Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 36-39)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا بنتيجة التقوى : العدل والفضل ، والترغيب في نواله ، والترهيب من نكاله - إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى ، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر ، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب ، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها ، فكان التقدير حتماً : فاتقوه ؛ عطف عليه ، أو على نحو { وسئلوا الله من فضله } [ النساء : 32 ] أو على { اتقوا ربكم } الخُلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة ، وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق ، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق فقال : { واعبدوا الله } أي أطيعوا - الذي له الكمال كله فلا يشبهه شيء - طاعة محضة من غير شائبة خلاف مع الذل والانكسار ، لأن ملاك ذلك كله التعبد بامتثال الأوامر واجتناب الزواجر . ولما كان سبحانه غنياً لم يقبل إلا الخالص ، فقال مؤكداً لما أفهمه ما قبله : { ولا تشركوا به شيئاً } . ولما أمر للواحد الحقيقي بما ينبغي له ، وكان لذلك درجتان : أولاهما الإيمان ، وأعلاهما الإحسان ، فصار المأمور بذلك مخلصاً في عبادته ؛ أمره بالإحسان في خلافته ، وبدأ بأولى الناس بذلك ، وهو من جعله سبباً لإيجاده فقال - مشيراً إلى أنه لا يرضى له من ذلك إلا درجة الإحسان ، وإلى أن من أخلص له أغناه عن كل ما سواه ، فلا يزال منعماً على من عداه - : { وبالوالدين } أي وأحسنوا بهما { إحساناً } وكفى دلالة على تعظيم أمرهما جعل برهما قرين الأمر بتوحيده سبحانه . ولما كان مبنى السورة على الصلة لا سيما لذي الرحم ، قال مفصلاً لما ذكر أول السورة تأكيداً له : { وبذي القربى } لتأكد حقهم بمزيد قربهم ، ولاقتضاء هذه السورة مزيد الحث على التعاطف أعاد الجار ، ثم أتبع ذلك من تجب مراعاته لله ، أو لمعنى تفسد بالإخلال به ذات البين ، وبدأ بما لله لأنه إذا صح تبعه غيره فقال : { واليتامى والمساكين } أي وإن لم تكن رحمهم معروفة ، وخصهم لضعفهم وقدم اليتيم لأنه أضعف ، لأنه لصغره يضعف عن دفع حاجته ورفعها إلى غيره { والجار ذي القربى } أي لأن له حقين { والجار الجنب } أي الذي لا قرابة له ، للبلوى بعشرته خوفاً من بالغ مضرته " اللهم ! إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة ، فإن جار البادية يتحول " { والصاحب الجنب } أي الملاصق المخالط في أمر من الأمور الموجبة لامتداد العشرة { وابن السبيل } أي المسافر لغربته وقلة ناصره ووحشته { وما ملكت أيمانكم } أي من العبيد والإماء كذلك ، فإن الإحسان إليهم طاعة عظيمة " آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم " . ولما ذكر الإحسان الذي عماده التواضع والكرم ، ختم الآية ترغيباً فيه وتحذيراً من منعه معللاً للأمر به بقوله : { إن الله } أي بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى { لا يحب } أي لا يفعل فعل المحب مع { من كان مختالاً } أي متكبراً معجباً بنفسه متزيناً بحليته مرائياً بما آتاه الله تعالى من فضله على وجه العظم واحتقار الغير ، يأنف من أن ينسب إليه أقاربه الفقراء ، ويقذر جيرانه إذا كانوا ضعفاء ، فلا يحسن إليهم لئلا يلمّوا به فيعيَّر بهم . ولما كان المختال ربما أحسن رياء ، قال معلماً أنه لا يقبل إلا الخالص : { فخوراً * } مبالغاً في التمدح بالخصال ، يأنف من عشرة الفقراء , وفي ذلك أتم ترهيب من الخلق المانع من الإحسان ، وهو الاختيال على عباد الله والافتخار عليهم ازدراء بهم ، فإنه لا مقتضى لذلك لأن الكل من نفس واحدة ، والفضل نعمة منه سبحانه ، يجب شكرها بالتواضع لتدوم ، ويحذر كفرها بالفخار خوفاً من أن تزول . ولما كان الاختيال والفخر على الفرح بالأعراض