Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 55-58)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما ذكر أن السماح بما تضن النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان ، أتبعه أن حزن ما تبذله الألسن من فضول الأقوال من علامات العرفان ، فقال : { وإذا سمعوا اللغو } أي ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعبير ونحوه { أعرضوا عنه } تكرماً عن الخنا { وقالوا } أي وعظاً وتسميعاً لقائله : { لنا } أي خاصة { أعمالنا } لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون { ولكم } أي خاصة { أعمالكم } لا نطالب بشيء منها ، فنحن لا نشتغل بالرد عليكم لأن ذمكم لنا لا ينقصنا شيئاً من أجرنا ولا الاشتغال برده ينقصنا . ولما كان معنى هذا أنهم سالمون منهم ، صرحوا لهم به فقالوا : { سلام عليكم } أي منا . ولما جرت العادة بأن مثل هذا يكسر اللاغي ، ويرد الباغي ، أشاروا لهم إلى قبح حالهم ، رداً على ضلالهم ، بقولهم تعليلاً لما مضى من مقالهم : { لا نبتغي } أي لا نكلف أنفسنا أن نطلب { الجاهلين * } أي نريد شيئاً من أحوالهم أو أقوالهم ، أو غير ذلك من خلالهم . ولما كان من المعلوم أن نفس النبي صلى الله عليه وسلم - لما جبلت عليه من الخير والمحبة لنفع جميع العباد ، لا سيما العرب ، لقربهم منه صلى الله عليه وسلم ، لاسيما أقربهم منه صلة للرحم تتأثر بسبق أهل الكتاب لقومه ، وكان ربما ظن ظان أن عدم هدايتهم لتقصير في دعائه أو إرادته لذلك ، وأنه لو أراد هدايتهم وأحبها ، وعلق همته العلية بها لاهتدوا ، أجيب عن هذا بقوله تعالى في سياق التأكيد إظهاراً لصفة القدرة والكبرياء والعظمة : { إنك لا تهدي من أحببت } أي نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه ، وإنما في يدك الهداية التي هي الإرشاد والبيان . ولما كان ربما ظن من أجل الإخبار بتوصيل القول وتعليله ونحو ذلك من أشباهه أن شيئاً من أفعالهم يخرج عن القدرة ، قال نافياً لهذا الظن مشيراً إلى الغلط في اعتقاده بقوله : { ولكن الله } المتردي برداء الجلال والكبرياء والكمال وله الأمر كله { يهدي من يشاء } هدايته بالتوفيق إلى ما يرضيه { وهو } أي وحده { أعلم بالمهتدين * } أي الذين هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم ، فيكونوا عريقين فيه سواء كانوا من أهل الكتاب أو العرب ، أقارب كانوا أو أباعد ، روى البخاري في التفسير عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه : " قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيره ، فقال : أي عم ! قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله عز وجل { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } - الآية - " انتهى وقال في كتاب التوحيد : { إنك لا تهدي من أحببت } قال سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه : نزلت في أبي طالب ، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتوحيد فقال : لولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك فأنزل الله الآية . ولما عجب من حال قريش في طلبهم من الآيات مثل ما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام ثم كفرهم به وبما هو أعظم منه ، وختم بأنه أعلم بأهل الخير وأهل الشر ، إشارة إلى الإعراض عن الأسف على أحد ، والإقبال على عموم الدعاء للقريب والبعيد على حد سواء ، قال دليلاً على ذلك لأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، عاطفاً على قالوا { لولا أوتي } { وقالوا إن نتبع } أي غاية الاتباع { الهدى } أي الإسلام فنوحد الله من غير إشراك { معك } أي وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس { نتخطف } أي من أي خاطف أردنا ، لأنا نصير قليلاً في كثير . من غير نصير { من أرضنا } كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا ، وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوتهم فيسرعو إلينا فيتخطفونا ، أي يتقصدون خطفنا واحداً واحداً ، فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض ؛ قال البغوي : والاختطاف : الانتزاع بسرعة . ولما كان التقدير في الرد على هذا الكلام الواهي : ألم نحمك ومن اتبعك منهم وقد جئتموهم من الخلاف بمثل ما يخالفون هم ، به العرب أو أشد ، ولا نسبة لكم إلى عددهم ولا جلدهم ، عطف عليه قوله : { أولم نمكن } أي غاية التمكين { لهم } في أوطانهم ومحل سكناهم بما لنا من القدرة { حرماً آمناً } أي ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها ، حتى أن سيل الحل لا يدخل الحرم ، بل إذا وصل إليه عدل عنه ؛ قال ابن هشام في استيلاء كنانة وخزاعة على البيت : وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً ، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته - انتهى . وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يعرض له بسوء ؛ وروى الأزرقي في تأريخ مكة بسنده عن حويطب بن عبد العزى رضي الله عنه قال : كانت في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد ، فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده ، فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل ، وروي عن ابن جريج قصة العرب من غير قريش في أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثياباً ، فجاءت امرأة فطافت عريانة وكان لها جمال فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها ، فأدنى عضده من عضدها ، فالتزقت عضده بعضدها ، فخرجا من المسجد هاربين على وجوههما فزعين لما أصابهما من العقوبة ، فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب ، فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا ، فدعوا وأخلصا النية ، فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية ، وبسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أخذ رجل ذود ابن عم له فأصابه في الحرم فقال : ذودي : فقال اللص : كذبت ، قال : فاحلف ، فحلف عند المقام ، فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو ، فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة : ما لي ، وللزود ، ما لي ، ولفلان - رب الزود ، فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الزود فدفعه إلى المظلوم ، فخرج به وبقي الآخر متولهاً حتى وقع من جبل فتردى فأكلته السباع . وعن أيوب بن موسى أن امرأة في الجاهلية كان معها ابن عم لها صغير فقالت له : يا بني : إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد ، فإن جاءك ظالم بعدي فإن لله بمكة بيتاً لا يشبهه شيء من البيوت ، وعليه ثياب ولا يقاربه مفسد ، فإن ظلمك ظالم يوماً فعذبه ، فإن له رباً سيمنعك ، فجاءه رجل فذهب به فاسترقه ، قال : وكان أهل الجاهلية يعمرون أنعامهم فأعمر سيده ظهره ، فلما رأى الغلام البيت عرف الصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت ، وجاءه سيده فمد يده إليه ليأخذه ، فيبست يده ، فمد الأخرى فيبست ، فاستفتى فأفتى أن ينحر عن كل واحدة من يدية بدنة ، ففعل فأطلقت يداه ، وترك الغلام وخلى سبيله . وعن عبد العزيز بن أبي رواد أن قوماً انتهوا إلى ذي طوى ، فإذا ظبي قد دنا منهم ، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه : ويحك ! أرسله ، فجعل يضحك ويأبى أن يرسله ، فبعر الظبي وبال ؛ ثم أرسله ، فناموا في القائلة فانتبهوا ، فإذا بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي ، فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحديث مثل ما كان من الظبي . وعن مجاهد قال : دخل قوم مكة نجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام ، فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوا لحمها ليأتدموا به ، فبينما قدرهم على النار تغلي بلحمة إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحترق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات التي كانوا تحتها . وفي سيرة أبي ربيع بن سالم الكلاعي أن رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عم له فخوفه بالدعاء في الحرم ، فقال : هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء ، فجاء الحرم في الشهر الحرام ، فقال : اللهم إني ادعوك جاهداً مضطراً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ، ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق ، فما زال ينتفخ حتى انشق ، وأن عمر رضي الله عنه سال رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره ، فقال : يا أمير المؤمنين ! كنا بني ضبعاء عشرة ، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه فكان يذكرنا بالله ، وبالرحم ، فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه يقول : @ لا همّ أدعوك دعاء جاهداً اقتل بني الضبعاء إلا واحدا ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً أعمى إذا قيد يعيي القائدا @@ قال : فمات إخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد ، وبقيت أنا فعميت ، ورماني الله عز وجل في رجلي ، فليس يلائمني قائد ، فقال عمر رضي الله عنه : سبحان الله إن هذا لهو العجب ، جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ، لينتكب الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة ، فلما جاء الدين ، صار الموعد الساعة ، ويستجيب الله لمن يشاء ، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين - انتهى . وكأنه لمثل ذلك عبر بالتمكين ويتخطف الناس من حولهم كما يأتي تأكيده في التي بعدها ، وقد كان قبل ذلك بقعة من بقاع الأرض لا مزية له على غيره بنوع مزية ، فالتقدير : إنما فعلنا ذلك بعد سكنى إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، توطئة لما أردنا من الحكم والأحكام ، أو ليس الذي قدر على ذلك وفعله لمن يعبد غيره بقادر على حماية من يدخل في دينه ، وقد صار من حزبه بأنواع الحمايات ، وإعلائه على كل من يناويه إلى أعلى الدرجات ، كما فعل في حمايتكم منهم ومن غيرهم من سائر المخالفين أعداء الدين . ولما وصفه بالأمن ، أتبعه ما تطلبه النفس بعده فقال : { يجبى } أي يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه { إليه } أي خاصة ، دون غيره من جزيرة العرب { ثمرات كل شيء } من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والموز والنبق ، والباردة كالعنب والتفاح والرمان والخوخ ، وفي تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ، ما لم يخطر لأحد منهم في بال ، وقد صدق الله فيما قال كما تراه - ومن أصدق من