Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 33-34)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة ، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة ، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية ، فلم تدع شيئاً من العجمة ، فظهر كالشمس أنه لا بد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب ، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه ، وخوّفهم ما هم صائرون إليه ، منادياً لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفاً فقال : { يأ أيها الناس } أي عامة ، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيباً وترهيباً فقال : { اتقوا ربكم } أي والذي لا إله لكم غيره ، لأنه لا محسن إليكم غيره ، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه ، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر . ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه ، لأنه لا مكافئ له ، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال : { واخشوا يوماً } لا يشبه الأيام ، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه . ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه فتر ذلك من خوفه ، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما ، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال : { لا يجزي } أي يغني فيه ، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أسباباً ستر قدرته بها ، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها ، وأما هناك فتزول الأسباب ، وينجلي غمام الارتياب ، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب . ولما كانت شفقة الوالد - مع شمولها لجميع أيام حياته - أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال بدأ به فقال : { والد } كائناً من كان { عن ولده } أي لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء وإن تحقق أن الولد منه ، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ، وتجدد عنده العطف والرقة ، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد ، وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده . ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه ، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال : { ولا مولود } أي مولود كان { هو جاز عن والده } وإن علم أنه بعضه { شيئاً } من الجزاء ، وفي التعبير بـ " هو " إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه ، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط ، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق ، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه ، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه ، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه ، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال : أنه يخيط ، ولا يصح " خياط " لأن ذلك ليس من صنعته ، ولا من شأنه . ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول : هل هذا اليوم كائن حقاً ؟ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكداً لمكان إنكارهم ، لأفتاً القول إلى الاسم الأعظم لاقتضاء الوفاء له : { إن وعد الله } الذي له جميع معاقد العز والجلال { حق } يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله ، وعظيم قدرته وكماله ، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلاً عن أوهامكم أن يخلفه مع أن أدناكم - أيها العرب كافة - لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب في ذلك الأخطار ، وعانى فيه الشدائد الكبار ، فلما ثبت أمره ، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم ، لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات ، تسبب عنه قوله : { فلا تغرنكم } مؤكداً لعظم الخطب { الحياة الدنيا } أي بزخرفها ، ولا ما يبهج من لا تأمل له من فاني رونقها ، وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم من الألف بالحاضر مُعم لهم عما فيه من الزور ، والخداع الظاهر والغرور ، فقال مظهراً غير مضمر لأجل زيادةً التنبيه والتحذير : { ولا يغرنكم بالله } الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم { الغرور * } أي الكثير الغرور المبالغ فيه ، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه ، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ، ويلهيكم به من تعظيم قدرها ، وينسيكموه من كيدها وغدرها ، وتعبها وشرها ، وأذاها وضرها ، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم ، فلا تعدونه معاداً ، فلا تتخذون له زاداً ، لما اقترن بغروره من حلم الله وإمهاله ، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : الغرة أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة . ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية ، ويأتي في آخر التي بعدها ، إنا تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة ، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي ، لما في ذلك من الحكمة التي سقيت لها السورة ، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق ، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له : { إن الله } أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال { عنده } أي خاصة ، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور ، ولو قيل " لديه " لأوهم التعبير بلدي التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً ، وأوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن " لدى " أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد ، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت من تطرق احتمال فاسد إليها { علم الساعة } أي وقت قيامها ، لا علم لغيره بذلك أصلاً . ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها ، وكشف بعض أمرها ، عبر تعالى بالعلم ، ولما كانوا قد ألحوا في السؤال عن وقتها ، وكانت أبعد الخمس عن علم الخلق ، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة } [ النازعات : 13 ] أبرزها سبحانه في جملة اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر ، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها ، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها ، وأشكالها وألوانها ، وسائر شأنها ، وطيران الأرواح بالنفخ إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم ، وتغاير صورهم وأطوالهم ، وتباين ألسنتهم وأعمالهم ، إلى غير ذلك من الأمور ، وعجائب المقدور ، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم ، ثم حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين ، هذا إلى موجهم من شدة الزحام ، والكروب العظام بعضاً في بعض . يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات ، وانكدار ما فيها