Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 15-18)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كانت عادتهم تجويز الممكن من كل ما يحذرون منه من الخلق ، اقتضى الحال سؤالهم : هل أعدوا لما هددوا به من الخالق عدة أم لا ؟ في سياق الاستفهام عن المفاضلة بينه وبين ما وعده المتقون ، تنبيهاً على أنه أعلى رتبة من الممكن فإنه واقع لا محالة ، وتهكماً بهم ، فقال تعالى : { قل أذلك } أي الأمر العظيم الهول الذي أوعدتموه من السعير الموصوفة . ولما كانت عادة العرب في بيان فضل الشيء دون غيره الإتيان بصيغة أفعل تنبيهاً على أن سلب الخير عن مقابله لا يخفى على أحد ، أو يكون ذلك على طريق التنزل و إرخاء العنان ، تنبيهاً للعاقل على أنه يكفيه في الرجوع عن الغي طروق احتمال لكون ما هو عليه مفضولاً قال : { خير أم جنة الخلد } أي الإقامة الدائمة { التي وعد المتقون } أي وقع الوعد الصادق المحتم بها ، ممن وعده هو الوعد ، للذين خافوا فصدقوا بالساعة جاعلين بينهم وبين أهوالها وقاية مما أمرتهم به الرسل ؛ ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله : { كانت } أي تكونت ووجدت بإيجاده سبحانه { لهم جزاء } على تصديقهم وأعمالهم { ومصيراً * } أي مستقراً ومنتهى ، وذلك مدح لجزائهم لأنه إذا كان في محل واسع طيب كان أهنأ له وألذ كما أن العقاب إذا كان في موضع ضيق شنيع كان أنكى وأوجع ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ لمن كان يعقل فيجوز الممكنات . ولما ذكر تعالى نعيمهم بها ذكر ، تنعمهم فيها فقال : { لهم فيها } أي الجنة خاصة لا في غيرها { ما يشاؤون } من كل ما تشتهيه أنفسهم { خالدين } لا يبغون عنه حولاً { كان } أي ذلك كله { على ربك } أي المحسن إليك بالإحسان إلى أتباعك { وعداً } . ولما أشار سبحانه إلى إيجاب ذلك على نفسه العظيمة بالتعبير بـ " على " والوعد ، وكان الإنسان لا سيما مجبولاً على عزة النفس ، لا يكاد يسمح بأن يسأل فيما لا يحقق حصوله ، قال : { مسئولاً * } أي حقيقاً بأن يسأل إنجازه ، لأن سائله خليق بأن يجاب سؤاله ، وتحقق ظنونه وآماله ، فالمعنى أنه إذا انضاف إلى تحتيمه الشيء على نفسه سؤال الموعود به إياه ، أنجز لا محالة ، وهو من وادي { أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ البقرة : 186 ] وفيه حث عظيم على الدعاء ، وترجية كبيرة للإجابة ، كما وعد بذلك سبحانه في { أجيب دعوة الداع } [ البقرة : 186 ] و { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وإن لم ير الداعي الإنجاز فإن الأمر على ما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى المنذري : بأسانيد جيدة - والحاكم وقال : صحيح الإسناد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : أما أن يجعل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ، قالوا : إذن نكثر ؟ قال : الله أكثر " وللحاكم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول : عبدي ! إني أمرتك أن تدعوني ، ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني ؟ فيقول : نعم ! يا رب فيقول : أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجيب لك ؟ أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك ؟ فيقول : نعم ! يا رب ! فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا ، ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً ؟ قال : نعم ! يا رب فيقول : إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا ، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها ؟ فيقول : نعم ! يا رب ! فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا ، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها ؟ فيقول : نعم ! يارب ! فيقول أني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا ، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة ، فيقول المؤمن في ذلك المقام : يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه " ولابن حبان في صحيحه والحاكم وقال : صحيح الإسناد - عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد " وللترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة " وللبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي " وفي رواية لمسلم والترمذي : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ، قيل : يا رسول الله ! ما الاستعجال ؟ قال : يقول : قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء " قال المنذري : يستحسر أي يمل ويعيى فيترك الدعاء - انتهى . وقد فهم من الآية ومن الحديث في استثناء الإثم وقطيعة الرحم أن ما لا مانع من سؤاله موعود بإجابته ونواله ، فليدع الإنسان به موقناً بالإجابة . ولما ذكر لهم حالهم في الساعة معه سبحانه ، أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه ، فقال بالالتفات إلى مظهر العظمة على قراءة الجماعة : { ويوم } أي قل لهم ما أمرتك به ، واذكر لهم يوم { يحشرهم } أي المشركين ، بما لنا من العظمة التي نبرزها في ذلك اليوم ، من القبور ؛ وقرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وحفص عن عاصم بالياء التحتية فيكون الضمير للرب { وما يعبدون } أي من الملائكة والإنس والجن وغيرهم ممن يعقل وممن لا يعقل ؛ ونبه على سفول رتبتهم عن ذلك وعدم أهليتهم بقوله : { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، وذكرها بلفظ " ما " إشارة إلى أن ناطقها وصامتها جماد بل عدم بالنسبة إليه سبحانه بما أشار إليه التعبير بالاسم الأعظم الدال على جميع الكمال ، مع أن " ما " موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم وإن كان أكثر استعماله في غير العقلاء ، وعبر سبحانه بقوله : { فيقول } بإعادة ضمير الغيبة بعد التعبير بنون العظمة في " نحشر " في قراءة غير ابن عامر لتقدم الجلالة الشريفة ، تحقيقاً للمراد وتصريحاً به ، وإعلاماً بأن المراد بالنون العظمة لا جمع ، وقرأ ابن عامر بالنون موحداً الأسلوب : { أنتم } أي أيها المعبودات ! بإيلاء الهمزة الضمير سؤالاً عن المضل ، لأن ضلال العبدة معروف لا يسأل عنه { أضللتم } بالقهر والخداع والمكر { عبادي هؤلاء } حتى عبدوكم كما في الآية الأخرى { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [ سبأ : 40 ] في أمثالها من الآيات كما في الحديث القدسي : " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالهم الشياطين " { أم } . ولما كان السؤال - كما مضى - عن الفاعل لا عن الفعل ، كان لا بد من قوله : { هم } أي باختيار منهم لإهمالهم استعمال ما أعطيتهم من قويم العقل وسديد النظر { ضلوا } وأوصل الفعل بدون " عن " كما في هداة الطريق بدون " إلى " لكثرة الدور ، وللإشارة إلى قوة الفعل فقال : { السبيل * } أي الذي نهجته ونصبت عليه الأدلة القاطعة ، البراهين الساطعة { قالوا } أي المعبودات الحي منهم والجماد ، المطيع والعاصي : { سبحانك } أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال . ولما أنتج التنزيه أنهم لا فعل لغيره سبحانه ، عبروا عنه بقولهم : { ما كان ينبغي } أي يصح ويتصور { لنا أن نتخذ } أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك { من دونك } وكل ما سواك فهو دونك { من أولياء } أي ينفعوننا ، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا ، فكيف نترك من بيده كل شيء وهو أقرب إلينا في كل معنى من معاني الولاية من كل شيء من العلم والقدرة وغيرهما إلى من لا شيء بيده ، وهو أبعد بعيد من كل معنى من معاني الولاية ، فلو تكلفنا جعله قريباً لم يكن كذلك ، وهذه عبارة صالحة سواء كانت من الصالحين ممن عبد من الأنبياء والملائكة أو غيرهم ، فإن كانت من الصالحين فمعناها : ما كان ينبغي لنا ذلك فلم نفعله وأنت أعلم ، كما قال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس } [ آل عمران : 79 ] الآية ؛ وإن كانت من الجمادات فالمعنى : ما كنا في حيز من يقدر على شيء من ذلك ، ولكن فعلوه بطراً ؛ وإن كانت من مثل فرعون فالمعنى : ما كان لنا هذا ، ولكن هم أنزلونا هذه المنزلة بمجرد دعائنا لهم كما يقول إبليس - فما كان لنا عليهم من سلطان إلا أن دعوناهم فاستجابوا ، وذلك لعدم نظرهم في حقائق الأمور ، فألقى الكل إلى الله يومئذ السلم ، فثبت أنهم ليسوا في تلك الرتبة التي أنزلوهم إياها ، وفائدة السؤال مع شمول علمه تعالى تبكيت المعاندين وزيادة حسراتهم وأسفهم ، وتغبيط المؤمنين إذا سمعوا هذا الجواب ، هذا مع ما في حكايته لنا من الموعظة البالغة ، وقراءة ابي جعفر بالبناء للمفعول بضم النون وفتح الخاء واضحة المعنى ، أي يتخذنا أحد آلهة نتولى أموره . ولما كان المعنى : إنا ما أضللناهم ، أما إذا قدر من الملائكة ونحوهم فواضح ، وأما من غيرهم فإن المضل في الحقيقة هو الله ، وفي الظاهر بطرهم النعمة ، واتباعهم الشهوات التي قصرت بهم عن إمعان النظر ، وأوقفتهم مع الظواهر ، حسن الاستدراك بقوله : { ولكن } أي ما أضللناهم نحن ، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت { متعتهم وآباءهم } في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن ، وأطلت أعمارهم في ذلك { حتى نسوا الذكر } الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره ، وهو الإيمان بكل ما أرسلت به سبحانك رسلك برهان ما يعرفه كل عاقل من نفسه بما وهبته من غريزة العقل من أنه لايصح بوجه أن يكون الإله إلا واحداً ، ما بين العاقل وبين ذكر ذلك إلا يسير تأمل ، مع البراءة من شوائب الحظوظ والحاصل أنك سببت لهم أسباباً لم يقدروا على الهداية معها ، فأنت الملك الفعال لما تريد ، لا فعل لأحد سواك { وكانوا } في علمك بما قضيت عليهم في الأزل { قوماً بوراً * } هلكى .