Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 14-17)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان السياق للبلاء والامتحان ، والصبر على الهوان ، وإثبات علم الله وقدرته على إنجاء الطائع وتعذيب العاصي ، ذكر من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من طال صبره على البلاء ، ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد على ما يعاملونه به من الأذى ، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيتاً لهم وتهديداً لقريش ، فقال عاطفاً على { ولقد فتنا الذين من قبلهم } ما هو كالشرح له ، وله نظر عظيم إلى { ولقد وصلنا لهم القول } [ القصص : 51 ] وأكده دفعاً لوهم من يقول : إن القدرة على التصرف في القلوب مغنية عن الرسالة في دار التسبب : { ولقد أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة المغنية عن الرسالة إجراء للأمور على ما تقتضيه هذه الدار من حكمة التسبيب { نوحاً } أي أول رسل الله الخافقين من العباد ، وهو معنى { إلى قومه } فإن الكفر كان قد عم أهل الأرض ، وكان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء بلاء بهم ، ولذلك قال مسبباً عن ذلك ومعقباً : { فلبث فيهم } أي بعد الرسالة يدعوهم إلى الله ، وعظم الأمر بقوله : { ألف } فذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه ، وعبر بلفظ { سنة } ذماً لأيام الكفر ، وقال : { إلا خمسين } فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة ، وقال : { عاماً } إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً يإيمان المؤمنين وخصب الأرض . ولما كان تكرير الدعاء مع عدم الإجابة أدل على الامتثال وعدم الملال ، قال مسبباً عن لبثه فيهم ودعائه لهم ومعقباً له : { فأخذهم } أي كلهم بالإغراق أخذ قهر وغلبة { الطوفان } أي من الماء ، لأن الطوفان في الأصل لكل فاش طامّ محيط غالب ممتلىء كثرة وشدة وقوة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها ، والمراد هنا الماء { وهم ظالمون * } أي عريقون في هذا الوصف ، وهو وضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في أشد الظلام ، بتكذيبهم رسولهم ، وإصرارهم على كفرهم ، وهو ملازم لدعائهم ليلاً ونهاراً لم يرجع منهم عن الضلال إلا ناس لقلتهم لا يعدون ؛ ودل عليهم مسبباً عن ذلك بقوله : { فأنجيناه } أي نوحاً عليه السلام بما لنا من العظمة التي لا يغلبها شيء { وأصحاب السفينة } من أولاده وأتباعه ، من الغرق ، وماذا يبلغ مقدار أهل سفينة واحدة في العدة والكثرة { وجعلناها } أي الفعلة أو السفينة أي نفسها وجنسها ، بتلك العظمة { آية } أي علامة على قدرة الله وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي { للعالمين * } فإن لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا أشهر في تطبيق الماء جميع الأرض ، بطولها والعرض ، وإغراق جميع من عليها من حيوان : إنسان وغير إنسان ، وإنجاء ناس فيهم بما هيأ قبل الفعل من سبب ذلك المستمر نفعه على تكرار الأحقاب وتعاقب الأزمان ، وكونها آية أما للآدميين الذين كانوا في ذلك الزمان فالأمر فيهم واضح ، وأما غيرهم من الحيوان فقد عرفوا لمعرفتهم بالجزئيات المشاهدة أن ذلك الماء لا ينجى منه في دار الأسباب إلا هذه السفينة ، فالهداية إلى فعلها للنجاة قبل وقوع سبب الهلاك دالة على تمام العلم وشمول القدرة ، وأن من اهتدى إليه دون أهل ذلك العصر كلهم إنما اهتدى بإعلام الله دون غيره ، ونصف الآية الأولى الأول من هذه القصة تسلية وتعزية دليلاً على آيتي الفتنة أول السورة ، ونصفها الثاني تحذير وتوقية ، وفيه دليل على الآية الثالثة ، والآية الثالثة ، والآية الأخرى تبشير وترجية ، وفيه دليل على ما بعد . ولما كان بلاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام عظيماً في قذفه في النار وإخراجه من بلاده ، أتبعه به فقال : { وإبراهيم } أي ولقد أرسلنا إبراهيم ، ويجوز أن يكون التقدير : واذكر إبراهيم أباك الأعظم لتتأسى