Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 73-75)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ذكر أحوال الكافرين ، أتبعه أحوال أضدادهم فقال : { وسيق } وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق ، فشتان ما بين السوقين ! هذا سوق إكرام ، وذاك سوق إهانة وانتقام ، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع ، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم ، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم ، فسبحان من أنزله معجز المباني ، متمكن المعاني ، عذب الموارد والمثاني . ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم ، دل على ذلك بقوله : { الذين اتقوا } أي لا جميع المؤمنين { ربهم } أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة ، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة ، فقيل : ما أطول هذا اليوم ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة " وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تجتمعون يوم القيامة " - فذكر الحديث حتى قال : " قالوا : فأين المؤمنون يومئذ ؟ قال : توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار " ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين { إلى الجنة زمراً } أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة ، وأهل الصوم كذلك - إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه . ولما ذكر السوق ، ذكر غايته بقوله : { حتى إذا جاءوها } ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به ، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال : { وفتحت } أي والحال أنها قد فتحت { أبوابها } أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم من رائحتها ، ويرون من زهرتها وبهجتها ، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً . ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار ، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار ، فقال عطفاً على جواب " إذا " بما تقديره : تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم : { وقال لهم خزنتها } أي حين الوصول : { سلام عليكم } تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها . ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا : { طبتم } أي صلحتم لسكناها ، فلا تحول لكم عنها أصلاً ، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب ، فلا يدخلها إلا مناسب لها ، قولهم : { فادخلوها } فأنتج ذلك { خالدين * } ولعل فائدة الحذف لجواب " إذا " أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف ، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب ، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد . ولما كان التقدير : فدخلوها ، عطف عليه قوله : { وقالوا } أي جميع الداخلين : { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال ، وعدلوا إلى الاسم الأعظم حثاً لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا : { لله } أي الملك الأعظم { الذي صدقنا وعده } في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة { وأورثنا } كما وعدنا { الأرض } التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا { نتبوأ } أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها ، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير : { من الجنة } أي كلها { حيث نشاء } لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحداً في مكان أصلاً ، ولا يشتهي إلا مكانه . ولما كانت بهذا الوصف الجليل ، تسبب عنه مدحها بقوله : { فنعم } أجرنا - هكذا كان الأصل ، ولكنه قال : { أجر العاملين * } ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال . ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات ، وما وصلوا إليه من المقامات ، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات ، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره : { وترى } معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى { وإن القوة لله جميعاً } [ البقرة : 165 ] { الملائكة } القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق { حافين } أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله . من الخف وهو الجمع ، والحفة وهو جماعة الناس ، والأعداد الكثيرة ، وهو جمع حاف ، وهو الواحد من الجماعة المحدقة . ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه ، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى ، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال : { من حول العرش } أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه ، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة . محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم ، فإدخال { من } يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله ، لا يملؤون ما حوله ، حال كونهم { يسبحون بحمد } وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال : { ربهم } أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره ، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم ، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم ، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه ، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام . ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات ، ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } الآية فقال : { وقضى بينهم } أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات . ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً ، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام ، قال : { بالحق } بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع ، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا ، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا ، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات ، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات ، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات : { وقيل } أي من كل قائل : آخر الأمور كلها { الحمد } أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال : { لله } ذي الجلال والإكرام ، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين . ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر ، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم : { رب العالمين * } أي الذي ابتدأهم ، أولاً من العدم وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير ، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير ، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير ، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه ، فتحقق أنه تنزيله ، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام ، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال ، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله ، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول ، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني ، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه ، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين .