Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 106-112)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان ما ذكر في هذه السورة من الحكم والدلائل والقصص واعظاً شافياً حكيماً ، ومرشداً هادياً عليماً ، قال واصلاً بما تقدم إشارة إلى أنه نتيجته : { إن في هذا } أي الذي ذكرناه هنا من الأدلة على قدرتنا على قيام الساعة وغيرها من الممكنات ، وعلى أن من ادعى علينا أمراً فأيدناه عليه وجعلنا العاقبة له فيه فهو صادق محق ، وخصمه كاذب مبطل { لبلاغاً } لأمراً عظيماً كافياً في البلوغ إلى معرفة الحق فيما ذكرناه من قيام الساعة والوحدانية وجميع ما تحصل به البعثة { لقوم } أي لأناس أقوياء على ما يقصدونه { عابدين * } أي معترفين بالعبودية لربهم الذي خلقهم اعترافاً تطابقه الأفعال بغاية الجد والنشاط . ولما كان هذا مشيراً إلى رشادهم ، فكان التقدير : فما أرسلناك إلا لإسعادهم والكفاية لهم في البلاغ إلى جنات النعيم ، عطف عليه ما يفهم سبب التأخير لإنجاز ما يستعجله غير العابدين من العذاب فقال : { وما أرسلناك } أي بعظمتنا العامة على حالة من الأحوال { إلا } على حال كونك { رحمة للعالمين * } كلهم ، أهل السماوات وأهل الأرض من الجن والأنس وغيرهم ، طائعهم بالثواب ، وعاصيهم بتأخير العقاب ، الذي كنا نستأصل به الأمم ، فنحن نمهلهم ونترفق بهم ، إظهاراً لشرفك وإعلاء لقدرك ، حتى نبين أنهم مع كثرتهم وقوتهم وشوكتهم وشدة تمالئهم عليك لا يصلون إلى ما يريدون منك ، ثم نرد كثيراً منهم إلى دينك ، ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك ، بعد طول ارتكابهم الضلال ، وارتباكهم في أشراك المحال ، وإيضاعهم في الجدال والمحال ، فيلعم قطعاً أنه لا ناصر لك إلا الله الذي يعلم القول في السماء والأرض ، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الأولون والآخرون ، وتقوم الملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم ، ويموج بعضهم في بعض من شدة ما هم فيه ، يطلبون من يشفع لهم في أن يحاسبوا ليستريحوا من ذلك الكرب أما إلى جنة أو نار ، فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام ، والتحية والإكرام ، فيحيل بعضهم على بعض ، وكل منهم يقول : لست لها ، حتى يأتوه صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها ، ويقوم ومعه لواء الحمد فيشفعه الله وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وقد سبقت أكثر الحديث بذلك في سورة غافر عند { ولا شفيع يطاع } [ الآية : 18 ] . ولما كان البلاغ الذي رتب هذا لأجله هو التوحيد الملزوم لتمام القدرة ، أتبع الإشارة إلى تأخيرهم الإيمان إلى تحذيرهم فقال : { قل } أي لكل من يمكنك له القول : { إنما يوحى إليّ } أي ممن لا موحي بالخير سواه وهو الله الذي خصني بهذا الكتاب المعجز { أنما إلهكم } . ولما كان المراد إثبات الوحدانية ، لإله مجمع على إلهيته منه ومنهم ، كرر ذكر الإله فقال : { إله واحد } لا شريك له ، لم يوح إليّ في أمر الإله إلا الوحداينة ، وما إلهكم إلا واحد لمن يوح إليّ فيما تدعون من الشركة غير ذلك ، فالأول من قصر الصفة على الموصوف ، أي الحكم على الشيء ، أي الموحي به إليّ مقصور على الوحدانية لا يتعداها إلى الشركة ، والثاني من قصر الموصوف على الصفة ، أي الإله مقصور على الوحدة لا يتجاوزها إلى التعدد ، والمخاطب بهما من يعتقد الشركة ، فهو قصر قلب . ولما انضم إلى ما مضى من الأدلة العقلية في أمر الوحدانية هذا الدليل السمعي ، وكان ذلك موجباً لأن يخشى إيجاز ما توعدهم به فيخلصوا العبادة لله ، أشار إلى ذلك مرهباً ومرغباً بقوله : { فهل أنتم مسلمون * } أي مذعنون له ملقون إليه مقاليدكم متخلون عن جميع ما تدعونه من دونه لتسلموا من عذابه وتفوزوا بثوابه ، ففي الآية أن هذه الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع . ولما كان توليهم بعد هذه القواطع مستبعد ، أشار إلى ذلك بإيراده بأداة الشك فقال : { فإن تولوا } أي لم يقبلوا ما دعوتهم إليه { فقل } أي لهم : { ءاذنتكم } أي أعلمتكم ببراءتي منكم وأني غير راجع إليكم أبداً كما أنكم تبرأتم مني ولم ترجعوا إليّ ، فصار علمكم أن لا صلح بيننا مع التولي كعلمي وعلم من اتبعني . لتتأهبوا لجميع ما تظنونه ينفعكم ، فهو كمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدره ، فنبذ إليهم العهد ، شهر ذلك النبذ وأشاعه فلم يخفه عن أحد منهم ، وهو مما اشتهر أنه بلغ النهاية في الفصاحة والوجازة ، أو أبلغتكم جميع ما أرسلت به ولم أخص به أحداً دون أحد ، وهذا كله معنى { على سواء } أي إيذاناً مستعلياً على أمر نصف وطريق عدل ، ليس فيه شيء من خفاء ولا غش ولا خداع ولا عذر ، بل نستوي فيه نحن وأنتم . ولما كان من لازم البراءة من شخص الإيقاع به كان موضع أن يقولوا هزؤاً على عادتهم : نبذت إلينا على سواء فعجل لنا ما تتوعدنا به ، فقال : { وإن } أي وما { أدري أقريب } جداً بحيث يكون قربه على ما تتعارفونه { أم بعيد ما توعدون * } من عذاب الله في الدنيا بأيدي المسلمين أو بغيره ، أو في الآخرة مع العلم بأنه كائن لا محالة ، وأنه لا بد أن يلحق من أعراض عن الله الذل والصغار . ولما كان من المقطوع به من كون الشك إنما هو في القرب أو البعد أن يكون التقدير : لكنه محقق الوجود ، لأن الله واحد لا شريك له ، وقريب عند الله ، لأن كل ما حقق إيجاده قريب ، علله بقوله : { إنه } أي الله تعالى { يعلم الجهر } ولما كان الجهر قد يكون في الأفعال ، بينه بقوله : { من القول } مما تجاهرونه به من العظائم وغير ذلك ، ونبه الله تعالى على ذلك لأن من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين ، فأعلم سبحانه أنه لا يشغله صوت عن آخر ولا يفوته شيء عن ذلك ولو كثر { ويعلم ما تكتمون * } مما تضمرونه من المخازي كما قال تعالى أولها { قل ربي يعلم القول في السماء والأرض } ومن لازم ذلك المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل ، فستعلمون كيف يخيب ظنونكم ويحقق ما أقول ، فتقطعون بأني صادق عليه ولست بساحر ، ولا حالم ولا كاذب ولا شاعر ، فهو من أبلغ التهديد فإنه لا أعظم من التهديد بالعلم . ولما كان الإمهال قد يكون نعمة ، وقد يكون نقمة ، قال : { وإن } وما { أدري } أي أيكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أو لا . ولما كان إلى كونه نقمة أقرب ، قال معبراً عما قدرته : { لعله } أي تأخير العذاب وإيهام الوقت { فتنة لكم } أي اختبار من الله ليظهر ما يعلمه منكم من الشر لغيره ، لأن حالكم حال من يتوقع منه ذلك { ومتاع } لكم تتمتعون به { إلى حين * } أي بلوغ مدة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل ، ثم يأخذكم بغتة أخذه يستأصلكم بها . ولما كان اللازم من هذه الآيات تجويز أمور تهم سامعها وتقلقه للعلم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل ، وكان من العدل جواز تعذيب الطائع وتنعيم العاصي ، كان كأنه قيل : فما قال الرسول الشفوق على الأمة حين سمع هذا الخطاب ؟ فقيل : قال مبتهلاً إلى الله تعالى - هذا على قراءة حفص . وعلى قراءة الجمهور : لما علم سبحانه أن ذلك مقلق ، أمره صلى الله عليه وسلم بما يرجى من يقلق من أتباعه فقال : { قال رب } أي ايها المحسن إلي في نفسي واتباعي بامتثال أوامرك واجتناب نواهيك { احكم } أي أنجز الحكم بيني وبين هؤلاء المخالفين { بالحق } أي بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان على ما أجريته من سنتك القديمة في أوليائك وأعدائك { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } [ الحجر : 8 ] أي الأمر الفصل الناجز ، قال ابن كثير : وعن مالك عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قال { رب احكم بالحق } . وفي الآية أعظم حث على لزوم الإنسان بالحق ليتأهل لهذه الدعوة . ولما كان التقدير : فربنا المنتقم الجبار له أن يفعل ما يشاء وهو قادر على ما توعدون ، عطف عليه قوله : { وربنا } أي المحسن إلينا أجمعين ؛ ثم وصفه بقوله : { الرحمن } أي العام الرحمة لنا ولكم بإدرار النعم علينا ، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين وإن كنا نحن أطعناه ، لأنا لا نقدره حق قدره { لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } والحاصل أنه لما سأل { الحق } المراد به الهلاك للعدو والنجاة للولي ، أفرد الإضافة إشارة إلى تخصيصه بالفضل ، وإفرادهم بالعدل ، ولما سأل العون عم بالإضافة والصفة قنوعاً بترجيح جانبه بالعون وإن شملتم الرحمة ، ولأن من رحمتهم خليتهم عما هم عليه من الشر فقال : { المستعان } أي المطلوب منه العون وهو خبر المبتدأ موصوف { على ما تصفون * } مما هو ناشىء عن غفلتكم الناشئة عن إعراضكم عن هذا الذكر من الاستهزاء والقذف بالسحر وغيره ، والمناصبة بالعداوة والتوعد بكل شر ، فقد انطبق آخر السورة على أولها بذكر الساعة رداً على قوله { اقترب للناس حسابهم } وذكر غفلتهم وإعراضهم وذكر القرآن الذي هو البلاغ ، وذكر الرسالة بالرحمة لمن نسبوه إلى السحر وغيره ، وتفصيل ما استعجلوا به من آيات الأولين وغير ذلك ، وقام الدليل بالسمع بعد العقل على تحقق أمر الساعة بأنه سبحانه لا شريك له يمنعه من ذلك ، وأنه يعلم السر وأخفى ، وهو رحمن ، فمن رحمته إيجاد يوم الدين ليجازي فيه المحسن بإحسانه ، والمسيء بكفرانه ، وفي ذلك أعظم ترهيب في أعلى حاث على التقوى للنجاة في ذلك اليوم ، وهو أول التي تليها - والله الموفق .