Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 52-58)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه ، وجعلهما الأعليين ، ولم يضرهما ضعفهما وقلتهما ، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته ، شرع يسلي بما أوقعه في حال السير ، فقال طاوياً ما بقي منه لأن هذا ذكّر به ، عاطفاً على هذه القصة : { وأوحينا } أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود { إلى موسى أن أسر } أي سر ليلاً ، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم { بعبادي } أي بني إسرائيل الذين كرمتهم مصاحباً لهم إلى ناحية بحر القلزم ، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه ، وتزودوا اللحم والخبز الفطير للإسراع ، وألطخوا أعتابكم بالدم ، لأني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم ؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله : { إنكم متبعون * } أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم ، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي ، والمراد توافيهم عند البحر ، ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به الوعد الشريف بذلك التأكيد . ولما كان التقدير : فأسرى بهم امتثالاً للأمر بعد نصف الليل ، عطف عليه قوله : { فأرسل فرعون } أي لما أصبح وأعلم بهم { في المدائن حاشرين * } أي رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا ، ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم : { إن هؤلاء } إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا ، لما بهم من العجز ، وبآل فرعون من القوة ، فليسوا بحيث يخاف قوتهم ولا ممانعتهم { لشرذمة } أي طائفة وقطعة من الناس . ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستعباد ، وكان التعبير بالشرذمة موهماً لأنهم في غاية القلة ، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر ، لا صفة ، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب ، والجمع ولا سيما ما للسلامة مع كونه أيضاً للقلة أدل على أنهم أوزاع ، وفيه أيضاً إشارة إلى أنهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد . وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه : هو أقل من أن يفعل كذا ، فقال : { قليلون * } أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين ، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم ؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما : كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفاً ، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون - انتهى . وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقدر على أثرٍ ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقاً لما تقدم من الوعد به أول القصة . ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم ، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال : { وإنهم لنا } ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة { لغائظون * } أي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة ، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم . ولما كان مدار مادة " شرذم " على التقطع . فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد ، وذكر أن في اتباعهم شفاء الغلل ، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل ، فقال : { وإنا لجميع } أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد . ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم ، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم ، وفي مضادة لما أشير إليه بـ " قليلون " من الاستضعاف فقال : { حاذرون * } أي ونحن - مع إجماع قلوبنا - من شأننا وطبعنا الحذر ، فنحن لا نزال على أهبة القتال ، ومقارعة الأبطال ، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره ، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم ، وإدرار الأرزاق فيكم ، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال ، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد ، وجميع ما يحتاج إليه المحارب ، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق ، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم ، ومكرهم لديكم ، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء : أحدها لوزرائه وكتابه وجنده ، والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور ، والثالث له ولولده ، والرابع يفرق من مدن الكور ، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به ؛ وري أنه قصده قوم فقالوا : نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا ، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال ، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم ، فإذا هو مائة ألف دينار ، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها ، فقال : اطرحوها عليهم ، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا ، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا . ولما كان التقدير : فأطاعوا أمره ، ونفوا على كل صعب وذلول ، عطف عليه قوله معلماً بما آل إليه أمرهم : { فأخرجناهم } أي بما لنا من القدرة ، إخراجاً حثيثاً مما لا يسمح أحد بالخروج منه { من جنات } أي بساتين يحق لها أن تذكر { وعيون * } لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر { وكنوز } من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم ، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد { ومقام } من المنازل { كريم * } أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه : ليته كان كذا ، أو كان كذا .