Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 7-13)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان من لم يكتف بالحلال مكلفاً نفسه طلب ما يضره ، سبب عن ذلك قوله معبراً بما يفهم العلاج : { فمن ابتغى } أي تطلب متعدياً { وراء ذلك } العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنى أو لواط أو استمناء يد أو بهيمة أو غيرها { فأولئك } البعيدون من الفلاح { هم العادون } أي المبالغون في تعدي الحدود ، لما يورث ذلك من اختلاط الأنساب ، وانتهاك الأعراض ، وإتلاف الأموال ، وإيقاد الشر بين العباد . ولما كان ذلك من الأمانات العظيمة ، أتبعه عمومها فقال : { والذين هم لأماناتهم } أي في الفروج وغيرها ، سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام وغيرهما ، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق ، أو بينهم وبين خلق كالوادئع والبضائع ، فعلى العبد الوفاء بجميعها - قاله الرازي . ولما كان العهد أعظم أمانة ، تلاها به تنبيهاً على عظمه فقال : { وعهدهم راعون * } أي الحافظون بالقيام والرعاية والإصلاح . ولما كانت الصلاة أجلّ ما عهد فيه من أمر الدين وآكد ، وهي من الأمور الخفية التي وقع الائتمان عليها ، لما خفف الله فيها على هذه الأمة بإيساع زمانها ومكانها ، قال : { والذين هم على صلواتهم } التي وصفوا بالخشوع فيها { يحافظون * } أي يجددون تعهدها بغاية جدهم ، لا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها ، ويجتهدون في كمالاتها ، وحّدت في قراءة حمزة والكسائي للجنس ، وجمعت عند الجماعة إشارة إلى أعدادها وأنواعها ، ولا يخفى ما في افتتاح هذه الأوصاف واختتامها بالصلاة من التعظيم لها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة " . ولما ذكر مجموع هذه الأوصاف العظيمة ، فخم جزاءهم فقال : { أولئك } أي البالغون من الإحسان أعلى مكان { هم } خاصة { الوارثون * } أي المستحقون لهذا الوصف المشعر ببقائهم بعد أعدائهم فيرثون دار الله لقربهم منه واختصاصهم به بعد إرثهم أرض الدنيا التي قارعوا عليها على قتلهم وضعفهم أعداءَنا الكفار على كثرتهم وقوتهم ، فكانت العاقبة فيها لهم كما كتبنا في الزبور { إن الأرض يرثها عبادي الصالحون } { لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم } [ إبراهيم : 13 ، 14 ] { الذين يرثون الفردوس } التي هي أعلى الجنة ، وهي في الأصل البستان العظيم الواسع ، يجمع محاسن النبات والأشجار من العنب وما ضاهاه من كل ما يكون في البساتين والأودية التي تجمع ضروباً من النبت : فيحوزون منها بعد البعث ما أعد الله لهم فيها من المنازل وما كان أعد للكفار لو آمنوا أو لم يخرجوا بخروج أبويهم من الجنة { هم } خاصة { فيها } أي لا في غيرها { خالدون * } وهذه الآيات أجمع ما ذكر في وصف المؤمنين ، روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في التفسير من جامعه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا ، ثم قال : لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ { قد أفلح المؤمنون } حتى ختم العشر " - ورواه النسائي في الصلاة وقال : منكر لا يُعرَف أحد رواه غير يونس بن سليم ويونس لا نعرفه ، وعزى أبو حيان آخر الحديث للحاكم في المستدرك . وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : فصل في افتتاحها ما أجمل في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] وأعلم بما ينبغي للراكع والساجد التزامه من الخشوع ، ولالتحام الكلامين ما ورد الأول أمراً والثاني مدحه وتعريفاً بما به كمال الحال ، وكأنه لما أمر المؤمنين ، وأطمع بالفلاح جزاء لامتثاله ، كان مظنة لسؤاله عن تفصيل ما أمر به من العبادة وفعل الخير الذي به يكمل فلاحه فقيل له : المفلح من التزم كذا وكذا ، وذكر سبعة أضرب من العبادة هي أصول لما وراءها ومستتبعة سائر التكاليف ، وقد بسط حكم كل عبادة منها وما يتعلق بها في الكتاب والسنة ؛ ولما كانت المحافظة على الصلاة