Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 92-103)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان آخر هذه القصص في الحقيقة إبطال كل ما خالف الإسلام الذي هو معنى { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] - وما بعد ذلك إنما جرّه - ختم الآية بدعوى أن المخالفين من الخاسرين ، وختم ذلك بأن من مات على الكفر لا يقبل إنفاقه للإنقاذ مما يلحقه من الشدائد ، لا بدفع لقاهر ولا بتقوية لناصر ، فتشوفت النفس إلى الوقت الذي يفيد فيه الإنفاق وأي وجوهه أنفع ، فأرشد إلى ذلك وإلى أن الأحب منه أجدر بالقبول ، رجوعاً إلى ما قرره سبحانه وتعالى قبل آية الشهادة بالوحدانية من صفة عباده المنفقين والمستغفرين بالأسحار على وجه أبلغ بقوله : { لن تنالوا البر } وهو كمال الخير { حتى تنفقوا } أي في وجوه الخير { مما تحبون } أي من كل ما تقتضون ، كما ترك إسرائيل عليه الصلاة والسلام أحب الطعام إليه لله سبحانه وتعالى . ولما كان التقدير : فإن أنفقتم منه علمه الله سبحانه وتعالى فأنالكم به البر ، وإن تيممتم الخبيث الذي تكرهونه فأنفقتموه لم تبروا ، وكان كل من المحبة والكراهة أمراً خفياً ، قال سبحانه وتعالى مرغماً مرهباً : { وما تنفقوا من شيء } أي من المحبوب وغيره { فإن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة . وقدم الجار اهتماماً به إظهاراً لأنه يعلمه من جميع وجوهه ما تقول لمن سألك - هل تعلم كذا : لا أعلم إلا هو ، فقال : { به عليم * } فهذا كما ترى احتباك . ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى : { كل الطعام } أي من الشحوم مطلقاً وغيرها { كان حلاًّ لبني إسرائيل } أي أكله - كما كان حلاًّ لمن قبلهم على أصل الإباحة { إلا ما حرم إسرائيل } تبرراً وتطوعاً { على نفسه } وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم . ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا : إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال : { من قبل } وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان ، لا مستغرقاً له . وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال : { أن تنزل التوراة } وكان قد ترك لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده - كما تقدم ذلك في البقرة عند { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] . ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة ، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم ، فكانوا يقولون : لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا ، فأمر بجوابهم بأن قال : { قل } أي لليهود { فأتوا بالتوارة فاتلوها } أي لتدل لكم { إن كنتم صادقين * } فيما ادعيتموه ، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا { فمن } أي فتسبب عن ذلك أنه من { افترى } أي تعمد { على الله } أي الملك الأعظم { الكذب } أي في أمر المطاعم أو غيرها . ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان ، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال : { من بعد ذلك } أي البيان العظيم الظاهر جداً { فأولئك } أي الأباعد الأباغض { هم } خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية { الظالمون * } أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام ، فهو لا يضع شيئاً في موضعه ، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة . ولما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم - لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس ، لا شك فيه ولا لبس ، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب - أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { قل } أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم { صدق الله } أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر ، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم ، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام ، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة ، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك ، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به ، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن . ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه ، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه ، لا فيما افتروه هم من الكذب ، فقال سبحانه وتعالى : { فاتبعوا ملة إبراهيم } وهي الإسلام أي الانقياد للدليل ، وهو معنى قوله : { حنيفاً } أي تابعاً للحجة إذا تحررت ، غير متقيد بمألوف . ولما كان صلى الله عليه وسلم مفطوراً . على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال : { وما كان من المشركين } أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى . ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة ، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها ، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى : { إن أول بيت } أي من البيوت الجامعة للعبادة { وضع للناس } أي على العموم متعبداً واجباً عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولعل بناء وضع ، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام { للذي ببكة } أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة ، ويزدحم الناس فيها إزدحاماً لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه ، فلا بد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من كل من ناواه , ويزدحم الناس على الدخول في دينه ازدحاماً لم يعهد مثله , فإن فاتكم ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم ؛ حال كونه { مباركاً } أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا { وهدى للعالمين * } أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم ، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم . وذلك نسخهم لما شرعه من حجة من عند أنفسهم تحريفاً منهم مثالاً لما قدم من الإخبار به عن كذبهم ، وهذا أمر شهير يسجل عليهم بالمخالفة ويثبت للمؤمنين المؤالفة ، فإن حج البيت الحرام وتعظيمه من أعظم ما شرعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام - كما هو مبين في السير وغيرها وهم عالمون بذلك ، وقد حجه أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام وأسلافهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم - كما روي من غير طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أن في بعض الطرق أنه كان مع موسى عليه الصلاة في حجة إليه سبعون ألفاً من بني إسرائيل ، ومن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم ، ومن الأمر الواضح أنهم قد تركوا هذه الشريعة العظيمة أصلاً ورأساً ، فكيف يصح لهم دعوى أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع انسلاخهم من معظم شرائعه ! ثم فسر الهدى بقوله : { فيه آيات بينات } وقوله : { مقام إبراهيم * } أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف - أعربه أبو حيان بدلاً أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر { إن } في قوله : { للذي ببكة } فكأنه قيل : إن أول بيت وضع للناس لمقام إبراهيم ، وأعربه غيره بدل بعض من قوله { آيات } وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم ، وحفظه إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً ، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام . ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى : { ومن دخله } أي فضلاً عن أهله { كان آمناً } أي عريقاً في الأمن ، أو فأمنوه بأمان الله ، وتحويل العبارة عن " وأمن داخله " لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن ، وفيه بشارة بدخول الجنة . ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم ، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى : { ولله } أي الملك الذي له الأمر كله { على الناس } أي عامة ، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في { استطعما أهلها } [ الكهف : 77 ] في الكهف ، وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم { حج البيت } أي زيارته زيارة عظيمة ، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره ، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة ، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم ، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج ، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس ، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة : { من استطاع } أي منهم { إليه سبيلاً } فمن حجه كان مؤمناً . ولما كان من الواضح أن التقدير : ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب ، وبالمروق من الدين إن جحد ، عطف عليه قوله : { ومن كفر } أي بالنعمة أو بالدين { فإن الله } اي الملك الأعلى { غني } ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه : { عن العالمين * } أي طائعهم وعاصيهم ، صامتهم وناطقهم ، رطبهم ويابسهم ، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم ، فثبتت بذلك براءته منهم ، والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه ، وإثبات { ومن كفر } ثانياً يدل على إيمان من حجه . ولما أتم سبحانه وعز شأنه البراهين وأحكم الدلائل عقلاً وسمعاً ، ولم يبق لمتعنت شبهة ، ولم يبادروا الإذعان ، بل زادوا في الطغيان ، وكادوا أن يوقعوا الضراب والطعان بين أهل الإيمان ، أعرض سبحانه وتعالى عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب ورابع الانتقام فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لرسوله الذي يكون قتلهم على يده : { قل } وأثبت أداة دالة على بعدهم عن الحضرة القدسية فقال : { يا أهل الكتاب } أي من الفريقين { لم تكفرون } أي توقعون الكفر { بآيات الله } أي وهي - لكونه الحائز بجميع الكمال - البينات نقلاً وعقلاً الدالة على أنكم على الباطل لما وضح من أنكم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام . ولما كان كفرهم ظاهراً ذكر شهادته تعالى فقال مهدداً { والله } أي والحال أن الله الذي هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً فلا إله غيره وقد أشركتم به { شهيد على } كل { ما تعملون * } أي لكونه يعلم سبحانه السر وأخفى وإن حرفتم وأسررتم . ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال : { قل يا آهل الكتاب } أي المدعين للعلم واتباع الوحي ، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التطلف في صرفهم عن ضلالهم { لم تصدون } أي بعد كفركم { عن سبيل الله } أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال ، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وقدمه اهتماماً به . ثم ذكر المفعول فقال : { من أمن } حال كونكم { تبغونها } أي السبيل { عوجاً } أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله ، ولم يفعل سبحانه وتعالى إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه تعالى جده وتعاظم مجده إذ قال : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } [ آل عمران : 65 ] { يا أهل الكتاب لم تكفرون } [ آل عمران : 70 ] والآية التي بعدها بغير واسطة . وقال أبو البقاء في إعرابه : إن تبغون يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من الضمير في تصدون أو من السبيل ، لأن فيها ضميرين راجعين إليها ، فلذلك يصح أن يجعل حالاً من كل واحد منهما ، وعوجاً حال - انتهى . وقال صاحب القاموس في بنات الواو : بغا الشيء بغواً : نظر إليه كيف هو ، وقال في بنات الياء : بغيته أبغيه : طلبته ، فالظاهر أن جعل عوجاً حالاً - كما قال أبو البقاء - أصوب من جعله مفعولاً - كما قال في الكشاف . ويكون تبغون إما يائياً فيكون معناه : تريدونها معوجة أو ذات عوج ، فإن طلب بمعنى : أراد ؛ وإما أن يكون واوياً بمعنى : ترونها ذات عوج ، أي تجعلونها في نظركم يعني : تتكلفون وصفها بالعوج مع علمكم باستقامتها ، لكن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح " ابغني أحجاراً أستنفض بهن " يؤيد قول صاحب الكشاف . ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً : { وأنتم شهداء } أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به لانقيادهم للأدلة . ولما كان الشهيد قد يغفل ، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم ، هددهم بإحاطة علمه فقال : { وما الله } أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها { بغافل } أي أصلاً { عما تعملون * } ولما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم ، أقبل بالبشر على أحبائه ، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه ، محذراً لهم الاغترار بالمضلين ، ومنبهاً ومرشداً ومذكراً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود ، فقال سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم { إن تطيعوا فريقاً } أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به { من الذين أوتوا الكتاب } أي القاطعين بين الأحباب مثل شأس بن قيس الذي مكر بكم إلى أن أوقع الحرب بينكم ، فلولا النبي الذي رحمكم به ربكم لعدتم إلى شر ما كنتم فيه { يردوكم } وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد : { بعد إيمانكم كافرين * } أي غريقين في صفة الكفر ، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها ! . ولما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم بالإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحوال الشريفة فقال - عاطفاً على ما تقديره : فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم : { وكيف تكفرون } أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال { وأنتم تتلى } أي تواصل بالقراءة { عليكم آيات الله } أي علامات الملك الأعظم البينات { وفيكم رسوله } الهادي من الضلالة المنقذ من الجهالة ، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه { ومن } أي والحال أنه من { يعتصم } أي يجهد نفسه في ربط أموره { بالله } المحيط بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان . ولما كان من قصر نفسه على من له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال : { فقد هدى } وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين { إلى صراط مستقيم * } . ولما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب ، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا ذلك بألسنتهم { اتقوا الله } أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام { حق تقاته } فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه { ولا تموتن } على حالة من الحالات { إلا وأنتم مسلمون * } أي منقادون أتم الانقياد ، ونقل عن العارف أبي الحسن الشاذلي أن هذه الآية في أصل الدين وهو التوحيد ، وقوله سبحانه وتعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] في فروعه . ولما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً ، دلهم - بعد أن أوقفتهم التقوى - على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال : { واعتصموا } أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم { بحبل الله } أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها ، وأصل الحبل السبب الذي يوصف به إلى البغية والحاجة ، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف ، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح , وهذا الدين مثاله , فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته ، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله . ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله : { جميعاً } لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها ، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره ، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام ، وتتعبوا على الدوام ، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل ، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى ، ثم أكد ذلك بقوله : { ولا تفرقوا } ثم ذكرهم نعمة الاجتماع ، لأن ذلك باعث على شكرها ، وهو باعث على إدامة الاعتصام والتقوى ، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال : { واذكروا نعمة الله } الذي له الكمال كله { عليكم } يا من اعتصم بعصام الدين ! { إذا كنتم أعداء } متنافرين أشد تنافر { فألف بين قلوبكم } بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم { فأصبحتم بنعمته إخواناً } قد نزع ما في قلوبكم من الإحن ، وأزال تلك الفتن والمحن . ولما ذكر النعمةت التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال : { وكنتم على شفا } أي حرف وطرف { حفرة من النار } بما كنتم فيه من الجاهلية { فأنقذكم منها } . ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله - جواباً لمن يقول : لله در هذا البيان ! ما أغربه من بيان ! - { كذلك } أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال { يبين الله } المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته { لكم آياته } وعظم الأمر بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه . ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله : { لعلكم تهتدون * } أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته ، هذا الترجي حالكم فيما بينكم ، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي ، ثم الأمر إليه ، فمن شاء هداه ، ومن أراد أرداه .