الله قيلاً . ولما كان مجموع ما رزقهم في هذا الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع باصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات ، وجباية هذه الثمرات ، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر ، المحفوفة من الناس بمن لا يدين ديناً ، ولا يخشى عاقبة ، ولا له ملك قاهر من الناس يرده ، ولا نظام من سياسة العباد يمنعه ، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدان فقال : { رزقاً من لدنا } أي من أبطن ما عندنا وأغربه ، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك أنت ومن أتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم ، وكل ذلك إنما هو لأجلك بحلولك في هذا الحرم مضمراً في الأصلاب ، ومظهراً في تلك أشعاب ، توطئة لنبوتك ، وتمهيداً لرسالتك ، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون . ولما كان هذا الذي أبدوه عذراً عن تخلفهم عن الهدى يظنونه من نفائس العلم ، رده تعالى نافياً عمن لم يؤمن منهم جميع العلم الذي بنفيه ينتفي أن يكون هذا الفرد علماً ، فقال في أسلوب التأكيد لذلك : { ولكن أكثرهم } أي أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له { لا يعلمون * } أي ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بترتيب أسبابه حتى تمكن ذلك وتم فلا قدرة لأحد على تغييره ، وإنا قادرون على أن نمنعهم - إذا تابعوا أمرنا - ممن يريدهم ، بل نسلطهم على كل من ناواهم ، كقدرتنا على ما مكنا لهم وهو خارج عن القياس على ما يقتضيه عقول الناس ، وإنا قادرون على سلب ذلك كله عنهم لإصرارهم على الكفر ، ولا بد أن نذيقهم ذلك أجمع بعد هجرتك ليعلموا أنه إنما نالهم ذلك ببركتك ، ولو علموا ذلك لشكروا ، ولكنهم جهلوا فكفروا ، ولذلك أنذروا { ولتعلمن نبأه بعد حين } . ولما أخبر تعالى أنه قادر على التأمين والإنجاء والتمكين مع الضعفة ، أتبعه الإعلام بقدرته على الإخافة والإهلاك مع القوة ، ترغيباً لهم - إن آمنوا - بإهلاك أضدادهم ، وترهيباً - إن أصروا - من المعاملة بعكس مرادهم ، فقال في مظهر العظمة عاطفاً على معنى الكلام : { وكم أهلكنا } ويجوز أن يكون حالاً من ضمير نمكن أي فعلنا بهم ما ذكرنا من النعمة مع ضعفهم وعجزهم ، والحال أنا كثيراً ما أهلكنا الأقوياء ، وأشار إلى تأكيد التكثير مع تمييز المبهم بقوله : { من قرية } ، وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله : { بطرت معيشتها } أي وقع منها البطر في زمان عيشها الرخي الواسع ، فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق ، فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم ، ومعنى بطرهم لها أنهم شقوها بمجاوزة الحد في المرح ، والأشر والفرح ، إلى أن تعدوها فأفسدوها وكفروها فلم يشكروها ، بل فعلوا في تلقيها فعل الحائر المدهوش ، فلم يحسنوا رعايتها ، وقل احتمالهم لحق النعمة فيها ، فطغوا في التقلب عند مصاحبتها وتكبروا بها ، وتمادوا في الغي قولاً وفعلاً ، من أجل ما عمهم من الرفاهية عن تقييدها وساء احتمالهم للغنى بها ، وطيب العيش فيها ، فأبطلوها بهذه الخصائل ، وأذهبوها هدراً من غير مقابل ، وذلك من قول أهل اللغة : البطر : الأشر ، وقلة احتمال النعمة ، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة ، والفعل من الكل كفرح ، وبطر الحق أن يتكبر عنه فلا يقبله ، وبطره كنصره وضربه : شقه ، والبطور : الصخاب الطويل اللسان ، والمتمادي في الغي ، وأبطره ذرعه : حمله فوق طاقته ، وذهب دمه بطراً - بالكسر ، أي هدراً وبطرهم لها أنهم عصوا من خولهم فيها ، فخالفوا أمره ، وأنساهم الكبر بما أعطاهم ذكره . ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار ، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم ، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان ، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال : { فتلك مساكنهم } . ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله : { لم تسكن } أي من ساكن ما مختار أو مضطر . ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره ، أثبت الجار فقال : { من بعدهم } بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها ، وزخرفوها وزوقوها ، وزفوا فيها الأبكار ، وفرحوا بالأعمال الكبار ، { إلا } سكوناً { قليلاً } بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار ، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار ، بعد أن كانت متمنعة القبا ، ببيض الصفاح وسمر القنا . ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله ، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه ، وكان هذا أمراً عظيماً ، وخطباً جسيماً ، لأنه لا فرق فيه بين جليل وحقير ، وصغير وكبير ، وسلطان ووزير ، دل على ضخامته بقوله مكرراً لمظهر العظمة : { وكنا } أي أزلاً وأبداً { نحن } لا غيرنا { الوارثين * } لم يستعص علينا أحد وإن عظم ، ولا تأخر عن مرادنا لحظة وإن ضخم ، فليت شعري ! أين أولئك الجبارون وكيف خلا دورهم ، وعطل قصورهم ؟ المتكبرون أفنتهم والله كؤوس الحمام منوعة أشربة المصائب العظام ، وأذلتهم مصارع الأيام ، بقوة العزيز العلام ، فيا ويح من لم يعتبر بأيامهم ، ولم يزدجر عن مثل آثامهم .