Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 24-27)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ختم بالسمع آية جمعت آيات الأنفس والآفاق لكونها نشأت من أحوال البشر والخافقين ، افتتح بالرؤية آية أخرى جامعة لهما لكونها ناشئة عنهما مع كونها أدل على المقصود جامعة بين الترغيب والترهيب فقال : { ومن آياته } ولما كان لمعان البرق جديراً بالتماع البصر عند أول رؤية ، وكان يتجدد في حين دون حين ، عبر بالمضارع حاذفاً الدال على إرادة المصدر للدلالة على التجدد المعجب منه فقال : { يريكم البرق } أي على هيئات وكيفيات طالما شاهدتموها تارة تأتي يما يضر وتارة بما يسر ، ولذلك قال معبراً بغاية الإخافة والإطماع لأن الغايات هي المقصودة بالذات : { خوفاً } أي للإخافة من الصواعق المحرقة { وطمعاً } أي وللاطماع في المياه الغدقة ، وعبر بالطمع لعدم الأسباب الموصلة إليه . ولما كان البرق غالباً من المبشرات بالمطر ، وكان ما ينشأ عن الماء أدل شيء على البعث ، أتبعه شرح ما أشار إليه به من الطمع فقال : { وينزّل } ولما كان إمساك الماء في جهة العلو في غاية الغرابة ، قال محققاً للمراد بالإنزال من الموضع الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه { من السماء ماء } . ولما جعل سبحانه ذلك سبباً لتعقب الحياة قال : { فيحيي به } أي الماء النازل من السماء خاصة لأن أكثر الأرض لا تسقى بغيره { الأرض } أي بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان ، ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم ، وكان إحياؤها به متكرراً ، فكان كأنه دائم ، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة حذف الجار قائلاً : { بعد موتها } أي بيبسه وتهشمه { إن في ذلك } أي الأمر العظيم العالي القدر { لآيات } لا سيما على القدرة على البعث . ولما كان ذلك ظاهراً كونه من الله الفاعل بالاختيار لوقوعه في سحاب دون سحاب وفي وقت دون آخر وفي بلد دون آخر ، وعلى هيئات من القوة والضعف والبرد والحر وغير ذلك من الأمر ، وكان من الوضوح في الدلالة على البعث بمكان لا يخفى على عاقل قال : { لقوم يعقلون * } . ولما كان جميع ما مضى من الآيات المرئيات ناشئاً عن هذين الخلقين العظيمين المحيطين بمن أنزلت عليهم هذه الآيات المسموعات بياناً لمن أشكل عليه أمر الآيات المرئيات ، ذكر أمراً جامعاً للكل وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من العقل المختوم به ما قبل فقال : { ومن آياته } أي على تمام القدرة وكمال الحكمة . ولما كانت هذه الآية في الثبات لا في التجدد ، أتى بالحرف الدال على المصرف ليسلخ الفعل عن الاستقبال ، وعبر بالمضارع لأنه لا بد من إخراجهما عن هذا الوضع فقال : { أن تقوم } أي تبقى على ما تشاهدون من الأمر العظيم بلا عمد { السماء } أفرد لأن السماء الأولى لا تقبل النزاع لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ للكل لأنه جنس { والأرض } على ما لهما من الجسامة والثقل المقتضي للهبوط { بأمره } لا بشيء سواه . ولما لم يبق في كمال علمه وتمام قدرته شبهة ، قال معبراً بأداة التراخي لتدل - مع دلالتها على ما هي له - على العظمة ، فقال دالاً على أن قدرته على الأشياء كلها مع تباعدها على حد سواء ، وأنه لا فرق عنده في شمول أمره بين قيام الأحياء وقيام الأرض والسماء { ثم إذا دعاكم } وأشار إلى هوان ذلك الأمر عنده بقوله : { دعوة من الأرض } على بعد ما بينها وبين السماء فضلاً عن العرش ، وأكد ذلك بكونه مثل لمح البصر أو هو أقرب فقال معبراً بأداة الفجاءة : { إذا أنتم تخرجون * } أي يتجدد لكم هذا الوصف بعد اضمحلالكم بالموت والبلى ، ويتكرر باعتبار آحادكم من غير تلبث ولا مهلة أصلاً ، إلا أن يترتب على الأفضل فالأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من تنشق عنه الأرض " كما دعاكم منها أولاً إذا خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، وأعرى هذه مما ختم به الآيات السالفة تنبيهاً على أنها مثل الأولى قد انتهت في الظهور ، ولا سيما بانضمامها