Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 44-45)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما بيّن أن حالهم موجب ولا بد للإيقاع بهم لما ثبت من أيام الله ، وأنكر ذلك عليهم ، وكان التقدير : ألم يسمعوا أخبار الأولين المرة وأحوالهم المستمرة من غير تخلف اصلاً في أن من كذب رسولاً أخذ ، فقال عاطفاً عليه استشهاداً على الخبر عن سنته في الأولين بما يذكر من آثارهم : { أولم يسيروا } أي فيما مضى من الزمان { في الأرض } أي التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق { فينظروا } أي فيتسبب لهم عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام ، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عنه ما جرى من مقاله ، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان ، أثبت الجار فقال : { من قبلهم } أي على أيّ حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم ، وهذا معنى يس { أنهم إليهم لا يرجعون } [ يس : 31 ] سواء كما يأتي أن شاء الله تعالى بيانه . ولما كان السياق لاتصافهم بقوتي الظاهر من الاستكبار والباطن من المكر الضار , مكّن قوة الذين خوفهم بمثل مآلهم بوصفهم بالأشدية في جملة حالية فقال : { وكانوا } أي أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا والحال أنهم كانوا { أشد منهم } أي من هؤلاء { قوة } في قوتي الاستكبار والمكر الجارّ بعد العار إلى النار . ولما كان التقدير : فما أعجز الله أمر أمة منهم ، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم ، وما خاب له ولي ولا ربح ولا عدو ، عطف عليه قوله ، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير ، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف : { وما كان الله } أي الذي له جميع العظمة ؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله : { ليعجزه } أي مريداً لأن يعجزه ، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى ! وأبلغ في التأكيد بقوله : { من شيء } أي قل أو جل ! وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله : { في السماوات } أي جهة العلو ، وأكد بإعادة النافي فقال : { ولا في الأرض } أي جهة السفل . ولما كان منشأ العجز الجهل ، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية : { إنه كان } أي أزلاً وأبداً { عليماً } أي شامل العلم { قديراً * } أي كامل القدرة ، فلا يريد شيئاً إلا كان . ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء فيقولون : ما له لا يهلكنا ، علم أن التقدير : لو عاملكم الله معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم ، فعطف عليه قوله إظهاراً للحكم مع العلم : { ولن يؤاخذ الله } أي بما له من صفات العلو { الناس } أي من فيه نوس أي حركة واضطراب من المكلفين عامة . ولما كان السياق هنا لأفعال الجوارح لأن المكر والكبر إنما تكره آثارهما لا الاتصاف بهما ، بخلاف الذي هو سياق النحل فإنه ممنوع من الاتصاف وإن لم يظهر به أثر من آثار الجوارح ، عبر هنا بالكسب وفك المصدر ليخص ما وجد منه بالفعل فقال : { بما كسبوا } أي من جميع أعمالهم سواء كان حراماً أو لا { ما ترك على ظهرها } أي الأرض { من دآبة } أي بل كان يهلك الكل ، أما المكلفون فلأنه ليس في أعمالهم شيء يقدره سبحانه حق قدره ، لما لهم من النقص ولما له سبحانه من العلو والارتقاء والكمال ، وأما غيرهم فإنما خلقوا لهم ، والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم ، وذلك كما فعل في زمان نوح عليه السلام ، لم ينج ممن كان على الأرض غير من كان في السفينة { ولكن } لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش ، بل يحلم عنهم فهو { يؤخرهم } أي في الحياة الدنيا ثم في البرزخ { إلى أجل مسمى } أي سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم لبعثهم من قبورهم ، وهو لا يبدل القول لديه لما له من الصفات التي هي أغرب الغريب عندكم لكونكم لا تدركونها حق الإدراك { فإذا جاء أجلهم } أي الفنائي الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله ، أو الإيجابي الإبقائي بعث كلاًّ منهم فجازاه بعمله من غير وهم ولا عجز . ولما كانوا ينكرون ما يفمهه ذلك من البعث ، أكد فقال : { فإن الله } أي الذي له صفات الكمال الموجد بتمام القدرة وكمال الاختيار { كان } ولم يزل . ولما كان السياق للكسب الذي هو أعم من الظلم قال : { بعباده } الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد أحد منهم بجميع ذواتهم واحوالهم { بصيراً * } أي بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب منهم بالكسب ومن يستحق الثواب ، فقد انطبق آخرها كما ترى على أولها باستجماع صفات الكمال وتمام القدرة على كل من الإيجاد والإعدام للحيوان والجماد مهما أراد بالاختيار ، لما شوهد له سبحانه من الآثار ، كما وقع الإرشاد إليه بالأمر بالسير وبغيره وبما ختمت به السورة من صفة العلم على وجه أبلغ من ذكره بلفظه ، لما مضى في سورة طه من أن إحاطة العلم تستلزم شمول القدرة ، ولا تكون القدرة شاملة إلا إذا كانت عن اختيار ، فثبت حينئذ استحقاقه تعالى لجميع المحامد ، فكانت عنه سبحانه الرسالات الهائلة الجامعة للعزة والحكمة بالملائكة المجردين عن الشهوات وكل حظ إلى من ناسبهم من البشر بما غلب من جيش عقله على عساكر شهواته ونفسه ، حتى صار عقلاً مجرداً صافياً ، حاكماً على الشهوات والحظوظ قاهراً كافياً .