليه السلام : أبلغه كأقرأه ، ولا يقال : أقرأه ، إلا إذا كان السلام مكتوباً ؛ وقال الزبيدي في مختصر العين : وقرأت المرأة قرءاً ، إذا رأت دماً ، وأقرأت - إذا حاضت فهي مقرىء - انتهى . فكأنه عبر بذلك عند رؤية الدم لأنه لا يعرف أن المرأة جمعته إلا برؤيته ، وهو من الانتشار الذي قد يلزم الجمع ، أو يكون فعل هنا للإزالة ، فمعناه : أزالت إمساك الدم كما أن هذا معنى أقرأت فإن فعل - لخفته وكثرة دوره - يتصرف في معاني جميع الأبواب ، وقال في المجمل : وأقرأت المرأة : خرجت من طهر إلى حيض أو حيض إلى طهر ، قلت : فالأول يكون فيه أفعل للإزالة ، والثاني للدخول في الشيء كما تقول : اتهم الرجل وأنجد - إذا دخل في تهامة أو نجد ، قال : والقرء : وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة ، قلت : فالأول للجمع نفسه ، والثاني لأنه دليل الجمع ، قال : والجمع قروء ، ويقال : { القروء } هو الطهر ، وذلك أن المرأة الطاهرة كان الدم اجتمع وامتسك في بدنها فهو من : قريت الماء ، وقرى الآكل الطعام في شدقه ، وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر ، والمعنى واحد إذا كان الأصل واحداً ، وقوم يذهبون إلى أن القرء : الحيض ، وفي القاموس : والقرء - ويضم : الحيض والطهر ضد - وقد تقدم تخريج ذلك ، والوقت - لأنه جامع لما فيه ، والقافية - لأنها جامعة لشمل الأبيات ، جمعه أقرؤ وقروء ، وجمع الحيض أقراء ، وكأن العلة في ذلك أنه لما كان جمع الكثرة هو الأصل في الجمع ، لأن المراد بالجمع نفسه الكثرة ، فكلما كان أكثر كان به أجدر ، لمّا كان الأصل كذلك ، وكان القرء بمعنى الطهر هو الأصل في مدلول الجمع ، كان أحق بجمع الكثرة الذي هو أعرق في الجمع ، ولما كان القرء بمعنى الحيض فرعاً ، كان له جمع القلة الذي هو فرع في باب الجمع ؛ وأقرأت : حاضت وطهرت ، وأقرأت الرياح : هبت لوقتها - لأن هبوبها دال على اجتماعها كظهور دم الحيض ، وقرأ الشيء : جمعه وضمه ، والحامل : ولدت - لأن ظهور الولد هو المحقق لجمعها إياه في بطنها ، وأقرأ : رجع ودنا وأخر واستأخر وغاب وانصرف وتنسك كتقرأ ، بعضه للإيجاب وبعضه للسلب ، والمقرأة - كمعظمة : التي ينتظر بها انقضاء أقرائها ، وقد قرئت : حبست لذلك ، وأقراء الشعر : أنواعه وانحاؤه - لأنها جامعة للأجزاء ، والقرءة - بالكسر : الوباء - لجمعه الهم ، واستقرأ الجمل الناقة : تاركها لينظر ألقحت أم لا - من التتبع والسبر ، وهو بمعنى جمع الأدلة ، وقرأت الناقة - إذا حملت ، فهي قارىء ، أي جمعت في بطنها ولداً ، وأقرأت - إذا استقر الماء في رحمها ؛ ومن الإمساك : رقأ الدم والدمع رقوءاً - إذا انقطعا ، قال أبو زيد : والرَّقوء - أي بالفتح : ما يوضع على الدم فيسكن ، ورقأ بينهم : أصلح وأفسد ، وفي الدرجة : صعد ، وهي المرقاة وتكسر ، ورقأ العرق : ارتفع - منه ما هو بمعنى الجمع ومنه ما هو بمعنى الانتشار والعلو الذي ربما لزماه ، ومن الإمساك : الأرق ، وهو السهر لأنه يمسك النوم ، والإرقان : دود يكون في الزرع - فكأنه يوجب الهم الذي يكون عنه الأرق ، ويمكن أن يكون من الانتشار الذي ربما يلزم الجمع ، ويمكن أن يكون من الجمع نفسه ، لأنه يجمع الهم - والله أعلم ؛ وفي القاموس : والإرقان بالكسر : شجر أحمر ، والحناء ، والزعفران ، ودم الأخوين - كأنه سبب للعكوف عليه بالاسترواح إليه ، أو أنه يجمع بصبغه لوناً إلى لون ، والإرقان