Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 28-31)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما تقرر بهذه الوقائع - التي نصر فيها سبحانه وحده بأسباب باطنه سببها ، وأمور خفية رتبها ، تعجز عنها الجيوش المتخيرة المستكثرة ، والملوك المتجبرة المستكبرة - ما قدم من أنه كافي من توكل عليه ، وأقبل بكليته إليه ، وختم بصفة القدرة العامة الدائمة ، تحرر أنه قادر على كل ما يريده ، وأنه لو شاء أجرى مع وليه كنوز الأرض ، وأنه لا يجوز لأحد أن يراعي غيره ولا أن يرمق بوجه ما سواه ، وعلم أن من أقبل إلى هذا الدين فإنما نفع نفسه والفضل لصاحب الدين عليه ، ومن أعرض عنه فإنما وبال إعراضه على نفسه ، ولا ضرر على الدين بإعراض هذا المعرض ، كما أنه لا نفع له بإقبال ذلك المقبل ، وكان قد قضى سبحانه أن من انقطع إليه حماه من الدنيا إكراماً له ورفعاً لمنزلته عن خسيسها إلى نفيس ما عنده ، لأن كل أمرها إلى زوال وتلاش واضمحلال ، ولا يعلق همته بذلك إلا قاصر ضال ، فأخذ سبحانه يأمر أحب الخلق إليه ، وأعزهم منزلة لديه ، المعلوم امتثالاً للأمر بالتوكل والإعراض عن كل ما سواه سبحانه وأنه لا يختار من الدنيا غير الكفاف ، والقناعة والعفاف ، بتخيير ألصق الناس به تأديباً لكافة الناس ، فقال على طريق الاستنتاج مما تقدم : { يا أيها النبي } ذاكراً صفة رفعته واتصاله به سبحانه والإعلام بأسرار القلوب ، وخفايا الغيوب ، المقتضية لأن يفرغ فكره لما يتلقاه من المعارف ، ولا يعلق عن شيء من ذلك بشيء من أذى : { قل لأزواجك } أي نسائك : { إن كنتن } أي كوناً راسخاً { تردن } أي اختياراً عليّ { الحياة } ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ويذكر من له عقل بالآخرة فقال : { الدنيا } أي ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة { وزينتها } أي المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه ، لأنها قاطعة عنه { فتعالين } أصله أن الأمر يكون أعلى من المأمور ، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ثم كثر حتى صار معناه : أقبل ، وهو هنا كناية عن الإخبار والإراداة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره { أمتعكن } أي بما أحسن به إليكن { وأسرحكن } أي من حباله عصمتي { سراحاً جميلاً * } أي ليس فيه مضارة ، ولا نوع حقد ولا مقاهرة { وإن كنتن } بما لكن من الجبلة { تردن الله } أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال { ورسوله } المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئاً ، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله { والدار الآخرة } التي هي الحيوان بما لها من البقاء ، والعلو والارتقاء . ولما كان ما كل من أظهر شيئاً كان عالي الرتبة فيه ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعاً لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم ، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو يستبعد وقوعه في الدنيا أو الآخرة : { فإن الله } أي بما له من جميع صفات الكمال { أعد } في الدنيا والآخرة { للمحسنات منكن } أي اللاتي يفعلن ذلك وهن في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره { أجراً عظيماً * } أي تحتقر له الدنيا وكل ما فيها من زينة ونعمة . ولما أتى سبحانه بهذه العبارة الحكيمة الصالحة مع البيان للتبعيض ترهيباً في ترغيب ، أحسن كلهن وحققن بما تخلقن به أن من للبيان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليهن رضي الله عنهن ذلك ، وبدأ بعائشة رضي الله عنها رأس المحسنات إذ ذاك رضي الله عنها وعن أبيها وقال لها : " إني قائل لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أوبويك " ، فلما تلاها عليها قالت منكرة لتوقفها في الخبر : أفي هذا أستأمر أبوي ، فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم عرض ذلك على جميع أزواجه فاقتدين كلهن بعائشة رضي الله عنهن فكانت لهن إماماً فنالت إلى أجرها مثل أجورهن - روى ذلك البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها ، وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وجد على نسائه رضي الله عنهن فآلى منهن شهراً ، فلما انقضى الشهر نزل إليهن من غرفة كان اعتزل فيها وقد أنزل الله عليه الآيات . فخيرهن فاخترنه رضي الله عنهن ، وسبب ذلك أن منهن من سأل التوسع في النفقة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب