Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 62-64)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان سبحانه قد نفى عنهم الإيمان بالتولي عن الأحكام ، وتلاه بما رأيت أن تظمه أحسن نظام ، حتى ختم بما أومأ إلى أن من عمي عن أحكامه بعد هذا البيان مسلوب العقل ، وكرر في هذه السورة ذكر البيان ، تكريراً أشار إلى لمعان المعاني بأمتن بنان حتى صارت مشخصات للعيان ، وبين من حاز وصف الإيمان ، بحسن الاستئذان ، وكان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أجلّ موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان ، فتصير الأرض برحبها ضيقة لأجله ، محظوراً سلوكها مِن جرّاه ، بمنزلة بيت الغير الذي لا يحل دخوله بغير إذن ، قال معرفاً بذلك على طريق الحصر مقابلاً لسلب { وما أولئك بالمؤمنين } [ المائدة : 43 ] مبيناً عظيم الجناية في الذهاب عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي للجمع من غير إذن : { إنما المؤمنون } أي الكاملون الذين لهم الفلاح { الذين آمنوا بالله } أي الملك الأعلى { ورسوله } ظاهراً وباطناً . ولما كان الكلام في الراسخين ، كان الموضع لأداة التحقيق فقال : { وإذا } أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا { كانوا معه } أي الرسول صلى الله عليه السلام { على أمر جامع } أي لهم على الله ، كالجهاد لأعداء الله ، والتشاور في مهم ، وصلاة الجمعة ، ونحو ذلك { لم يذهبوا } عن ذلك الأمر خطوة إلى موضع من الأرض ولو أنه بيوتهم ، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم ، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره { حتى يستأذنوه } فيأذن لهم ، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم ، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم ، لا حظ لهم فيه ، فلا يحل لهم أن يدخلوه حساً أو معنى إلا بإذنه ، وهذا من عظيم النتبيه على عليّ أمره ، وشريف قدره ، وذلك أنه سبحانه كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول عليه وعلى غيره ، أفرده بأمرهم باستئذانه عند الانصراف عنه صلى الله عليه وسلم ، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول ، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر ، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحاً له . ولما نفى عن المؤمنين الذهاب إلى غاية الاستئذان ، فأفهم أن المستأذن مؤمن ، صرح بهذا المفهوم ليكون آكد ، فقال تشديداً في الإخلال بالأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم ، وتأكيداً لحفظ حرمته والأدب معه لئلا يتشوش فكره في أسلوب آخر ، وبياناً لأن الاستئذان مصداق الإيمان : { إن الذين يستأذنونك } أي يطلبون إذنك لهم إذا أرادوا الانصراف ، في شيء من أمورهم التي يحتمل أن تمنع منها { أولئك } العالو الرتبة خاصة { الذين يؤمنون } أي يوجدون الإيمان في كل وقت { بالله } الذي له الأمر كله فلا كفوء له { ورسوله } وذلك ناظم لأشتات خصال الإيمان . ولما قصرهم على الاستئذان ، تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك فقال : { فإذا استأذنوك } أي هؤلاء الذين صحت دعواهم ؛ وشدد عليهم تأكيداً لتعظيم الأدب معه صلى الله عليه وسلم بقوله : { لبعض شأنهم } وهو ما تشتد الحاجة إليه { فأذن لمن شئت منهم } قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن اراد أن يخرج لعذر قام بحياله فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء ، قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده ، وقيل : كذلك ينبغي أن يكون الناي مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم لا يخذلونهم في نازلة من النوازل . ولما أثبت له بهذا التفويض من الشرف ما لا يبلغ وصفه ، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت ، فقال : { واستغفر لهم الله } أي الذي له الغنى المطلق ، فلا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، أو يكون الكلام شاملاً لمن صحت دعواه وغيره ؛ ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار ، وتطييباً لقلوب أهل الأوزار ، بقوله : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه { رحيم * } أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه . ولما أظهرت هذه السورة بعمومها ، وهذه الآيات بخصوصها ، من شرف الرسول ما بهر العقول ، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم ، والمنصب الأتم ، وعلم منه أن له صلى الله عليه وسلم في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره ، صرح بذلك تفخيماً للشأن ، وتعظيماً للمقام ، ليتأدب من ناضل عن المنافق ، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق ، فقال منبهاً على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب { لا تجعلوا } أي ايها الذين آمنوا { دعاء الرسول } أي لكم الذي يوقعه { بينكم } ولو على سبيل العموم ، في وجوب الامتثال { كدعاء بعضكم بعضاً } فإن أمره عظيم ، ومخالفته استحلالاً كفر ، ولا تجعلوا أيضاً دعاءكم إياه كدعاء بعضكم لبعض بمجرد الاسم ، بل تأدبوا معه بالتفخيم والتبجيل والتعظيم كما سن الله بنحو : يا ايها النبي ، ويا أيها الرسول ، مع إظهار الأدب في هيئة القول الفعل بخفض الصوت والتواضع . ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة ، ويبطن المخالفة ، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته ، فقال معللاً مؤكداً محققاً معلماً بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان : { قد يعلم الله } أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو سبحانه يعلم { الذين يتسللون } وعين أهل التوبيخ بقوله : { منكم } أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء { لواذاً } أي تسللاً مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض ؛ يقال : لاذ بالشيء لوذاً ولواذاً وملاوذة : استتر وتحصن ، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه ، ولعله أدخل " قد " على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقاً ، ويفتح لأهل الريب إلى الاحتمال طريقاً ، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال ؛ وسبب عن علمه قوله : { فليحذر } أي يوقع الحذر { الذين يخالفون } أي يوقعون مخالفته بالذهاب مجاوزين معرضين { عن أمره } أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى خلافه { أن تصيبهم فتنة } أي شيء يخالطهم في الدنيا فيحل أمورهم إلى غير الحالة المحبوبة التي كاونوا عليها { أو يصيبهم عذاب أليم * } في الآخرة ، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب حتى يصرف عنه صارف ، لترتيب العقاب على الإخلال به ، لأن التحذير من العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب . ولما أقام سبحانه الأدلة على أنه نور السماوات والأرض بأنه لا قيام لشيء إلا به سبحانه ، وختم بالتحذير لكل مخالف ، أنتج ذلك أن له كل شيء فقال : { ألا إن لله } اي الذي له جميع المجد جميع { ما في السماوات } ولثبوت أنه سبحانه محيط العلم والقدرة ، لم يقتض المقام التأكيد بإعادة الموصول فقال : { والأرض } أي من جوهر وعرض ، وهما له أيضاً لأن الأرض في السماء ، وكل سماء في التي فوقها حتى ينتهي ذلك إلى العرش الذي صرح في غير آية أنه صاحبه ، وهو سماء أيضاً لعلوه عما دونه ، فكل ما فيه له ، وذلك أبلغ - لدلالته بطريق المجاز - مما لو صرح به ، فدل ذلك - بعد الدلالة على وجوده - على وحدانيته ، وكمال علمه وقدرته . ولما كانت أحوالهم من جملة ما له ، كان من المعلوم أنها لم تقم في أصلها ولا بقاء لها إلا بعلمه ولأنها بخلقه ، فلذلك قال محققاً مؤكداً مرهباً : { قد يعلم ما أنتم } أيها الناس كلكم { عليه } أي الآن ، والمراد بالمضارع هنا وجود الوصف من غير نظر إلى زمان ، ولو عبر بالماضي لتوهم الاختصاص به ، والكلام في إدخال " قد " عليه كما مضى آنفاً باعتبار أولي النفوذ في البصر ، وأهل الكلال والكدر { ويوم } أي ويعلم ما هم عليه يوم { يرجعون } أي بقهر قاهر لهم على ذلك ، لا يقدرون له على دفاع ، ولا نوع امتناع { إليه } وكان الأصل : ما أنتم عليه ، ولكنه أعرض عنهم تهويلاً للأمر ، أو يكون ذلك خاصاً بالمتولين المعرضين إشارة إلى أنهم يناقشون الحساب ، ويكون سر الالتفاف التنبيه على الإعراض عن المكذب بالقيامة ، والإقبال على المصدق ، صوناً لنفيس الكلام ، عن الجفاة الأغبياء اللئام { فينبئهم } أي فيتسبب عن ذلك أنه يخبرهم تخبيراً عظيماً { بما عملوا } فليعدوا لكل شيء منه جواباً { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { بكل شيء } من ذلك وغيره { عليم * } فلذلك أنزل الآيات البينات ، وكان نور الأرض والسماوات ، فقد رد الختام على المبدأ ، والتحم الآخر بالأول والاثنا - والله الهادي .