أيضاً : آفة تصيب الزرع والناس كالأرقان محركة وبكسرتين وبفتح الهمزة وضم الراء ، والأرق والأرقان - بفتحهما ، والأراق - كغراب ، واليرقان - محركة ، وهذه أشهر داء يتغير منه لون البدن فاحشاً إلى صفرة أو سواد - كأن ذلك لمّا كان سبب الأرق كان هو الأرق البليغ ، وزرع مأروق وميروق : مؤوف ، والأقر - بضمتين : واد واسع مملوء حمضاً ومياهاً ، وهو واضح في معنى الجمع ، قد مضى من هذه المادة جملة في آخر سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى { إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } [ يوسف : 109 ] وتأتي بقيتها إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله { وفي آذانهم وقراً } [ الكهف : 57 ] . ولما وصف سبحانه هذا القرآن بما وصفه من العظمة والإبانة لجميع المقاصد التي منها سؤال الكفرة عند رؤية العذاب التأخير للطاعة في قوله تعالى { وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب } كان كأنه قيل : ما له لم يبين للكفرة سوء عاقبتهم بياناً يردهم ؟ فقال سبحانه باسطاً لقوله { ولينذروا به } { ربما يود } أشار تعالى بكونه مضارعاً إلى أن ودهم لذلك يكون كثيراً جداً متكرراً ، وإيلاءه لربما - وإنما يليها في الأغلب الماضي - معلم بأنه مقطوع به كما يقطع بالماضي الذي تحقق ووقع { الذين كفروا } أي ولو وقتاً ما والود : التمني وهو تقدير المعنى في النفس للاستمتاع ، وإظهار ميل الطباع له إليه ، وفيه اشتراك بين التمني والحب - قال الرماني ، وهو هنا للتمني فإنه بين مودودهم بقوله : { لو كانوا } أي كوناً جبلياً { مسلمين * } أي عريقين في وصف الإسلام من أول أمرهم إلى آخره ؛ قال الرماني : والإسلام : إعطاء الشيء على حال سلامة كإسلام الثوب إلى من يقصره ، وإسلام الصبي إلى من يعلمه ، فالإسلام الذي هو الإيمان - إعطاء معنى الحق في الدين بالإقرار والعمل به - انتهى . وقد كان ما أخبر الله به فقد ندم كل من أسلم من الصحابة على تأخير إسلامه لما علموا فضل الإسلام ورأوا فضائل السابقين - كما هو مذكور في السير وفتوح البلدان وسيكون ما شاء من ذلك في القيامة وما قبلها ، فالمعنى أنكم إن كذبتم في القطع - في نحو قوله { فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا } [ إبراهيم : 44 ] ، الآية - بأنكم ترجعون عن هذا الشمم وتتبرؤون من هذه السجايا والهمم فتسألون الله تعالى في الطاعة ، وقد فات الفوت بحلول حادث الموت إلى غيره ، فلا أقل من أن يكون عندكم شك في الأمور التي يجوز كونها ، ولا ينبغي حينئذ للعاقل ترك الاهتمام بالاستعداد على تقدير هذا الاحتمال ، هذا - أعني التقليل - مدلول " رب " ، وقال بعضهم : إنها قد ترد للتكثير ، وقال الجمال ابن هشام في كتاب المغني : إنه أغلب أحوالها ، واستدل بشواهد لا تدل عند التأمل . ولا يصح قول من نسب إلى الكشاف ذلك ، فإن كلامه مأخوذ من الزجاج ، وعبارة الزجاج - كما نقلها الإمام جمال الدين محمد بن المكرم في كتابه لسان العرب ومن خطه نقلت : من قال : إن رب يعني بها التكثير فهو ضد ما تعرفه العرب ، فإن قال قائل : فلم جازت في قوله { ربما يود الذين كفروا } و { رب } للتقليل ؟ فالجواب أن العرب خوطبت بما تعلمه في التهدد ، والرجل يتهدد الرجل فيقول : لعلك ستندم على فعلك ؟ وهو لا يشك أنه يندم ، ويقول : ربما ندم الإنسان على ما صنعت ، وهو يعلم أن الإنسان يندم كثيراً ، ولكن مجازه أن هذا لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب ، أو كان الإنسان يخاف أن يندم على الشيء لوجب عليه اجتنابه ، والدليل عل أنه معنى التهدد قوله تعالى { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } انتهى . فقد علم من هذا أنهم يطلقونها بمعنى القلة فيما يعلمون أنه كثير إرخاء للعنان وتنبيهاً على وجوب الأخذ بالأحوط ، وذلك واقع في التهديد ، وفرق كبير بين ما يعلم أنه كثير من أمر خارج عن العبارة المخبر بها عنه وبين ما تعرف كثرته من تلك العبارة ، وزيدت ما فيها تأكيداً من حيث إنها تفهم أن الأمر لا يكون إلا كذلك ، ولتهيئتها لمجيء الفعل بعدها ؛ قال الإمام أبو حيان : والظاهر أن ما في رب ، مهيئة ، وذلك أنها من حيث هي حرف جر - على خلاف فيه - لا يليها إلا الأسماء ، فجيء بها مهيئة لمجيء الفعل بعدها ، وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجىء في القرآن إلا في هذا الموضع - انتهى . ودخلت ههنا على المضارع - وهي للماضي - لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان ، أو لأن " ما " إذا لحقتها سوغت دخولها على المستقبل كما تدخل على المعرفة - قال الرماني . ولما طرق لهم سبحانه الاحتمال ، كان كأنه قيل : هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له ؟ فقيل : بل استمروا على عنادهم ، فقال - مستأنفاً ملتفتاً إلى ما أشار إليه في أول سورة ابراهيم في قوله { الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة } [ إبراهيم : 3 ] من المانع لهم عن الإذعان - : { ذرهم } يا أعز الخلق عندنا ! كالبهائم { يأكلوا ويتمتعوا } والتمتع : التلذذ ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال { ويلههم } أي يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة { الأمل } أي رجاءهم طول العمر وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ من غير سبب مهيىء لذلك ولما كان هذا امراً لا يشتغل به إلا أحمق ، سبب عنه التهديد بقوله : { فسوف يعلمون * } أي ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع . وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } [ إبراهيم : 42 ] إلى خاتمتها ، أعقب ذلك بقوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل ، ثم قال تعالى تأكيداً لذلك الوعيد { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ثم أعقب تعالى : هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان ، لا انفكاك لها عنها ولا تقدم ولا تأخر ، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت ، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه ، وقال تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } وكان هذا يزيد أيضاحاً قوله عز وجل : { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] وقوله : [ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب وقوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] الآية ؛ وتأمل نزول قوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله ، وأما افتتاح السورة بقوله : { الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } فإحالة على أمرين واضحين : أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر ، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضاً ، فكيف لا يكون المتوعد به في قوة الواقع المشاهد ، لشدة البيان في صحة الوقوع فالعجب من التوقف والتكذيب ! ثم أعقب هذا بقوله { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } انتهى . ولما هددوا بآية التمتع وإلهاء الأمل ، وكان من المعلوم جداً من أحوالهم الاستعجال بالعذاب تكذيباً واستهزاء ، كان الكلام في قوة أن يقال : فقالوا : يا أيها الذي نزل عليه الذكر ! عجل لنا ما تتوعدنا به ، وكان هذا غائظاً موجعاً حاملاً على تمني سرعة الإيقاع بهم ، فقيل في الجواب : إن لهم أجلاً بكتاب معلوم لا بد من بلوغهم له ، لأن المتوعد لا يخاف الفوت فهو يمهل ولا يهمل ، لأنه لا يبدل القول لديه ، فليستعدوا فإن الأمر غيب ، فما من لحظة إلا وهي صالحة لأن يتوقع فيه العذاب ، فإنا لا نهلكهم إلا إذا بلغوا كتابهم المعلوم { وما } جعلنا هذا خاصاً بهم ، بل هو عادتنا ، ما { أهلكنا } أي على ما لنا من العظمة ، وأكد النفي فقال : { من قرية } أي من القرى . ولما كان السياق للإهلاك واستعجالهم واستهزائهم به ، وكان تقديره سبحانه وكتُبه من عالم الغيب ، اقتضى الحال التأكيد بما يدل على أنه محتوم مفروغ منه سابق تقديره على زمن الإهلاك ، فأتى بالواو لأن الحال بدون الواو كالجزء من سابقها كالخبر والنعت الذي لا يتم المعنى بدونه ، والتي بالواو هي زيادة في الخبر السابق ، ولذلك احتيج إلى الربط بالواو كما يربط بها في العطف ، فقال : { إلا ولها } أي والحال أنه لها في الإهلاك أو لإهلاكها { كتاب معلوم * } أي أجل مضروب مكتوب في اللوح المحفوظ ، أو يكون التقدير : فسوف يعلمون إذا جاءهم العذاب في الأجل الذي كتبناه لهم : هل يودون الإسلام أم لا ؟ ثم بين الآية السابقة بقوله : { ما تسبق } وأكد الاستغراق بقوله : { من أمة } وبين أن المراد بالكتاب الأجل بقوله : { أجلها } أي الذي قدرناه لها { وما يستأخرون * } أي عنه شيئاً من الأشياء ، ولم يقل : تستأخر - حملاً على اللفظ كالماضي ، لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعنتاً . ثم لما أجابهم بهذا الجواب الدال على تمام القدرة وكمال العلم الدالين على الوحدانية ، عطف على ما تقدم أنه في قوة الملفوظ قوله دالاً على تركهم الجواب إلى التعنت والسفه : { وقالوا } أي لم يجوزوا أنهم يودون ذلك ، بل استمروا على العناد وقالوا : { يأيها الذي } ولما كان تكذيبهم بالتنزيل نفسه ، بني للمفعول قوله : { نزل عليه } أي بزعمه { الذكر } وبينوا أنهم ما سموه تنزيلاً إلا تهكماً ، فقالوا مؤكدين لمعرفتهم بأن قولهم منكر : { إنك لمجنون } أي بسبب ادعائك أن الله أنزل عليك ذكراً والذي تراه جني يلقى إليك تخليطاً ، فكان هذا دليلاً على عنادهم ، فإنهم أقاموا الشتم مقام الجواب عما مضى صنعه المغلوب المقطوع في المناظرة ، تم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا : { لو ما } أي هلا ولم لا { تأتينا بالملائكة } دليلاً على صدقك إما للشهادة لك وإما لإهلاك من خالفك { إن كنت } أي جبلة وطبعاً { من الصادقين * } فيما تقول ، أي ما وجه اختصاصك عنا بنزول الملائكة عليك ورؤيتك إياهم وأنت مثلنا في الإنسانية والنسب والبلد ؟ هذا بعد أن قامت على صدقه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي أعظمها القرآن الداعي لهم إلى المبارزة كل حين المبكت لهم بالعجز عن المساجلة كل وقت .