من النيرات ، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم ، وهم من لا يحصى أهل سماء منهم ، كثرة ، كيف وقد أطت السماء وحق لها أن تئط , ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي , هذا إلى تبدل الأراضي وزوال الجبال ، ونسف الأبنية والروابي والتلال ، وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه . { المفتاح الثاني } : آية الله في خلقه على قيام الساعة ، وأدل الأدلة عليه وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما كان من قبل على اختلاف ألوانه ، ومقاديره وأشكاله ، وأغصانه وأفنانه ، وروائحه وطعومه ، ومنافعه وطبائعه - إلى غير ذلك من شؤونه ، وأحواله وفنونه ، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها . ولما كانوا ينسبون الغيث إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان ، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال : { وينزل الغيث } بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير بـ " كل " وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه ، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله وقوعه إلا من قبله . { المفتاح الثالث } : علم الأجنة وهو الرتبة الثانية في الدلالة على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها ، وتشكيلها وتقديرها ، على وصفي الذكورة والأنوثة ، مع الوضوح أو الإشكال ، والوحدة أو الكثرة ، والتمام أو النقص - إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع ، والأخلاق والشمائل ، والأكساب والصنائع ، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن - وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم ، ومحيي الرمم . ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً ، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً ، ونحو ذلك بما ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب ، وكثرة الممارسة ، عبر العلم فقال : { ويعلم ما في الأرحام } من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك ، وصيغة المضارع لتجدد الأجنحة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت ، والكلام في اللام والاختصاص بالعلم كالذي قبله سواء . { المفتاح الرابع } : الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها ، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز ، وعن أحوال الناس عند ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء والغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل ، وغير ذلك من الصحة والعلل ، في اختلاف الأمور ، وعجائب المقدور ، في الخيور والشرور ، مما لا يحيط به إلا مبدعه ، وغارزه في عباده وودعه ، ولكون الإنسان - مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له - لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته ، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي - كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام - أن مادة " درى " تدور على الدوران ، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر ، فهي أخص من مطلق العلم فقال : { وما تدري نفس } أي من الأنفس البشرية وغيرها { ما } وأكد المعنى بـ " ذا " وتجريد الفعل فقال : { ذا تكسب غداً } أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه ، وفي نفي علم ذلك من العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه ، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى ، فصار على طريق الحصر ، وعلم أيضاً أنه لا يسند إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً ، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه ، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً . { المفتاح الخامس } : مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي ، وابتداء الأمر الأخروي الظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران ، وعز وهوان ، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول ، والصعود والنزول ، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخر مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه . ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة من شدة حذره منه وحبه لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه ، عبر عنه عن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند : { وما تدري } وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال : { نفس } أي من البشر وغيره { بأيّ أرض تموت } ولم يقل : بأي وقت ، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين ، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت ، فكان ذلك أدل دليل على جهله بموضوع موته إذ علم به لبعد عنه ولم يقرب منه ، وقد روى البخاري حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ { إن الله عنده علم الساعة } الآية " ، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال : " خمس لا يعلمهن إلا الله { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب } " - إلى آخر السورة ، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه ، وقد رتبها سبحانه هذا الترتيب لما تقدم من الحكمة وعلم سر إتيانه بها تارة في جملة اسمية وتارة في فعلية ، وتارة ليس فيها ذكر للعلم ، وأخرى يذكر فيها ، ويسند إليه سبحانه ، ولكن لا على وجه الحصر ، وتارة بنفي العلم من غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه ، وعلم سر قوله " بأيّ أرض " دون أيّ وقت ، كما في بعض طرق الحديث . ولما كان قد أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء ، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً بعلمه لها مرتين ، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به ، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه : { إنّ الله } أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال { عليم } أي شامل العلم للأمور كلها ، كلياتها وجزئياتها ، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم ، فانطبق الدليل على الدعوى - والله الموفق . ولما أثبت العلم على هذا الوجه ، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله : { خبير } أي يعلم خبايا الأمور ، وخفايا الصدور ، كما يعلم ظواهرها وجلاياها ، كل عنده على حد سواء ، فهو الحكيم في ذاته وصفاته ، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده ، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم ، باختلاف هذا النظام ، على ما فيه من الإحكام ، فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها ، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة ، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً ، فسبحانه من هذا كلامه ، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه ، ولا إله غيره وهو اللطيف .