به وتتسلى ويتعظ قومك بقصته ، لكن قوله { وإلى مدين } يرجح الأول ، ودل على مبادرته للامتثال بقوله : { إذ } أي حين ، وهو بدل اشتمال على التقدير الثاني لاشتمال الأحيان على ما قبلها { قال لقومه } الذين هو منهم : { اعبدوا الله } أي الملك الأعظم بما يأمركم به من طاعته { واتقوه } أي خافوه في أن تشركوا به شيئاً فإنه يعذبكم { ذلكم } أي الأمر العظيم الذي هو إخلاصكم في عبادتكم له وتقواكم { خير لكم } أي من كل شيء { إن كنتم } أي بما لكم من الغرائز الصالحة { تعلمون * } أي إن كنتم في عداد من يتجدد له علم فأنتم تقولون : إنه خير ، أي تعتقدون ذلك فتعملون به ، وإن لم تعملوا ذلك فأنتم في عداد الحيوانات العجم ، بل أضل ، فإنها تهتدي لما ينفعها فتقبل عليه ، وتسعى بجهدها إليه . ولما أمرهم بما تقدم ، ونفى العلم عمن جهل خيريته ، دل عليه بقوله : { إنما تعبدون } ولما كان الله أعلى من كل شيء قال : { من دون الله } أي الذي لا شبيه له ولا نظير ، ولا ثاني ولا وزير ، وقال : { أوثاناً } إشارة إلى تفرق الهم بكثرة المعبود ، والكثرة يلزمها الفرقة ولا خير في الفرقة . ومادة " وثن " بجميع تقاليبها واوية ويائية مهموزة تدور على الزيادة والكثرة ، ويلزمها الفرقة من اختلاف الكلمة ، فيلزمها حينئذ الرخاوة فيأتي العجز ، وتراكيبها تسعة : في الواوي الثلاثة : وثن ثنو ثون ، وفي اليائي ثلاثة : ثنى نثى ثين ، وفي المهموز ثلاثة : أنث أثن نأث ، فمن الزيادة : الوثن ، قال القزاز : قال أبو منصور : الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة أو ذهب أو جوهر أو غيره ينحت فينصب فيعبد ، والصنم الصورة التي بلا جثة ، ومنهم من جعل الوثن صنماً - انتهى . وقال عبد الحق : قال الهروي : قال ابن عرفة : ما كان له صورة من جص أو حجارة أو غير ذلك فهو وثن - انتهى . فقد علم من ذلك أنه لا بد فيه من صورة أو جثة ، وعلى كل تقدير فهو ثان لما شابه صورته أو جثته وزائد عليه . وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة : الصنم تمثال من حجارة على صورة الإنسان ، فإذا كان من خشب فهو وثن ، ويتخذ أيضاً من جص ، وربما صوروا في الحائط أيضاً صورة إنسان فتسمى تلك الصورة أيضاً وثناً ، والنصارى يفعلون ذلك ويصورون في بيعهم صورة المسيح وصورة مريم ويسجدون لها : واستوثن المال : سمن ، فزاد لحمه ، واستوثن من المال : استكثر ، والنحل : صارت فرقتين صغاراً وكباراً ، والإبل : نشأت أولادها معها ، وأوثن زيداً : أجزل عطيته ، والواثن : الشيء الثابت الدائم في مكانه ، فالزيادة فيه بالنسبة إلى زمانه ، ويمكن أن يكون من الرخاوة ، فإنه لا يثبت على هذه الصورة إلا ما لا قدرة له على حركة . ومن الفرقة : نثا الحديث - بتقديم النون - ينثوه وينثيه . يائي وواوي : أشاعه وحدث به ، والشيء : فرقه وأذاعه ، وأنثى : اغتاب وأنف من الشيء ، ولا يؤنف منه إلا على تقدير نشره ، والثوينا كالهوينا : الرقيق يفرش تحت الرغيف ليسوى ويعدل لأن يكون ظلمه ، والتثاون : الاحتيال والخديعة ، فإنها لا تكون إلا عن جمع فكر وتنبيه نظر ، وهي أيضاً لا تكون إلا من عاجز عن الأخذ جهاراً ، ومن ذلك تثاون للصيد - إذا جاءه مرة عن يمينه وأخرى عن يساره ، والثني من كل شيء ما يثنى بعضه على بعض ، ومن الوادي : منعطفه ، واثنونى : انعطف ، والثناء ككتاب : عقال البعير ، وهو حبل مثنى يعقل به يد البعير فتثنى ، والفناء لأنه يكثر انتيابه والتردد إليه ، وأثناء الشيء : قواه وطاقاته ، والاثنان : ضعف الواحد ، والمؤنث ثنتان ، وأصله ثنى ، والاثنين والثنى كإلى : يوم في الأسبوع ، وثنيته عن وجهه : رددته ، فصار له رجوع بعد ذهاب ، وثنيث الرجلين : صرت ثانيهما وأنت أحدهما ، ولا يقال : ثنيت فلاناً ، ولكن يقال : صرت له ثانياً ، والمثاني : القرآن أو ثني منه مرة بعد مرة ، أو الحمد ، أو البقرة إلى براءة - هكذا عبر في القاموس ، وفي مختصر العين : ويقال : سور أولها البقرة وآخرها براءة ، وذكر في القاموس في ذلك أقوالاً أخرى ، ومن أوتار العود الذي بعد