Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 88-96)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما أفهم السياق شدة عداوته صلى الله عليه وسلم ، وكان الله تعالى قد أجرى عادته بأن جعل في النجوم أدلة على بعض المسائل الظنية لا سيما البحرانات في أنواع الأسقام ، وكان أهل تلك البلاد وهم الكسدانيون كما تقدم في الأنعام وكما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وكما دلت عليه كتب الفتوحات - من أشد الناس نظراً في النجوم والاستدلال بها على أحوال هذا العالم في بعض ما كان وبعض ما يكون ، وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخلف عن الذهاب معهم إلى المحل الذي يجتمعون فيه للعيد ليكسر الأصنام ويريد إخفاء وقت الكسر عليهم ليتمكن من ذلك ، قال تعالى حاكياً عنه مشيراً إلى ذلك بالتسبب عما مضى : { فنظر نظرة } أي واحدة { في النجوم * } حين طلبوا منه أن يخرج معهم إلى عيدهم لئلا ينكروا تخلفه عنهم موهماً لهم أنه استدل بتلك النظرة على مرض باطني يحصل له ، لأنهم ربما أنكروا كونه مريضاً إذا أخبرهم بغير النظر في النجوم لأن الصحة ظاهرة عليه { فقال } أي عقب هذه النظرة موهماً أنها سببه . ولما كان بدنه صحيحاً فكان بصدد أن يتوقف في خبره ، أكد فقال : { إني سقيم * } فأوهم أن مراده أنه مريض الجسد وأراد أنه مريض القلب يسبب آلهتهم ، مقسم الفكر في أمرهم لأنه يريد أمراً عظيماً وهو كسرها ، ومادة " سقم " بتقاليبها الخمسة : سقم سمق قسم قمس مقس ، تدور على القسم ، فالسقام كسحاب وجبل وقفل : المرض ، أي لأنه يقسم القوة والفكر ، وقال ابن القطاع : سقم : طاولة المرض . وقسمه جزأه ، والدهر القوم : فرقهم ، والقسم - بالكسر : النصيب والقسم أي بالفتح : العطاء ، ولا يجمع ، والرأي والشك والعيب والماء والقدر والخلق والعادة ، ويكسر فيهما ، والتفريق ظاهر في ذلك كله ، أما العطاء فيفرق المال ويقسمه ، والرأي يقسم الفكر , والشك كذلك , والعيب يقسم العرض , والماء في غاية ما يكون من سهولة القسم ، والقدر يفصل صاحبه من غيره ، وكذا الخلق والعادة ، والمقسم كمعظم : المهموم - لتوزع فكره ، والجميل - لأنه يقسم القول في وصفه ، والقسم محركة : اليمين بالله ، وقد أقسم ، أي أزال تقسيم الفكر ، والقسامة : الحسن - لأنه يوزع فكر الناظر , وجونة العطار - كذلك لطيب ريحها , والقسام - كسحاب : شدة الحر - لأنها تزعج الفكر فتقسمه ، أو هو أول وقت الهاجرة أو وقت ذرور الشمس ، وهي حينئذ أحسن ما تكون مرآة - فينقسم الفكر فيها لحسنها إذ ذاك وما يطرأ عليها بعده . والقمس : الغوص - لأن الغائص قسم الماء بغوصه ، والقمس أيضاً اضطراب الولد في البطن لأنه يقسم الفكر ، ويكاد أن يقسم البطن باضطرابه ، والقاموس : معظم البحر - لأن البحر قسم الأرض ، ومعظمه أحق بهذا الاسم ، والقوامس : الدواهي - لتقسيمها الفكر ، وانقمس النجم : غرب ، أي أخذ قسمه من الغروب كما أخذه من الشروق ، أو أزال التقسيم بالسير ، ومقسه في الماء : غطه - فانقسم الماء بغمسه فيه ، والقربة : ملأها ، فصير فيها من الماء ما يسهل قسمه ، وأخذه الماء الذي وضعه