Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 1-2)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من التوحيد ، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت " النساء " لذلك ، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد { بسم الله } الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور { الرحمن } الذي جعل الأرحام رحمة عامة { الرحيم * } الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة . لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق ، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك ، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس ، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل - كما تبين في علم الأخلاق - أربعاً : العلم والشجاعة والعدل والعفة ، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام ، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها ، وهما العلم والشجاعة - كما أشير إلى ذلك في غير آية { نزل عليك الكتاب بالحق } [ آل عمران : 3 ] ، { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [ آل عمران : 7 ] ، { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } [ آل عمران : 18 ] , { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 139 ] , { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } [ آل عمران : 146 ] { فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] , { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } [ آل عمران : 169 ] ، { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } [ آل عمران : 172 ] ، { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا } [ آل عمران : 200 ] ، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله ، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جوراً عن سواء السبيل وضلالاً عن أقوم الدليل ؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين ، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة ، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان ، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين ، وما أحسن ابتداءها بعموم : { يا أيها الناس } بعد اختتام تلك بخصوص " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا " الآية . ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف ، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها ، فكانت في غاية المشقة على النفوس ، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال : { اتقوا ربكم } أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد ، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية ، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس . ابتدأ هذه ببيان كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس التقوى من العفة والعدل فقال : { الذي } جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها ، وذلك أنه { خلقكم من نفس واحدة } هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث ، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين : هذه وهي رابعة النصف الأول ، والحج وهي رابعة النصف الثاني ، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه ، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة ، ما خلق الوجود إلا لأجله ، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه ، وربت ذلك على الترتيب الأحكم ، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية ، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى ، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام ، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ؛ بين في هذه السورة بقوله - عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال : كيف كان ذلك ؟ - إنشاء تلك النفس ، أو تكون الجملة حالية - { وخلق منها زوجها } أي مثله في ذلك أيضاً كمثل حواء : أمه , فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى , فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه : آدم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام ، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام - المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه - حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها ، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى ، بشر منهما ، بشر من ذكر فقط ، بشر من أنثى فقط ؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق ، وعبر عن غيرها بالجعل ، لخلو السياق عن هذا الغرض ، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام { كذلك الله يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام { يخلق ما يشاء } [ آل عمران : 47 ] ، وأيضاً فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى ، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء - لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها - أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع - فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم ! . ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية ، ولما كان الكل - المشار إليه بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره : وبث لكم منه إليها : { وبث منهما } أي فرق ونشر من التوالد ، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدماً وهو الذي أوجده من العدم نكر لإفهام ذلك قوله : { رجالاً كثيراً ونساءً } من نفس واحدة ؛ كان إحسان كل من الناس إلى كل منهم من صلة الرحم ، ووصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة إلى أن لهم عليهن درجة ، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار . ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيراً إلى أنه جدير بذلك منهم لكونه ربهم ، عطف على ذلك الأمر أمراً آخر مشيراً إلى أنه يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال : { واتقوا الله } أي عموماً لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصاً لما له إليكم من الإحسان والتربية ، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سبباً لتربيتكم . ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال : { الذين تساءلون } أي يسأل بعضكم بعضاً { به } فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف ، ثم زاد المقصود إيضاحاً فقال : { والأرحام } أي واتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها ، فإنكم تقولون : ناشدتك بالله والرحم ! وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه ، لأنه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة . فقال مؤكداً لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال من يشك في أنه بعين الله سبحانه : { إن الله } أي المحيط علماً وقدرة { كان عليكم } وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد { رقيباً * } وخفض حمزة " الأرحام " المقسم بها تعظيماً لها وتأكيداً للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها - كما أقسم بالنجم والتين وغيرهما ، والقراءاتان مؤذنتان بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم ، حيث قرنها باسمه سواء كان عطفاً كما شرحته آية { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] ، وغيرها - أو كان قسماً ، واتفق المسلمون على أن صلى الرحم واجبة ، وأحقهم بالصلة الولد ، وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال . ولما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم - كما فعل نحو ذلك في غير آية ، وكان قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام ، ثم ذكر في قوله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } [ آل عمران : 185 ] ، أن الموت مشرع لا بد لكل نفس من وروده ؛ علم أنه له بد من وجود الأيتام في كل وقت ، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال : { وآتوا اليتامى } أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم ، وأصل اليتيم الانفراد { أموالهم } أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إياها بعد البلوغ - كما يأتي ، أو يكون الإيتاء حقيقة واليتم باعتبار ما كان . أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد ، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله بخصوصها في صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب ! لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة ، لأنه لا ناصر لهم ، وقد يكونون ذوي رحم . ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال : { ولا تتبدلوا } أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية { الخبيث } أي من الخباثة التي لا أخبث منها ، لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان ، فتهدم - جميع أمره { بالطيب } أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض ، المعلية لقدر الإنسان ؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص ، فقال معبراً بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب ، فكيف إذا كان حراماً ومن مال ضعيف مع الغنى عنه : { ولا تأكلوا أموالهم } أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان ، مجموعة { إلى أموالكم } شرهاً وحرصاً وحباً في الزيادة من الدنيا التي علمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان في آل عمران ، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهاً على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها فوقع في النهي ، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها ؛ ثم علل ذلك بقوله : { إنه } أي الأول { كان حوباً } أي إثماً وهلاكاً { كبيراً * } .