Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 1-6)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان القلب من الإنسان المقصود بالذات من الأكوان في نحو ثلث بدنه من جهة رأسه ، وكانت الياء في نحو ذلك من حروف " أبجد " فإنها العاشرة منها والسين بذلك المحل من حروف أ ب ت ث فإنها الثانية عشرة منها ، وعلا هذان الحرفان - بما فيهما من الجهر - عن غاية الضعف ونزلا بما لهما من الهمس عن نهاية الشدة ، إشارة إلى أن القلب الصحيح هو الزجاجي الشفاف الجامع بين الصلابة والرقة الذي علا بصلابته عن رقة الماء الذي لا يثبت فيه صورة ، ونزل بلطافته عن قساوة الحجر الذي لا يكاد ينطبع فيه شيء إلا بغاية الجهد ، فكان جامعاً بين الصلابة والرقة متهيئاً لأن تنطبع فيه الصور وتثبت ليكون قابلاً مفيداً ، فيكون متخلفاً من صفات موجدة بالقدرة والاختيار اللذين دلت عليهما سورة الملائكة ، وبمعرفة الخير فيجتلبه والشر فيجتنبه فيكون فيه شاهد من نفسه على الاعتقاد الحق في صانعه ، وكانت المجهورة أقوى فقدمت الياء لجهرها ، وكانتا - بعد اختلاف بالجهر والهمس - قد اتفقتا في الانفتاح والرخاوة والاستفال إشارة إلى أن القلب لا يصلح - كما تقدم - مع الصلابة التي هي في معنى الجهر إلا بالإخبات الذي هو في معنى الهمس ، وبالنزول عن غاية الصلابة إلى حد الرخاوة لئلا يكون حجرياً قاسياً , بأن يكون فيه انفتاح ليكون مفيداً وقابلاً , ويكون مستفلاً ليكون إلى ربه بتواضعه واصلاً , وزادت السين بالصفير الذي فيه شدة وانتشار وقوة لضعفها عن الياء بالهمس فتعادلتا ، ودل صفيرها على النفخ في الصور الذي صرحت به هذه السورة , ودل جهر الياء على قوته , ودل كونها من حروف النداء على خروجه عن الحد في الشده حتى تبدو عنه تلك الآثار المخلية للديار ، المنفية للصغار والكبار ، ثم الباغتة لهم من جميع الأقطار ، امتثالاً لأمر الواحد القهار ، وكان مخرجهما من اللسان الذي هو قلب المخارج الثلاثة لتوسطه وكثرة منافعه في ذلك ، وكانت الياء من وسطه والسين من طرفه ، وكان هذان المخرجان ، مع كونهما وسطاً ، مداراً لأكثر الحروف ، هذا مع ما لهما من الأسرار التي تدق عن تصور الأفكار ، قال تعالى : { يس * } وإن كان المعنى : يا إنسان ، فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها وخالصها وسرها ولبابها ، وإن أريد : يا سيد ، فهو خلاصة من سادهم ، وإن أريد : يا رجل ، فهو خلاصة البشر ، وإن أريد : يا محمد ، فهو خالصة الرجال الذين هم لباب البشر الذين هم سر الأحياء الذين هم عين الموجودات فهو خلاصة الخلاصة وخيار وعين القلب ، وكأن من قال معناه محمد نظر إلى الإتحاد في عدد اسمه صلى الله عليه وسلم بالجمل بالنظر إلى اليمين في المشددة وعدد { قلب } وعدد اسمي الحرفين ، ولا يخفى أن الهمزة في اسم الياء ألف ثانية ، فمبلغ عدده اثنا عشر . ولما تقدم في الملائكة إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد قومه على النفرة عنه ، وأن مرسله تعالى بصير بعباده ، عالم بما يصلحهم ومن يصلح منهم للرسالة وغيرها ، وكان مدار مادة " قرأ " - كما مضى في سورة الحجر - الجمع مع الفرق ، وكان ذلك أعلى مقامات السائرين إلى الله وهو وظيفة القلب ، عبر في القسم بقوله : { والقرآن } ووصفه بصفة القلب العازف فقال : { الحكيم * } أي الجامع من الدلالة على العلم المزين بالعمل والإرشاد إلى العمل المحكم بالعلم . ولما كان قد ثبت في سورة الملائكة أنه سبحانه الملك الأعلى ، لما ثبت له من تمام القدرة وشمول العلم ، وكان من أجلّ ثمرات الملك إرسال الرسل إلى الرعايا بأوامر الملك وردهم عما هم عليه مما دعتهم إليه النفوس ، وقادتهم إليه الشهوات والحظوظ ، إلى ما يفتحه لهم من الكرم ، ويبصرهم به من الحكم ، وكانت الرسالة أحد الأصول الثلاثة التي تنقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان ، وكانت هي المنظور إليها أولاً لأنها السبب في الأصلين الآخرين ، وكانوا قد ردوا رسالته نفوراً واستكباراً ، قال مقدماً لها تقديم السببعلى مسببه على وجه التأكيد البليغ مع ضمير الخطاب الذي لا يحتمل لبساً : { إنك لمن المرسلين * } أي الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم ، فصاروا - بما وهبهم الله القوة النورانية - كالملائكة الذين قدم في السورة الماضية أنهم رسله وفي عدادهم بما تخلقوا به من أوامره ونواهيه وجميع ما يرتضيه . ولما كان الأنبياء عليهم السلام من نوره صلى الله عليه وسلم ، لأنه أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً ، فكانوا في الحقيقة إنما هم ممهدون لشرعه ، وكان سبحانه إنما أرسله ليتمم مكارم الأخلاق ، وكان قد جعل سبحانه من المكارم أن لا يكلم الناس إلا بما تسع عقولهم ، وكانت عدة المرسلين كما في حديث أبي أمامة الباهلي عن أبي ذر رضي الله عنهما عند أحمد في المسند