الفانية والركون إليها والاعتماد عليها ، فكانا حاملين على البخل خوفاً من زوالها ؛ قال واصفاً لهم بجملة من الأخلاق الرديئة الجلية ، ذلك منشأها : { الذين يبخلون } أي يوقعون البخل بما حملهم من المتاع الفاني على الفخار ، وقصره ليعم كتم العلم ونحوه ؛ ثم تلا ذلك بأسوأ منه فقال { ويأمرون الناس بالبخل } مقتاً للسخاء ، وفي التعبير بما هو من النوس إشارة إلى أنهم لا يعلقون أطماعهم بذلك إلا بذوي الهمم السافلة والرتب القاصرة ، ويحتمل أن يكون الأمر كناية عن حملهم غيرهم على البخل بما يرى من اختيالهم وافتخارهم عليهم ؛ ثم أتبع ذلك أخبث منه ، وهو الشح بالكلام الذي لا يخشى نقصه وجحد النعمة وإظهار الافتقار فقال : { ويكتمون ما أتاهم الله } أي الذي له الجلال والإكرام { من فضله } أي من العلم جاحدين أن يكون لهم شيء يجودون به . قال الأصبهاني : ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر ، مثل أن يظهر الشكاية لله سبحانه وتعالى ولا يرضى بالقضاء . ثم عطف على { إن الله لا يحب } ملتفتاً إلى مقام التكلم ، دلالة على تناهي الغضب وتعييناً للمتوعد ، مصرحاً بمظهر العظمة الذي دل عليه هناك بالاسم الأعظم قوله : { وأعتدنا } أي أحضرنا وهيأنا ، وكان الأصل : لهم ، ولكنه قال - تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ، وإعلاماً بأن ذلك حامل على الكفر - : { للكافرين } أي بفعل هذه الخصال كفراً حقيقياً بما أوصلهم إليه لزوم الأخلاق الدنية ، أو مجازياً بكتمان النعمة { عذاباً مهيناً * } أي بما اغتروا بالمال الحامل على الفخر والكبر والاختيال " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر " . ولما ذم المقترين ، أتبعه ذم المسرفين المبذرين فقال - عطفاً على { الكافرين } أو { الذين يبخلون } معرفاً أن الذين لا يحسنون على الوجه المأمور به فيمن تقدم الأمر بالإحسان إليهم فرقتان : فرقة يمنعون النفقة أصلاً ، وفرقة يمنعون وصفها ويفعلونها رياء ، فيعدمون بذلك روحها - : { والذين ينفقون } وأشار إلى عظيم رغبتهم في نفقتهم بقوله : { أموالهم } ودل على خسة مقاصدهم وسفول هممهم بقوله : { رئاء الناس } أي لقصور نظرهم وتقيده بالمحسوسات كالبهائم التي لا تدرك إلا الجزيئات المشاهدات . ولما ذكر إخراج المال على وجه لا يرضاه ذو عقل ، ذكر الحامل عليه مشيراً إلى أنهم حقروا أنفسهم بما عظموها به ، وذلك أنهم تعبدوا للعبيد ، وتكبروا على خالقهم العزيز المجيد فقال : { ولا يؤمنون بالله } وهو الملك الأعظم . ولما كان المأمور بالإحسان إليهم هنا من الوالدين ومن ذكر معهم أخص ممن أشير إليهم في البقرة ، أكد بزيادة النافي فقال : { ولا باليوم الآخر } الحامل على كل خير ، والنازع عن كل شر . ولما كان التقدير : فكان الشيطان قرينهم ، لكفره بإعجابه وكبره ؛ عطف عليه قوله : { ومن يكن الشيطان } أي وهو عدوه البعيد من كل خير ، المحترق بكل ضير { له قريناً } فإنه يحمله على كل شر ، ويبعده عن كل خير ؛ وإلى ذلك أشار بقوله : { فساء قريناً * } ولما كان التقدير : فماذا لهم في الكفر والإنفاق رياء لمن لا ضر ولا نفع بيده ؟ عطف عليه قوله تعنيفاً لهم وإنكاراً عليهم : { وماذا عليهم } أي من حقير الأشياء وجليلها { لو آمنوا بالله } أي الذي له كل كمال ، وبيده كل شيء { واليوم الآخر } الحامل على كل صلاح { وأنفقوا } . ولما وصفهم بإنفاق جميع أموالهم للعدو الحقير أشار إلى شحهم فيما هو لله العلي الكبير بشيء يسير يحصل لهم به خير كثير ، فقال : { مما رزقهم الله } الذي له الغنى المطلق والجود الباهر ، ولما كان التقدير : فقد كان الله عليهم لما بذروا أموالهم قديراً ، عطف عليه قوله : { وكان الله } أي المحيط بصفات الكمال { بهم } أي في كلتا الحالتين { عليماً * } أي بليغ العلم ، وللإعلام بعظمة العلم بهم قدم الجار المفيد للاختصاص في غير هذا الموضع .