الأول واحدها مثنى ، ومثنى الأيادي : إعادة المعروف مرتين فأكثر ، والثنية : العقبة أوطريقها أو الجبل أو الطريقة فيه - لأنها بطلوعها ونزولها أو تعاريجها كأنها ثنيت مرتين ، والثنايا من الأسنان : الأربع التي في مقدم الفم : ثنتان من فوق ، وثنتان من أسفل ، والناقة الطاعنة في السادسة ، والبعير ثنى ، والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة ، وكأن ذلك كله من عرض يعرض لثنيه الحيوان ، والثنية : النخلة المستثناة من المساومة ، والثنية والثناء ، وصف بمدح أو ذم ، أو خاص بالمدح ، وذلك لأنه يكرر ، والثين بالكسر : من يستخرج الدر من البحر ، لأنه يكرر الغوص حتى يجد ويفارق مكانه لذلك ويفرق الدر من مكانه ، والثين أيضاً : مثقب اللؤلؤ ، لأن الثقب يفرق بين أجزائها ولأن المثقب نفسه يحرك فيكثر من حركته إذا فعل به ذلك . ومن مهموزة ؛ نأث عنه : بعد ، والمنآث - بالضم ، المبعد ، والأثين : الأصيل ، لأنه ثان لأصله ، ومن الرخاوة الأنثى خلاف الذكر ، والأنيت من الحديد الرخو وهو ما لم يكن ذكراً ، والمؤنث : المخنث ، والأنثيان : الخصيتان والأذنان ، وأرض أنيثة ومئناث : سهلة ، وسيف مئناث : كهام أي قليل لا يقطع - فقد تحرر أن المادة كلها دائرة على ما لا ينبغي لرتبة الإلهية من الكثرة والفرقة والرخاوة ، ولذلك أتى بصيغة الحصر ، وهو قصر قلب لسلب ما اعتقدوه فيها من الإلهية . ولما أشار لهم إلى عدم صلاحيتها لتلك الرتبة العلية ، والغاية الشماء السنية ، بكثرتها ، أشار لهم إلى قصورها أيضاً بتصويرها فقال بصيغة المضارع إشارة إلى ما يرى في كل وقت من تجدد حدوثها : { وتخلقون } أي تصورون بأيديكم { إفكاً } أي شيئاً مصروفاً عن وجهه ، فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع ، ومربوب وأنتم تعدونه رباً ، وعبد وأنتم تقيمونه معبوداً ، أو تقولون في حقها إنها آلهة كذباً . ولما كان الإنسان محتاجاً أبداً ، فكان لا يزال متوجهاً إلى من ينفعه ، وكان قد أشار سبحانه إلى نقص معبوداتهم بنفي الخير عنها ، صرح بعجزها ، وأثبت اختصاصه بالخير ، لينتج اسحقاقه للعبادة دونها وأكده رداً لما كانوا يتوهمونه من نفعها وضرها فقال : { إن الذين تعبدون } ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح { من دون الله } المحيط بصفات الكمال ، المنزه عن شوائب الاختلال الذي لا يمكن أن يملأ جميع ما تحت رتبته شيء فكيف برتبته الشماء ، وحضرته العلياء { لا يملكون لكم } أي وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم { رزقاً } أي شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه ، فتسبب عن ذلك قوله : { فابتغوا } وأشار بصيغة الافتعال إلى السعي فيه ، لأنه أجرى عادته سبحانه أنه في الغالب لا يؤتيه إلا بكد من المرزوق وجهد ، إما في العبادة والتوكل ، وإما في السعي الظاهر في تحصيله بأسبابه الدنيوية " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " . ولما أشار إلى ذلك ، أشار إلى الإجمال في الطلب ، وأن لا يعتقد أنه لا محالة في السبب ، وإنما الأمر مع ذلك بيده ، إن شاء أنجح وإن شاء خيب ، بقوله : { عند الله } أي الذي له كل صفة كمال { الرزق } أي كله ، فإنه لا شيء منه إلا وهو بيده ، وقد دخل فيه كل موجود ، فإن الكل خلق لذلك ، فأحكمت صنعته وربط بعضه ببعض ، فلو نقص منه شيء لاختل النظام ، فتبطل الأحكام { واعبدوه } أي عبادة يقبلها ، وهي ما كان خالصاً عن الشرك ، فإن من يكون كذلك يستحق ذلك ويثيب العابد له ، ويعاقب الزاهد فيه ، فلا يشغلكم ابتغاء الرزق بالأسباب الظاهرة عن عبادته ، فإنها هي الأسباب الحقيقية ، فربما حرم العبد الرزق بالذنب يصيبه { واشكروا } أي أوقعوا الشكر { له } خاصة على ما أفاض عليكم من النعم ؛ ثم علل ذلك بقوله : { إليه } أي وحده { ترجعون * } أي معنى في الدنيا والآخرة بأنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه ، وحساً بالنشر والحشر بعد الموت بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي في الدارين .