ثلاثمائة وخمسة عشر ، وفيه أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، وهو في الطبراني الكبير عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر عدد الرسل فقط ، وكانت عقول العرب لا تسع بوجه قبل الإيمان أنهم منه ، أقسم سبحانه ظاهراً أنه منهم ورمزاً للأصفياء باطناً إلى أنهم منه ، بجعلهم عدد أسماء حروف اسمه محمد صلى الله عليه وسلم الذي رمز إليه بالحرفين أول السورة ، فكأنه قال : إنك يا ياسين الذي تأويله محمد الذي عدد أسماء حروفه بعددهم لأصلهم ، فصار رمزاً في رمز ، وكنزاً نفيساً داخل كنز ، وسراً من سر ، وبراً إلى بر ، وهو أحلى في منادمة الأحباب من صريح الخطاب ، ثم علق باسم المفعول قوله : { على صراط } أي طريق واسع واضح { مستقيم * } أي أنت من هؤلاء الذين قد ثبت لهم أنهم عليه ، وهو الصراط المستقيم الأكمل المتقدم في الفاتحة لأنه لخواص المنعم عليهم ولقوله تعالى في حق موسى وهارون عليه السلام { وهديناهما الصراط المستقيم } فيكون تنوينه - بما أرشد إليه القسم والتأكيد - للتعظيم ، والمعنى أنهم قد ثبت لهم هذا الوصف العظيم وأنت منهم بما شاركتهم فيه من الأدلة ، فليس لأحد أن يخصك من بينهم بالتكذيب . وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ وسورة فاطر من عظيم ملكه تعالى وتوحده بذلك وانفراده بذلك بالملك والخلق والاختراع ما تنقطع العقول دون تصور أدناه ، ولا تحيط من ذلك إلا بما شاء ، وأشارت من البراهين والآيات إلى ما يرفع الشكوك ويوضح السلوك مما كانت الأفكار قد خمدت عن إدركها ، واستولت عليها الغفلة فكانت قد جمدت عن معهود حراكها ، ذكر سبحانه بنعمة التحريك إلى اعتبارها بثنائه على من اختاره لبيان تلك الآيات ، واصطفاه لإيضاح تلك البينات ، فقال تعالى { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } ثم قال { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهو غافلون } فأشار سبحانه إلى ما تثمر نعمة الإنذار ، ويبعثه التيقظ بالتذكار ؛ ثم ذكر علة من عمي بعد تحريكه وإن كان مسبباً عن الطبع وشر السابقة { لقد حق القول على أكثرهم } الآيات ؛ ثم أشار بعد إلى بعض من عمي عن عظيم تلك البراهين لأول وهلة قد يهتز عند تحريكه لسابق سعادته فقال تعالى : { إنا نحن نحيي الموتى } فكذلك نفعل بهؤلاء إذا شئنا هدايتهم { أو من كان ميتاً فأحييناه } ثم ذكر دأب المعاندين وسبيل المكذبين مع بيان الأمر فقال { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } - الآيات ، واتبع ذلك سبحانه بما أودع في الوجود من الدلائل الواضحة والبراهين فقال { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون } الآية ، ثم قال { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } إلى قوله : { أفلا تشكرون } ثم قال { وآية لهم الّيل نسلخ منه النهار } { وكل في فلك يسبحون } ثم قال { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } إلى قوله : { إلى حين } ثم ذكر إعراضهم مع عظيم هذه البراهين وتكذيبهم وسوء حالهم عند بعثتهم وندمهم وتوبيخهم وشهادة اعضائهم بأعمالهم ، ثم تناسجت الآية جارية على ما يلائم ما تقدم إلى آخر السورة - انتهى . ولما كان كأنه قيل : ما هذا الذي أرسل به ؟ كان كأنه قيل جوباً لمن سأل : هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو { تنزيل } أو حاله كونه تنزيل { العزيز } أي المتصف بجميع صفات الكمال . ولما كانت هذه الصفة للقهر والغلبة ، وكان ذلك لا يكون صفة كمال إلا بالرحمة قال : { الرحيم * } أي الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم بما يقيمهم على المنهاج الذي يرضاه لهم ، فهو الواحد الذي لا مثل له أصلاً لما قهر به من عزته ، وجبر به من رحمته . نزل إليك وهو في جلالة النظم وجزالة القول وحلاوة السبك وقوة التركيب ورصانة الوضع وحكيم المعاني وإحكام المباني في أعلى ذرى الإعجاز ، وجعل إنزاله تدريجاً بحسب المصالح مطابقاً مطابقة أعجزت الخلائق عن أن يأتوا بمثلها ، ثم نظمه على غير ترتيب النزول نظماً أعجز الخلق عن أن يدركوا جميع المراد من بحور معانيه وحكيم مبانيه ، فكله إعجاز على ما له من إطناب وإيجاز . ولما ذكر المرسَل والمرسَل به والمرسِل ؛ ذكر المرسَل له فقال : { لتنذر قوماً } أي ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة { ما أنذر } أي لم ينذر أصلاً { آباؤهم } أي الذين غيروا دين أعظم آبائهم إبراهيم عليه السلام ومن أتى بعدهم عند فترة الرسل . ولما كان عدم الإنذار موجباً لاستيلاء الحظوظ والشهوات على العقل فيحصل عن ذلك الغفلة عن طريق النجاة قال : { فهم } أي بسبب زمان الفترة { غافلون * } أي المعنى على ان " ما " مفعول ثان لتنذر : أي لتنذرهم الذي أنذره آباؤهم الذين كانوا قبل التغيير ، فإن هؤلاء غافلون عن ذلك لطول الزمان وحدوث النسيان .