منافرة إتيان المأثم جملة { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] لذلك ما ختمت بها هذه العبادات بعد التنبيه على محل الصلاة من هذه العبادة بذكر الخشوع فيها أولاً ، واتبعت هذه الضروب السبعة بذكر أطوار سبعة يتقلب فيها الإنسان قبل خروجه إلى الدنيا فقال تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } - إلى قوله : { ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } وكأن قد قيل له : إنما كمل خلقك وخروجك إلى الدنيا بعد هذه التقلبات السبعة . وإنما تتخلص من دنياك بالتزام هذه العبادات السبع ، وقد وقع عقب هذه الايات قوله تعالى { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } ولعل ذلك مما يقرر هذا الاعتبار ووارد لمناسبته - والله أعلم ، وكما أن صدر هذه السورة مفسر لما أجمل في الآيات قبلها فكذا الآيات بعد مفصلة لمجمل ما تقدم في قوله تعالى { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة } [ الحج : 5 ] وهذا كاف في التحام السورتين والله سبحانه المستعان - انتهى . ولما ذكر سبحانه الجنة المتضمن ذكرها للبعث ، استدل على القدرة عليه بابتداء الخلق للإنسان ، ثم لما هو أكبر منه من الأكوان ، وما فيهما من المنافع ، فلما ثبت ذلك شرع يهدد من استكبر عنه بإهلاك الماضين ، وابتدأ بقصة نوح عليه الصلاة والسلام لأنه أول ، ولأن نجاته كانت في الفلك المختوم به الآية التي قبله ، وفي ذلك تذكير بنعمة النجاة فيه لأن الكل من نسله ، فلما ثبت بالتهديد بإهلاك الماضين القدرة التامة بالاختيار ، خوف العرب مثل ذلك العذاب ، فلما تم زاجر الإنذار بالنقم شرع في الاستعطاف إلى الشكر بالنعم ، بتمييز الإنسان على سائر الحيوان ونحو ذلك ، ثم عاد إلى دلائل القدرة على البعث بالوحدانية والتنزه عن الشريك والولد - إلى آخرها ، ثم ذكر في أول التي بعدها على ما ذكر هنا من صون الفروج ، فذكر حكم من لم يصن فرجه وأتبعه ما يناسبه من توابعه . ولما كان التقدير : فلقد حكمنا ببعث جميع العباد بعد الممات ، فريقاً منهم إلى النعيم ، وفريقاً إلى الجحيم ، فإنا قادرون على الإعادة وإن تمزقتم وصرتم تراباً فإنه تراب له أصل في الحياة ، كما قدرنا على البداءة فلقد خلقنا أباكم آدم من تراب الأرض قبل أن يكون للتراب أصل في الحياة ، عطف عليه قوله ، دلالة على هذا المقدر واستدلالاً على البعث مظهراً له في مقام العظمة ، مؤكداً إقامة لهم بإنكارهم للبعث مقام المنكرين : { ولقد خلقنا الإنسان } أي هذا النوع الذي تشاهدونه آنساً بنفسه مسروراً بفعله وحسه { من سلالة } أي شيء قليل ، بما تدل عليه الصيغة كالقلامة والقمامة ، انتزعناه واستخلصناه برفق ، فكان على نهاية الاعتدال ، وهي طينة آدم عليه الصلاة السلام ، سلّها - بما له من اللطف - { من طين * } أي جنس طين الأرض ، روى الإمام أحمد وأبو داود والترميذي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق آدم عن قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب وبين ذلك " . ولما ذكر سبحانه أصل الآدمي الأول الذي هو الطين الذي شرفه به لجمعه الطهورين ، وعبر فيه بالخلق لما فيه من الخلط ، لأن الخلق - كما مر عن الحرالي في أول البقرة : تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة ، مع أنه ليس مما يجري على حكمة التسبيب التي نعهدها أن يكون من الطين إنسان ، أتبعه سبحانه أصله الثاني الذي هو أطهر الطهورين : الماء الذي منه كل شيء حي ، معبراً عنه بالجعل لأنه كما مر أيضاً إظهار أمر سبب وتصيير ، وما هو من الطين مما يتسبب عنه من الماء ويستجلب منه وهو بسيط لا خلط فيه فلا تخليق له ، وعبر بأداة التراخي لأن جعل الطين ماء مستبعد جداً فقال : { ثم جعلناه } أي الطين أو هذا النوع المسلول من المخلوق من الطين بتطوير أفراده ببديع الصنع ولطيف الوضع { نطفة } اي ماء دافقاً لا أثر للطين فيه { في قرار } أي من الصلب والترائب ثم الرحم ، مصدر جعل اسماً للموضع { مكين * } أي مانع من الأشياء المفسدة .