إلى الأولى التي هي أعظم دال عليها إلى حد هو أضوأ من النور ، كما تأتي الإشارة إليه في آية " وهو أهون عليه " . ولما ذكر تصرفه في الظرف وبعض المظروف من الإنس والجن ، ذكر قهره للكل فقال : { وله } أي وحده بالملك الأتم { من في السماوات والأرض } أي كلهم ، وأشار إلى الملك بقوله : { كلٌّ له } أي وحده . ولما كان انقياد الجمع مستلزماً لانقياد الفرد دون عكسه جمع في قوله : { قانتون * } أي مخلصون في الانقياد ليس لأنفسهم ولا لمن سواه في الحقيقة والواقع تصرف بوجه ما إلا بإذنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : مطيعون طاعة الإرادة وإن عصوا أمره في العبادة - نقله عنه البغوي وغيره ورجحه الطبري وهو معنى ما قلت . ولما كان هذا معنى يشاهده كل أحد في نفسه مع ما جلى سبحانه من عرائس الآيات الماضيات ، فوصل الأمر في الوضوح إلى حد عظيم قال : { وهو } أي لا غيره { الذي يبدأ الخلق } أي على سبيل التجديد كما تشاهدون ، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال : { ثم يعيده } أي بعد أن يبيده . ولما كان من المركوز في فطر جميع البشر أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه قال : { وهو } أي وذلك الذي ينكرونه من الإعادة { أهون عليه } خطاباً لهم بما الفوه وعقلوه ولذلك أخر الصلة لأنه لا معنى هنا للاختصاص الذي يفيده تقديمها . ولما كان هذا إثماً هو على طريق التمثيل لما يخفى عليهم بما هو جلي عندهم ، وكل من الأمرين بالنسبة إلى قدرته على حد سواء لا شيء في علمه أجلى من آخر ، ولا في قدرته أولى من الآخر ، قال مشيراً إلى تنزيه نفسه المقدسة عما قد يتوهمه بعض الأغبياء من ذلك : { وله } أي وحده { المثل الأعلى } أي الذي تنزه عن كل شائبة نقص ، واستولى على كل رتبة كمال ، وهو أمره الذي أحاط بكل مقدور ، فعلم به إحاطته هو سبحانه بكل معلوم ، كما تقدم في البقرة في شرح المثل { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] . ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال : { في السماوات والأرض } اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه ، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما ، وقد قالوا : إن المراد بالمثل هنا الصفة ، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريباً لعقولنا ، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم من ملوكنا فنقول : الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا : فلان جلس على سرير الملك ، بمعنى : استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس ، وإذا ذكر بطشه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى : { يد الله فوق أيديهم } [ الفتح : 10 ] { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] مثلناه بما لو قهر سلطان أعدائه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا " محق سيفه أعداءه " فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته ، وإذا قيل : تجري بأعيننا ، ونحو ذلك علمنا أنه مثل ما نقول إذا رأينا ملكاً حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا " هو في غاية اليقظة " فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم ، وهذه تفاصيل مما قدمت أنه مثله ، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه ، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد ، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريباً للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال ، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم ، ولذلك قال تعالى : { وهو } أي وحده { العزيز } أي الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان { الحكيم * } أي الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء منه ، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث ، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق وأكثر ، فكان عدم هذا الموجود خيراً من وجوده وأحكم .