التوسع في الدنيا ، روى الشيخان رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم ، من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى الحديث البيهقي ولفظه : قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا لشبعنا ، ولكنه كان يؤثر على نفسه ، وروى الطبراني في الأوسط عنها أيضاً رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إليّ أشعث شاحب لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ، رفع له علم فشمر إليه ، اليوم المضمار وغداً السباق ، والغاية الجنة أو النار " . ولما كان الله سبحانه قد أمضى حكمته في هذه الدار في أنه لا يقبل قول إلا ببيان ، قال سبحانه متهدداً على ما قد أعاذهن الله منه ، فالمراد منه بيان أنه رفع مقاديرهن ، ولذلك ذكر الأفعال المسندة إليهن اعتباراً بلفظ " من " والتنبيه على غلط من جعل صحبه الأشراف دافعة للعقاب على الإسراف ، ومعلمة بأنها إنما تكون سبباً للإضعاف : { يا نساء النبي } أي المختارات له لما بينه وبين الله مما يظهر شرفه { من يأتِ } قراءة يعقوب على ما نقله البغوي بالمثناة الفوقانية على معنى من دون لفظها , وهي قراءة شاذة نقلها الأهوازي في كتاب الشواذ عن ابن مسلم عنه : وقرأ الجماعة بالتحتانية على اللفظ وكذا " يقنت " { منكن بفاحشة } أي من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق باختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله أو غير ذلك { مبينة } أي واضحة ظاهرة في نفسها تكاد تنادي بذلك من سوء خلق ونشوز أو غير ذلك { يضاعف لها العذاب } أي بسبب ذلك ، ولما هول الأمر بالمفاعلة في قراءة نافع المفهمة لأكثر من اثنين كما مضى في البقرة ، سهله بقوله : { ضعفين } أي بالنسبة إلى ما لغيرها لأن مقدارها لا يعشره مقدار غيرها كما جعل حد الحر ضعفي ما للعبد ، وكما جعل أجرهن مرتين . واشتد العتاب فيما بين الأحباب ، وعلى قدر علو المقام يكون الملام ، وبقدر النعمة تكون النقمة ، وكل من بناء يضاعف للمجهول من باب المفاعلة أو التفعيل لأبي جعفر والبصريين أو للفاعل بالنون عند ابن وكثير وابن عامر يدل على عظمته سبحانه ، والبناء للمجهول يدل على العناية بالتهويل بالعذاب بجعله عمدة الكلام وصاحب الجملة بإسناد الفعل إليه ، وذلك كله إشارة إلى أن الأمور الكبار صغيرة عنده سبحانه لأنه لا يضره شيء ولا ينفعه ، ولا يوجب شيء من الأشياء له حدوث شيء لم يكن ، ولذلك قال : { وكان ذلك } أي مع كونه عظيماً عندكم { على الله يسيراً * } فهذا ناظر إلى مقام الجلال والكبرياء والعظمة . ولما قدم درء المفاسد الذي هو من باب التخلي ، أتبعه جلب المصالح الذي هو من طراز التحلي فقال : { ومن يقنت } أي يخلص الطاعة ، وتقدم توجيه قراءة يعقوب بالفوقانية على ما حكاه البغوي والأهوازي في الشواذ عن ابن مسلم { منكن لله } الذي هو أهل لئلا يلتفت إلى غيره لأنه لا أعظم منه بإدامة الطاعة فلا يخرج عن مراقبته أصلاً { ورسوله } فلا تغاضبه ولا تطلب منه شيئاً ، ولا تختار عيشاً غير عيشه ، فإنه يجب على كل أحد تصفية فكره ، وتهدئه باله وسره ، ليتمكن غاية التمكن من إنقاذ أوامرنا والقيام بما أرسلناه بسببه من رحمة العباد ، بإنقاذهم مما هم فيه من الأنكاد . ولما كان ذلك قد يفهم الاقتصار على عمل القلب قال : { وتعمل } قرأها حمزة والكسائي بالتحتانية رداً على لفظ " من " حثاً لهن على منازل الرجال ، وقراءة الجماعة بالفوقانية على معناها على الأصل مشيرة إلى الرفق بهن في عمل الجوارح والرضى بالمستطاع كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " وأما عمل القلب فلا رضى فيه بدون الغاية ، فلذا كان " يقنت " مذكراً لا على شذوذ { صالحاً } أي في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه { نؤتها } أي بما لنا من العظمة على قراءة الجماعة بالنون ، وقراءة حمزة والكسائي بالتحتانية على أن الضمير لله { أجرها مرتين } أي بالنسبة إلى أجر غيرها من نساء بقية الناس { وأعتدنا } أي هيأنا بما لنا من العظمة وأحضرنا { لها } بسبب قناعتها مع النبي صلى الله عليه وسلم المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة { رزقاً كريماً * } أي في الدنيا والآخرة ، فلا شيء أكرم منه لأن ما في الدنيا منه يوفق لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب ، ولا يخشى من أجله نوع عتاب فضلاً عن عقاب ، وما في الآخرة منه لا يوصف ولا يحد ، ولا نكد فيه بوجه أصلاً ولا كد .