Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 102-107)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كانت البشرى من الله لا تتخلف ، كان التقدير : فولد له غلام كما قلنا { فلما بلغ } أن يسعى كائناً { معه } أي مع أبيه خاصة ومصاحباً له { السعي } الذي يرضى به الأب ويوطن نفسه عنده على الولد ويثق به ، ولا يتعلق مع مبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ، ولا معنى لذلك في حق إبراهيم عليه السلام ولا بالسعي ، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، ولو أخر عنه لم يفد الاختصاص المفهم لصغر سنه المفيد للإعلام بأن يبلغ في ذلك معه ما لا يبلغه مع غيره لعظيم شفقة الأب ، واستحكام ميل الابن الموجب لطاعته ، واختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم : ثلاث عشرة سنة ، وبعضهم : سبع سنين ، ولذلك قيده بالأب لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه ، وهو لم يبلغ كمال السعي { قال } أي إبراهيم عليه السلام : { يا بني } منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب ، ذاكراً له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصوراً له ، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي ، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض ، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته ، وإعلاماً بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام : { إني أرى في المنام } أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي { أني أذبحك } أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال ، ولو عبر بالماضي لمضى وتم ، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جداً ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال . ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم ، أحب أن يرى ما عنده ، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه ، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده ، ولتكون المشاورة سنة ، فإنه " ما ندم من استشار " سبب عن ذلك قوله : { فانظر } بعين بصيرتك { ماذا } أي ما الذي { ترى } أي في هذه الرؤيا ، فهو اختبار لصبره ، لا مؤامرة له { قال } تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم : { يا أبت } تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوفير { افعل ما تؤمر } أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك ، ولا أتهم الله في قضائه ، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر منه ، وقد تقدم ذلك في البقرة عند { ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] . ولما علم طاعته ، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره ، فاستأنف قوله : { ستجدني } أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه ، لا خلف فيه ، وكان صادق الوعد . ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال : { إن شاء الله } أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال ؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله : { من الصابرين } أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية ، وهو من أعظم ما أريد بقوله { وكان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] . @ ولو بيد الحبيب سقيت سماً لكان السم من يده يطيب @@ وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء نوماً ويقظة ، وصدق عزائمهم وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال ، وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه فعرفه فرماه بسبع حصيات فصار ذلك شريعة في الجمار ، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى . ولما وثق منه ، بادر إلى ما أمر به ، ودل على قرب زمنه من زمن هذا القول بالفاء فقال : { فلما أسلما } أي ألقيا بالفعل على غاية الإخلاص حين المباشرة بجميع قواهما في يد الأمر ، ولم يكن عند أحد منهما شيء من إباء ولا امتناع ولا حديث نفس في شيء من ذلك { وتلّه } أي صرعه إبراهيم عليهما السلام صرعاً جيداً سريعاً مع غاية الرضا منه والمطاوعة من إسماعيل عليه السلام ، ودل على السرعة باللام الواقعة موقع " على " فقال : { للجبين * } أي أحد شقي الجبهة ، وهي هيئة إضجاع ما يذبح ، وهذا من قولهم : تله - إذا صرعه ، وبه سمي التل من التراب ، وتلك فلاناً في يدك أي دفعته سلماً ، والجبين - قال في الصحاح : فوق الصدغ ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها . ولما كان من الواضح أن التقدير جواباً لما عالج ذبحه بعزم أمضى من السنان ، وجنان في ثباته أيما جنان ، فمنعناه من التأثير بقدرتنا ، ورددنا شفرته الماضية عن عنقه اللينة بأيدينا وقوتنا ، عطف عليه قوله : { وناديناه } وفخم هذا النداء بحرف التفسير فقال : { إن يا إبراهيم * } ولما كان محل التوقع الثناء عليه قال : { قد صدقت } أي تصديقاً عظيماً { الرؤيا } في أنك تذبحه ، فإنك قد عالجت ذلك ، وبدلت الوسع فيه ، وفعلت ما رأيته في المنام ، فما انذبح لأنك لم تر أنك ذبحته ، فاكفف عن معالجة الذبح بأزيد من هذا . ولما كان التقدير : فجزيناك على ذلك لإحسانك فوق ما تحب ، وجعلناك إماماً للمتقين ، ووهبناك لسان صدق في الآخرين ، وجعلنا آلك هم المصطفين ، وملأنا منهم الخافقين ، علله بأن ذلك سنته دائماً قديماً وحديثاً فقال ما يأتي . ولما كان صلى الله عليه وسلم في همة الذبح وعزمه ، فكانت تلك الهمة التي تقصر عنها رتبها السها والسماك ، والعزمة التي تتضاءل دون عليّ مكانتها وسني عظمتها عوالي الأفلاك ، لا تسكن عن ثورانها ، ولا تبرد عن غليانها وفورانها ، إلا بأمر شديد ، وقول جازم أكيد ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن همته قد وصلت إلى هذا حده ، وأن امتثال الأمر أيسر من الكف بعد المباشرة بالنهي : { إنا كذلك } أي مثل هذا الجزاء العظيم { نجزي المحسنين * } . ولما كان جزاءه عظيماً جداً ، دل على عظمه بأن علل إكرامه به بقوله معجباً ومعظماً مؤكداً تنبيهاً على أنه خارق للعادة : { إن هذا } أي الأمر والطاعة فيه { لهو البلاؤا } أي الاختبار الذي يحيل ما خولط به كائناً ما كان { المبين * } أي الظاهر في بابه جداً المظهر لرائيه انه بلاء . ولما قدم ما هو الأهم من نهيه عن علاجه ، ومن البشارة بالجزاء ، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين ، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده ، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام ، وهو يعالج إتلافه ، جعل تعالى نفسه المقدس فادياً لأن الفادي من أعطى الفداء ، وهو ما يدفع لفكاك الأسير ، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفاً له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها ، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال : { وفديناه } أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفاً له { بذبح } أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعاً للذبح ، وهو كبش من الجنة ، قيل : إنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه { عظيم * } أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول ديناً إلى آخر الدهر .