فيها تقسيم للماء المأخوذ منه ، ومقس الشيء : كسره ، والماء : جرى - فانقسم وقسم الأرض ، وهو يمقس الشعر كيف شاء ، أي بقوله فيقسمه من باقي الكلام ، والتقميس في الماء : الإكثار من صبه ، فإن ذلك تقسيم له ، وسمق سموقاً : علا وطال فصار بطوله يقبل من القسمة ما لا يقبله ما هو دونه . ولما فهموا عنه ظاهر قوله ، وظنوا فيه ما يظهر من حاله ، ولكنهم لم يسعهم لعظمته فيهم إلا التسليم ، تركوه فقال تعالى مسبباً عن قوله مشيراً إلى استبعادهم مرضه بصيغة التفعل : { فتولوا } أي عالجوا أنفسهم وكلفوها أن انصرفوا { عنه } إلى محل اجتماعهم وإقامة عيدهم وأكد المعنى ونص عليه بقوله : { مدبرين * } أي إلى معبدهم فخلا له الوقت من رقيب { فراغ } أي ذهب في خفية برشاقة وخفة ، ونشاط وهمة ، قال البيضاوي : وأصله الميل بحيلة { إلى آلهتهم } أي أصنامهم التي زعموها آلهة ، وقد وضعوا عندها طعاماً ، فخاطبها مخاطبة من يعقل لجعلهم إياها بذلك في عداد من يعقل { فقال } منكراً عليها متهكماً بها ظاهراً وموبخاً لقومه حقيقة : { ألا تأكلون * } ثم زاد في إظهار الحق والاستهزاء بانحطاطها عن رتبة عابديها فقال : { ما } أي أيّ شيء حصل { لكم } في أنكم { لا تنطقون * } . ولما أخبر تعالى أنه أظهر ما يعرفه باطناً من الحجة فقال : { فراغ } أي سبب عن إقامته الحجة أنه أقبل مستعلياً { عليهم } بغاية النشاط والخفة والرشاقة يضربهم { ضربا باليمين * } أي بغاية القوة ، وجعل السياق للمصدر إشارة إلى قوة الهمة بحيث صار كله ضرباً . ولما تسبب عن ذلك أنهم لما علموا بكسرها ظنوا فيه لما كانوا يسمعونه منه من ذمها وحلفه بأنه ليكيدنها فأتوه ، أخبر عن ذلك بقوله مسبباً : { فأقبلوا } ودل على أنه من مكان بعيد بقوله : { إليه يزفون * } أي يسرعون ، وقراءة حمزة بالبناء للمفعول أدل على شدة الإسراع لدلاتها على أنهم جاؤوا على حالة كان حاملاً يحملهم فيها على الإسراع وقاهراً يقهرهم عليه من شدة ما في نفوسهم من الوجد . ولما كان من المعلوم أنهم كلموه في ذلك فطال كلامهم ، وكان تشوف النفس إلى جوابه أكثر ، استأنف الخبر عنه في قوله : { قال } غير هائب لهم ولا مكترث بهم لرؤيته لهم فانين منكراً عليهم : { أتعبدون } وندبهم بالمضارع إلى التوبة والرجوع إلى الله ، وعبر بأداة ما لا يعقل كما هو الحق فقال : { ما تنحتون * } أي إن كانت العبادة تحق لأحد غير الله فهم أحق أن يعبدوكم لأنكم صنعتموهم ولم يصنعوكم . ولما كان المتفرد بالنعمة وهو المستحق للعبادة ، وكان الإيجاد من أعظم النعم ، وكان قد بين أنهم إنما عبدوها لأجل عملهم الذي عملوه فيها فصيرها إلى ما صارت إليه من الشكل ، قال تعالى مبيناً أنه هو وحده خالقهم وخالق أعمالهم التي ما عبدوا في الحقيقة إلا هي ، وأنه لا مدخل لمنحوتاتهم في الخلق فلا مدخل لها في العبادة : { والله } أي والحال أن الملك الأعظم الذي لا كفوء له { خلقكم } أي أوجدكم على هذه الأشكال { وما تعملون * } أي وخلق عملكم ومعمولكم ، فهو المتفرد بجميع الخلق من الذوات والمعاني ، ومعلوم أنه لا يعبد إلا من كان كذلك لأنه لا يجوز لعاقل أن يشكر على النعمة إلا ربها .