Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 31-36)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان في هذا الكلام معنى الشكاية وشدة التحرق ، وعظيم التحزن كما يشير إليه إثبات يا التي للبعد ، على خلاف ما جرت به العادة في نداء الخواص الذين هو أخصهم ، والاستفهام عن سبب هجرانهم مع ما لهم إليه من الدواعي ، كان كأنه قيل : ذلك بأن من فعله عاداك حسداً لك ، وعطف عليه : { وكذلك } أي ومثل ما فعلنا من هذا الفعل العظيم وأنت أعظم الخلق لدنيا { جعلنا } بما لنا من العظمة { لكل نبي } أي من الأنبياء قبلك ، رفعة لدرجاتهم { عدواً من المجرمين } الذين طبعناهم على الشغف بقطع ما يقتضي الوصل فأضللناهم بذلك إهانة لهم فاصبر كما صبروا فإني سأهدي بك من شئت ، وأنصرك على غيرهم ، وأكرم قومك من عذاب الاستئصال تشريفاً لك . ولما كان موطناً تعلق فيه النفوس متشوقة إلى الهداية بعد هذا الطبع ، والنصرة بعد ذلك الجعل ، كان كأنه قيل : لا تحزن فلنجعلن لك ولياً ممن نهديه للإيمان ، ولننصرنهم على عدوهم كما فعلنا بمن قبلك ، بل أعظم حتى نقضي أممهم من ذلك العجب ، ولا يسعهم إلا الخضوع لكم والدخول في ظلال عزكم ، ولما كان ذلك - لكثرة المعادين - أمراً يحق له الاستبعاد ، قال عاطفاً على ما تقديره ؛ ثم نصر إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على من جعلهم أعداءهم ربُّك الذي أرسلهم : { وكفى بربك } أي المحسن إليك { هادياً } يهدي بك من قضى بسعادته { ونصيراً * } ينصرك على من حكم بشقاوته . ولما ذكر سبحانه شكايته من هجرانهم للقرآن ، وقرر عداوتهم له ونصرته عليهم ، أتبع ذلك بما يدل عليه ، فقال عطفاً على ما مضى من الأشباه في الشبه ، وأظهر موضع الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي حملهم على هذا القول : { وقال الذين كفروا } أي غطوا عدواة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام لإعجازه لهم متفرقاً ، فضلاً عن كونه مجتمعاً ، وغطوا ما وضح لهم من آثاره الظاهرة الشاهد بوحدانيته ، وغير ذلك من صفاته العلية : { لولا } أي هلا . ولما كانوا لشدة ضعفهم لا يكادون يسمحون بتسمية القرآن تنزيلاً فضلاً عن أن يسندوا إنزاله إلى الله سبحانه وتعالى ، بنوا للمفعول في هذه الشبهة التي أوردها قولهم : { نُزِّل عليه } ولما عبروا بصيغة التفعيل المشيرة إلى التدريج والتفريق استجلاباً للسامع لئلا يعرض عنهم ، أشاروا إلى أن ذلك غير مراد فقالوا : { القرآن } أي المقتضي اسمه للجمع ؛ ثم صرحوا بالمراد بقولهم : { جملة } وأكدوا بقولهم : { واحدة } أي من أوله إلى آخره بمرة ، ليتحقق أنه من عند الله ، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه هو الذي يرتبه قليلاً قليلاً ، فتعبيرهم بما يدل على التفريق أبلغ في مرادهم ، فإنهم أرغبوا السامع في الإقبال على كلامهم بتوطينه على ما يقارب مراده ، ثم أزالوا بالتدريج أتم إزالة ، فكان في ذلك من المفاجأة بالروعة والإقناط مما أمّل من المقاربة ما لم يكن في " أنزل " والله أعلم . ولما كان التقدير : وما له ينزل عليه مفرقاً ، وكان للتفريق فوائد جليلة ، أشار سبحانه إلى عظمتها بقوله معبراً للإشارة إلى ما اشتملت عليه من العظمة بأداة البعد : { كذلك } أي أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه { لنثبت به فؤادك } بالإغاثة بتردد الرسل بيننا وبينك ، وبتمكينك وتمكين أتباعك من تفهم المعاني ، وتخفيفاً للأحكام ، في تحميلها أهل الإسلام ، بالتدريج على حسب المصالح ، ولتنافي الحكمة في الناسخ والمنسوخ ، لما رتب فيه من المصالح ، وتسهيلاً للحفظ لا سيما والأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، وتلقيناً للأجوبه في أوقاتها ، وتعظيماً للإعجاز ، لأن ما تحدى بنجم منه فعجز عنه علم أن العجز عن أكثر منه أولى ، فالحاصل أن التفريق أدخل في باب الإعجاز وفي كل حكمة ، فعلم أن هذا الاعتراض فضول ومماراة بما لا طائل تحته من ضيق الفطن ، وقلة الحلية ، وحرج الخطيرة ، دأب المقطوع المبهوت ، لأن المدار الإعجاز ، وأما كونه جملة أو مفرقاً فأمر لا فائدة لهم فيه ، وليست الإشارة محتملة لأن تكون للكتب الماضية ، لأن نزولها إنما كان منجماً كما بينته في سورة النساء عن نص التوراة المشير إليه نص كتابنا ، لا كما يتوهمه كثير من الناس ، ولا أصل له إلا كذبة من بعض اليهود شبهوا بها على أهل الإسلام فمشت على أكثرهم وشرعوا يتكلفون لها أجوبة ، واليهود الآن معترفون بأن التوراة نزلت في نحو عشرين سنة والله الموفق . ولما كان إنزله مفرقاً أحسن ، أكده بقوله عطفاً على الفعل الذي تعلق به " كذلك " { ورتلناه ترتيلاً * } أي فرقناه في الإنزال إليك تفريقاً في نيف وعشرين سنة ؛ وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : بيناه بياناً ، والترتيل : التبين في ترسل وتثبت انتهى . وأصله ترتيل الأسنان وهو تفليجها كنور الأقحوان . ولما كان التقدير : قد بطل ما أتوا به هذا الاعتراض ، عطف عليه قوله : { ولا يأتونك } أي المشركون { بمثل } أي باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء بما يجتهدون في تنميقه وتحسينه وتدقيقه حتى يصير عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظاً ومعنى { إلا جئناك } أي في جوابه { بالحق } ومن الألف واللام الدالة على الكمال يُعرَف أن المراد به الثابت الذي لا شيء أثبت منه ، فيرهق ما أتوا به لبطلانه ، ويفتضح بعد ذلك الستر فضيحة تخجّل القائل والسامع القابل . ولما كان التقدير في الأصل : بأحق منه ، وإنما عبر بالحق ، لئلا يفهم أن لما يأتون به وجهاً في الحقيقة ، عطف عليه قوله : { وأحسن } أي من مثلهم { تفسيراً * } أي كشفاً لما غطى الفهم من ذلك الذي خيلوا به وادعوا أنهم أوضحوا به وجهاً من وجوه المطاعن ، فجزم أكثر من السامعين بحسنه . ولما أنتجت هذه الآيات كلها أنهم معاندون لربهم ، وأنهم يريدن بهذه السؤالات أن يضللوا سبيله ، ويحتقروا مكانته ، ويهدروا منزلته ، علم قطعاً أنه يعمر بهم دار الشقاء ، وكان ذلك أدل على أنهم أعمى الناس عن الطرق المحسوسة ، فضلاً عن الأمثال المعلومة ، والتمثيل للمدارك الغامضة ، وأنهم أحقر الناس لأنه لا ينتقص الأفاضل إلا ناقص ، ولا يتكلم الإنسان إلا فيمن هو خير منه ، قال معادلاً لقوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير } [ الفرقان : 24 ] واصفاً لما تقدم أنه أظهره موضع الإضمار من قوله { الذين كفروا } [ الفرقان : 32 ] { الذين يحشرون } أي يجمعون قهراً ماشين مقلوبين { على وجوههم } أو مسحوبين { إلى جهنم } كما أنهم في الدنيا كانوا يعملون ما كأنهم معه لا يبصرون ولا تصرف لهم في أنفسهم ، تؤزهم الشياطين أزاً ، فإن الآخرة مرآة الدنيا ، مهما عمل هنا رئي هناك ، كما أن الدنيا مزرعة الآخرة ، مهما عمل فيها جنيت ثمرته هناك " روى البخاري عن أنس رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا نبي الله ! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال : " أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ؟ قال قتادة : يعني الراوي عن أنس : بلى وعزة ربنا " . ولما وصف المتعنتين في أمر القرآن بهذا الوصف ، استأنف الإخبار بأنهم متصفون بما ألزموا به من أن الإتيان بالقرآن مفرقاً وضع للشيء في غير موضعه فقال : { أولئك } أي البعداء البغضاء { شر } أي شر خلق { مكاناً وأضل سبيلاً * } حيث عموا عن طريق الجنة التي لا أجلى منها ولا أوسع ، وسلكوا طريق النار التب لا أضيق منه ولا أوعر ، وعموا عن أن إنزال القرآن نجوماً أولى لما تقدم من اللطائف وغيرها مما لا يحيط به إلا الله تعالى ، " وسبيلاً " تمييز محول عن الفاعل أصله : ضل سبيلهم ، وإسناد الضلال إليه من الإسناد المجازي . ولما بين أنهم كذبوه وعادوه ، وأشار بآية الحشر إلى جهنم إلى أنه لا يهلكهم بعامة ، عطف على عامل " لنثبت " تسلية له وتخويفاً لهم قوله : { ولقد آتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى الكتاب } كما أتيناك ، بينا فيه الشرائع والسنن والأحكام ، وجعلناه هدى ورحمة ، وأنزلناه إليه منجماً في نحو عشرين سنة يقال : إنها ثمان عشرة كما أنزلنا إليك هذا القرآن في نيف وعشرين سنة ، كما بينت ذلك في آخر سورة النساء وغيرها ، على أن أحداً ممن طالع التوراة لا يقدر على إنكار ذلك ، فإنه بيّن من نصوصها . وزاد في التسلية بذكر الوزير ، لأن الرد للاثنين أبعد ، وفيه إشارة إلى أنه لا ينفع في إيمانهم إرسال ملك كما اقترحوا ليكون معه نذيراً ، فقال : { وجعلنا } بما لنا من العظمة { معه أخاه } ثم بينه بقوله : { هارون } وبين محط الجعل بقوله : { وزيراً } أي معيناً في كل أمر بعثناه به ، وهو مع ذلك نبي ، ولا تنافي بين الوزارة والنبوة . ولما كانت الواو لا ترتب ، فلم يلزم من هذا أن يكون هذا الجعل بعد إنزال الكتاب كما هو الواقع ، رتب عليه قوله : { فقلنا } أي بعد جعلنا له وزيراً . ولما كان المقصود هنا من القصة التسلية والتخويف ، ذكر حاشيتها أولها وآخرها ، وهما إلزام الحجة والتدمير ، فقال : { اذهبا إلى القوم } أي الذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط { الذين كذبوا بآياتنا } أي المرئية والمسموعة من الأنبياء الماضين قبل إتيانكما في علم الشهادة ، والمرئية والمسموعة منكما بعد إتيانكما في علمنا . فذهبا إليهم فكذبوهما فيما أرياهم وأخبراهم به من الآيات ، لما طبعناهم عليه من الطبع المهيىء لذلك . ولما كان السياق للإنذار بالفرقان ، طوي أمرهم إلا في عذابهم فقال : { فدمرناهم } أي لذلك { تدميراً * } بإغراقهم أجمعين عل يد موسى عليه السلام في البحر ، لم نبق منهم أحداً مع ما أصبناهم به قبل ذلك من المصائب ، مع اجتهاد موسى عليه السلام في إحيائهم بالإيمان ، الموجب لإبقائهم في الدارين ، عكس ما فعلناه بموسى عليه السلام من إنجائه من الهلاك بإلقائه في البحر ، وإبقائه بمن اجتهد في إعدامه ، وجعلنا لكل منهما حظاً من بحره { هذا ملح أجاج } هو غطاء جهنم ، { وهذا عذب فرات } [ الفرقان : 53 ] عنصره من الجنة ، فليحذر هؤلاء الذين تدعوهم من مثل ذلك إن فعلوا مثل فعل أولئك .